صمتُ المثقف

   كلما تَعَقَّدت التجربةُ الحياتيةُ و الفكريةُ طالَ الصمتُ و قلَّ الكلام ؛ اذ يصبحُ اختيارُ الكلامِ والمعنى أهمُّ من الكلامِ ذاتِه ، قيمةُ الكلامِ تصبح الهاجسَ المُسَيطِر على عقلِ الانسان ، خاصةً الانسان المثقف - المثقفُ الحقيقيُّ الأًصيل ، المهمومُ بقضايا الناس ، لا المثقف السطحي الانتهازي – إذ ما فائدةُ آلافِ الكتبِ ، بملايين الكلمات ، اذا لم تحرك ساكناً في ماءِ الحياةِ الانسانيةِ الراكِد ، بل الآسِنْ المُتَعَفِّن ...

   ينطبقُ هذا الميلُ للصمتِ ، او قـلَّةِ الكلام ، على تفاعلِ هذا المثقف مع السياسةِ ، تماماً ، كما ينطبقُ على علاقاتِ المثقفِ الانسانية .. تصبحُ كلمةُ " أُحِبُّكِ / أُحِبُّكَ "- مثلا - كلمة مبتذلة ، لا تُسْمِنُ و لا تُغْـنِي مِنْ جوعِ الحُبّ ، تماماً ، كما تُصْبِحُ أعمقُ التحليلاتِ السياسيةِ و الفكرية ، فاقدةَ القُـدْرَة على اثارةِ الدَّهشة و الاعجاب ... ؛

   فكلُّ فِكرَة ، كلُّ كِتاب ، بلْ كُلُّ كلمة، يجب أنْ تَخْضَعَ للاسْتِجْواب ، يجب أن يتم تـشْرِيحها ، ليفهم الانسانُ " أصلَها و فَصْلَها " ، ليفهم مبدأَها و تطورها و مآلاتها ، فالكلامُ ليسَ ثرثرةً لـتَـزْجِيةِ الوَقْت ،ان الكلامَ و الافكارَ - وحتى الاشارات و الرموز - تجسيدٌ للظروفِ الاجتماعيةِ و السياسيةِ و الاقتصادية ، الكلامُ نتيجةٌ للجدلِ بين الفردِ و الجماعة ، بين الافرادِ أنفسِهِم ،  بينَ مكوناتِ الجماعةِ ذاتِها ، الكلامُ قد يكون صدقاً، كذباً ، براءةً ، تهْمَةً ، الكلامُ قد يكون قاتلا ، أو شافياً ... لذا لا بد من الحرص عند الكلام ، و التدقيق عند السماع .

   لذا يشقى هذا المثقف اذا ما وصل الى هذه المرحلة ؛

فاذا مال القلبُ و ذاب ، تغلي الكلماتُ في مرجل العقلِ و النفسِ و القلب ، فيتساءل المثقفُ المبتلى بالتدقيق عن مشاعره : أهي حبٌ ، أم اعجابٌ ، أم ميولٌ جسدية ؟ و اذا تيقن أن هذا حب ، و زاد غليان المرجل بأفكاره ، و بدأت الكلمات تتصادم و تتفاعل ، اذا ما اختـنقَ بالكلامِ المكتوم ، عزَّ عليه ان يقولَ للحبيب : احبك ! اذ كيفَ يصفُ بكلمةٍ مثل هذا الغليان و الانشغال و الميول ؟ قد تصفُ كلمةٌ ما حالةً معـقَّـدَة ، كما فعل " ادوارد سعيد " حينَ صكَّ مصطلح "الاستشراق " ليصف وضعاً معينا ، حالةً مـعـقـدة ، سادت الغربَ في تفاعلِه مع الشرق . لكن مصطلح الاستشراق ، رغم قدرتِه الوصفيةِ و التحليلية ، ليس مصطلحاً عابراً لحدود الزمان و المكان ، ليس مصطلحاً خالداً ، ليس جوابا نهائيا ، لا أجوبةَ نهائيةً في المُعْـتَرَك الانساني ، لأن نهايةَ الافكارِ و الكلمات ، هي نهايةُ الحياةِ الانسانية ؛ فطالما نحيا ، طالما نتحارب ، نتصارع ، نحبُّ ، و نَكْرَه ... ستظل الافكارُ و الكلماتُ تـتـدفق ، تـتطور ، تـتبَدَّل .. سيظل الحبيبُ مختـنقاً بكلماتٍ تضطَّرِبُ في قلبِه و عقلِه و نفسِه ، سيظل مختـنقاً الى أن يُفْرِجَ – مضْطَراً – عن كلمةِ احبك ، أو ، سيظل مختـنقا ، حتى ينحتَ كلمةً جديدةً تصفُ شعورَه و حالتَه ، أو ، سيظل مختـنقاً حتى يبدأ بخوضِ تجربةٍ فكريةٍ عاطفيةٍ لغوية ، تقاربُ الحالةَ التي يحياها و لا تمسكُ بها ، تصفُها و لا تُـشَـرِّحُها ، تتأمَّلُها و لا تغوصُ في عمقِها ...

هذا عن المثقف المدقق و الحب ، فماذا عن المثقف المدقق و السياسة ؟

     اذا اشتعل المثقفُ غضباً ، من القتلِ العَبَثِي ، و التناحر المَصْلَحِي ، و البهتانِ السياسي ، اذا اشتعل غضبا من "القرفِ" اليومي ، فانه قد يختنقُ ايضاً بالأفكار، و بالكلمات ؛ سيتساءل : ما الذي لم يقالُ في بابِ السياسة ؟

أيُّ كلماتِ الفخرِ و أيُّ كلماتِ الهجاءِ لم تستَخدَم حتى الامتهان و الابتذال ؟

 أي أفكارٍ سياسيةٍ لم تُطْرَح حتى السأم ؟ ...

 صحيحٌ تماماً أن البابً مشرعٌ لاجتهاداتٍ جديدةٍ في الخطابِ ، و في الافكار السياسية ، و لكن في لحظاتٍ تاريخيةٍ معينة ، قد تفقد الكثيرُ من الافكارِ و النظرياتِ قيمتَها ، قد تصبحُ معظمُ الخطاباتِ م اعجاأم

بالية ... في مثلِ هذه اللحظات ،لا بد من لغةٍ و خطابٍ و افكارٍ جديدة . و لحظتُـنا التاريخيةُ اليومَ هي احدى هذه اللحظات ؛ تتداعى اليومُ دولٌ و أنظمةٌ سياسيةٌ و اقتصادية ، و يبحث العالمُ عن بَدِيل .. و بالتوازي مع الانهيارِ و البناء ، تنهارُ لغةٌ و تبنى لغةٌ جديدة.

   المثقفُ الاصيلُ الجادُّ ، في عالمِ اليوم ، مكتوبٌ عليه الترَدُّدُ و الحِيرَةُ الى درجةِ العجز أحيانا ، قد تُسْعـفُه خبراته و مخزوناتُه الفكرية أحيانا، و لكنها كثيراً ما تخذله ... في هذه اللحظات يقفُ عاجزاً ، تماماً كعاشقٍ ملهوفٍ أخرس العشقُ لسانَه ، تماما كعاشقٍ ولهانٍ حيران ، قلبُهُ مشتعلٌ يغلي ، و لسانُه مربوطٌ معـقـود ...

   هذه حالةٌ مرهِقَةٌ، مُقْلِقَة ،  حالةٌ في غايةِ القسوة ... ظاهرياً ، قد يبدو المُبْتَـلى بها ، هادئاً ، متزناً ، مدركاً لخفايا الحياة ، عارفاً بأهدافِه فيها ...

و قد يبدو ، ظاهرياً ، متعجرِفاً متكبراً ...

و لكنه في حقيقته ، ينطوي على بركان ؛ لا يُدْرِكُ من الحقائقِ الا اقلَّها ، و أهمها :

 أنه هشٌ ، ضعيفٌ ، حساسٌ ، حائر ، جاهل  ...

إنه في حقيقته ، متواضِع ، مهمومٌ بالناسِ أكثر من الذين لا يفارقون مجالس الناس ، و أكثر من الذين يصرخون ليلاً و نهاراً ، مُدَّعِينَ أنهم يقاتلون من أجل مصلحة الناس ...