بسم الله الرحمن الرحيم

   كجزء من مأساة الانسان المعاصر ، يعيش الانسان العربي حالة من القلق و التوتر و الترقب ، ان مفارقة هذا الزمان أنه أكثر العصور تقدما في المجال العلمي -الامر الذي اتاح حياة سهلة نسبة الى العصور السالفة - لكنه غمر روح الانسان بالعتمة و الجفاف ، و طبع نفسيته بطابع التوتر و القلق و الكآبة .

   و السبب الرئيسي أيها السادة ، هو النظام الرأسمالي الجائر ، الذي رفع أقواما الى عنان سماء المادة ، و وضع آخرين على اسفلت الحياة الاسود الحارق فحرق جسده و آلم روحه و شوه أقطار نفسه .

    حدث هذا في البلدان الرأسمالية الغربية كلها ، ثم امتدت القوى العسكرية لرأس المال الى معظم اقطار الأرض تنهب ثرواتها و تستعبد الملايين من سكانها ، و بعدما خرج الاستعمار ترك وراءه طبقة مرتبطة به ارتباطا وثيقا ، فظل النهب و الفساد موجودَين ، فلم يشعر أهل البلاد أن الاستعمار قد خرج - و هو لم يخرج فعلا – فقد ظلت سياسات معظم البلاد التي خضعت للاستعمار ، ظلت سياسات تخدم هذا الاستعمار في المجالين السياسي و الاقتصادي، و لما وقف الوطنيون القوميون في وجه القوى المحلية الوكيلة للمشروع الرأسمالي استطاعوا في اقطار قليلة أن يُعَدِلوا الميزانَ قليلاً لصالح اهل البلاد ، و كان أهم مشروع مضاد للهيمنة الغربية هو المشروع الناصري ؛ لم يكن عبدالناصر رمزاً مصرياً فقط ،  و لا كان رمزاًعربيا فقط ، لقد كان عبدالناصر في ذلك الوقت ، أهم رمز تحرري في ما عُرِفَ بالعالم الثالث :

 لقد أفشل عبدالناصر حلف بغداد ، الحلف الذي كان عبارة عن حشد للقوى الرجعية العربية و الاسلامية في وجه المد الوطني و القومي ، و قد سقط سقوطا مدويا ،

 و أسس عبدالناصر ،مع آخرين،  منظومة عدم الانحياز ، و التي ناضلت في سبيل استقلال البلاد التي ابتُلِيَت بالاستعمار .

كما و وقف عبدالناصر مع الثورة الجزائرية ، و مع غيرها من التحركات التي حملت هَم المُستضعفين في الارض .

   و على المستوى الداخلي أمم عبدالناصر بنوكا و شركات كثيرة ،

 و بنى السد العالي ،

و وزع اراضي الاقطاعيين على الفلاحين ،

و جعل التعليم مجانيا ،

أسس لصناعات ثقيلة ... الخ .

   هذا يعني أن عبدالناصر قاد مشروعا عربيا و دوليا متكاملاً و شاملاً ، مشروعٌ ينشد الاستقلال السياسي و الاقتصادي ، و يهدف الى التنمية و التوزيع العادل للثورة ، و هذا ما لم يرضى عنه الاستعمار و أذنابه ؛ بل قل : هذا ما أرقَ الاستعمار و أذنابه ، فكانت المؤامرات داخليا و خارجيا على المشروع الوطني / القومي الناصري ، وقد حاولت هذه العصابة الامبريالية اغتيال عبدالناصر ماديا و معنويا ، و لنتذكر أن اميركا كانت في أوج قوتها في تلك الفترة،فقد ورثت تركة الاستعمار القديم ( بريطانيا و فرنسا بشكل خاص ) و لنتذكر أن اسرائيل أيضا كانت تتغذى لتصبح خنجرا  في قلب العالم العربي ، خنجرا يشطر جناحي الوطن العربي ، و يمنعه من التقدم و الازدهار ، و لنتذكر أن "مشايخ" ،و "امراء"، و "ملوك" الخليج العربي كانوا يقطفون ثمار تدفق النفط تحت أرجلهم التي سارت على خطى الامبريالية الرأسمالية ، و لنتذكر أن بقايا النظام القديم ،و التي أفقدها عبدالناصر كثيراً من امتيازاتها ، كانت تنتظر الفرصة للانقضاض عليه ، بل انها دخلت و اخترقت نظامه نفسه ، و ذلك لأن عبدالناصر ظن أنه يستطيع التقريب بين الطبقات فسمح لهم بالحركة الى حد ما ، فتغول هؤلاء ، و تعاونوا مع طبقة فاسدة نمت في قلب المؤسسات المدنية و العسكرية في مصر ، وقد أدرك عبدالناصر -متأخرا نسبياً- خطرها ، و أعلن عن خطط طموحة تهدف الى القضاء على هذه الجيوب الرجعية الفاسدة ، و تهدف الى مساهمة المواطن سياسيا و اقتصاديا ، و لكن خططه لم تتم

   و قد استغلت الرجعيات العربية (التي نمت "اقطاعياتها الصحراوية" نموا ماديا كبيرا بفضل النفط و بفضل الدعم الغربي) استغلت كل ما سبق من عوامل ، مضافاً اليها كارثة 1967 ، و أطلقت مارد الاسلام السياسي الذي غذته على مدار سنوات ، و قدمته بديلا للمشروع الوحدوي القومي التقدمي . و كانت السعودية تحديدا قد أسست بدائلاً اسلامية في ميادين مختلفة ( روابط سياسية ، و علمية ، و مدارس ، و كتب ، و بنوك ... الخ ) فسمنت بذلك الغول الذي لبس لبوس الاسلام ، و كانت هزيمة 67 فرصة هذا الغول ليلتهم المشروع النهضوي الأكثر تأثيرا و طموحا في العالم العربي ، بل وفي العالم أجمع : المشروع الناصري .

   و كان أهم تيار سياسي في هذه الترسانة الرجعية السلفية جماعة الاخوان المسلمين . فقد كان الاخوان قد حاولوا بلا فائدة أن يضعوا أيديهم على مفاصل النظام المصري بعد القضاء على الملكية ، و تعاونوا في سبيل ذلك مع قوى أجنبية مختلفة ( و هذا مثبت ، و بأقلام متعددة منها اقلامٌ اخوانية )  تعاونوا مع الاجنبي  ( الكافر) و فشلوا ، و فر كثير منهم الى الخليج ، و الى الغرب ، و هناك أصبحوا قوة أساسية في الجهد الامبريالي الرجعي للقضاء على التيار التقدمي .

   فلنعد قليلا ، بعد الهزيمة الكبيرة 1967 ، أدخل عبدالناصر تغييرات مهمة في المؤسسة العسكرية ، و أطلق حرب الاستنزاف ، و وضع الأسس لرد الاعتبار للأمة العربية ، و سارت الامور على ما يرام ... لكن قدر الله جاء ، توفي الزعيم الكبير ، و استلم الرجعي الكبير انور السادات مكانه ، و أعاد الى الواجهة "شلة" الفاسدين و اللصوص و أذناب الاستعمار ، و تعاون مع هؤلاء ، و مع الطبقة التي أسست لنفسها ايام عبدالناصر ، و شن هجمة على الشيوعيين و الناصريين ، و أطلق الاخوان من السجون ... هكذا التقط الاستعمار أنفاسه لأول مرة منذ عقدين من الزمن ، فكابوس الناصرية انتهى ، و الاتحاد السوفيتي بدأت سياساته بالتغير ، و القوى الرجعية في المنطقة العربية انتعشت انتعاشا كبيرا ، و ها هي قوى تدعي حمل لواء الاسلام تقف مع "الزعيم المؤمن" (السادات)  و مع حكام الخليج .... كل هذا اعطى فرصة كبيرة لتوغل ، وتغول ، الامبريالية الرأسمالية الغربية في قلب العالم العربي ...

   لكن كانت هناك عقبة كبيرة أمام الثالوث الخطير(الغرب ، الرجعية العربية ، الاسلام السياسي) هذه العقبة هي انتظار الشعب المصري و العربي لفرصة عسكرية ترد كرامته المجروحة بعمق في يونيو 67 ، فكيف يرتمي النظام الرسمي في حضن الغرب و دماء الشهداء على ايدي هذا الغرب ... كان لا بد من خطوة تمتص الغليان الشعبي و تمنح السادات الشرعية للانقضاض النهائي على الارث الوطني / القومي / التحرري ، و كانت حرب رمضان / اكتوبر 1973 هي الخطوة المطلوبة ، حرب عسكرية محدودة يتم استغلالها لطمس ( لمحاولة طمس) معالم المشروع الوطني ، و هذا ما كان : زيارة الكنيست الاسرائيلي ، معاهدات خطيرة اخرجت مصر (كبرى الدول العربية و اثقلها) من الصراع... ثم تم اغتيال السادات ( تم اغتياله على يد الغول الذي منحه الحرية لمحاربة القوى الوطنية التقدمية) تاركا شعبا قد أنهكته السياسات الاقتصادية التي استفاد منها قلة ، و انكوى بنارها ملايين المصريين ...

   و جاء مبارك ليكمل ما بدأه السادات ، و في عهد مبارك سقط الاتحاد السوفيتي نهائيا ، و ازداد التيار السلفي (الوهابي و الإخواني ) رسوخا ، خاصة مع تجنيد عشرات الالاف للحرب في افغانستان ، أصبح تيارا منتشرا ، و مسلحا ، و غنيا ، و معبئا بايديولوجيا عابرة للوطن ، و النتيجة تعاون هذا التيار مع اعداء الامة العربية باسم الخلافة الاسلامية و القضاء على اعداء الدين ، و سبحان الله ، كان اعداء الدين هؤلاء دائما الشخصيات القومية و الوطنية !!! ... تطور آخر خطير ما كان من أمر المقاومة الفلسطينية (التي أُخرِجَت من الاردن ، ثم حوربت و أُخرِجَت من لبنان) هذه المقاومة ضعفت ، بل سار قادتُها في خطة ممنهجة (بالتنسيق و التعاون مع النظام السياسي العربي أيضا) تهدف الى جعل القضية الفلسطينية قضية خاصة بالفلسطينيين ، حارمة اياها من عمقها العربي ، كما تهدف الى انهاء الصراع "سلمياً" مع اسرائيل . و كانت الضربة الأشرس التي تلقاها العرب في زمن مبارك ( و هي احتلال العراق ، و تفكيك جيشه ، و الاستيلاء على مؤسسات و مقدرات دولته ) كانت هذه الضربة ايذانا بتسارع الخطوات نحو الاستسلام و التطبيع مع اسرائيل و مختلف القوى الغربية الامبريالية...

   كل هذا مع ضخ مالي و اعلامي تطبيعي ، أريد منه أن ينسى المواطن العربي ان هناك احتلال ، و أن هناك امبريالية ، و أن هناك تبعية ، و أن هناك أمة منقوصة السيادة و الاستقلال  ... و للأسف نجحوا الى حد كبير ... ثم كانت موجة الربيع فرصة للوصول بالذل و الخضوع و الاستسلام و الضعف الى أقصى مداه ... دمروا ليبيا ، قسموا السودان ، استمروا في تدمير العراق ، و هاهم من سنوات يفتحون نيرانهم المجنونة على سوريا ؛ متزقة من كل اقطار الدنيا تم تجميعهم و تسليحهم و تدريبهم و ادخالهم الى سوريا( بأيد خليجية تركية اطلسية ) لنخسر كعرب ملايين البشر بين شهيد و جريح و مشرد ، و لنخسر كثيرا من قوة الدولة السورية ، لكن هذه الدولة لم تنهار ، و لم يتمكنوا ، و لن يتمكنوا بعون الله ، من تقسيمها . بل يبدو ان المشروع الغربي الشرس،  و الخطير ، و الحقير ، لن يبلغ مداه ؛ فالولايات المتحدة ، رأس النظام الرأسمالي الامبريالي ، تترنح ، و روسيا و الصين يصعدان

صخرة مما جعل من سوريا و حلفائها ستتحطم عليها باذن الله كل المؤامرات .

ان هذه الأمة العربية لم تمحها بيزنطة و لا فارس و لا اوروبا الصليبية و لا تركيا العثمانية .... و لن يمحو وجوده و ثقلها التاريخي شذاذ الأفاق و أسيادهم ...   هذا لا يعني أننا نعيش ظروفا سهلة ، بالعكس ، ان ظروفنا في غاية التعقيد ، لكن المتغيرات التي ذكرناها تعطي بارقة أمل ... لذلك ربما ، هناك اليوم موجة جديدة من الهجوم على عبدالناصر و مشروعه ، بتعاون الثالوث الاجرامي الانتهازي ذاته : الرجعية العربية ، الاسلام السياسي ، الامبريالية و ادواتها الاقليمية ( اسرائيل و اردوغان .. ) ولذلك ربما ،  يتسارع التدمير المُمَنهَج للوعي ، و يتسارع الوحش الاسرائيلي الغربي في اتخاذ اجراءات عسكرية أمنية ( الضم ) تعزز مكانتها امام أي تهديد محتمل ( ايران و روسيا في سوريا ، و سوريا تتعافى ) ... لكن نأمل أن نحافظ على وعينا نظيفا حادا ، و ارادتنا قوية حرة ، و على الاحزاب بكافة توجهاتها مراجعة مواقفها و برامجها لتتلاءم مع هموم الناس ، و مع المستجدات الدولية الاقليمية ، و عليها أن تكف عن الصراع الفكري الزائف ،و عن اجترار صراع الثنائيات ... علينا ان نبني فكرنا و ثقافتنا من خلال الكفاح و الصراع اليومي ضد اعداء هذه الامة : الثالوث الخطر.