شتوية زمان ، و أيام زمان
"شتوية" زمان كانت واضحة الملامح ؛ كانت أيامها تتمايز عن بعضها تمايزاً بينا مَـكَّـنَ الناسَ من تقسيمها الى فـتـرات :
الفترة الأبرز كانت " الـمِـرْبَـعَـنِـيِّة " ؛ انها ذروة الشتاء ؛
(أرْبْعِـيـن يوم سَـكْعَه و مطر يا سِــتـِّـي ، من هــسَّـا لآخر شَـهَـرْ واحَـد ، الله يـعـيـنا ) .
هكذا كانت تـقـول جدتي – رحمها الله تعالى - موضحةً لنا معنى " الـمِـرْبَـعَـنِـيِّة " ، و كانت في العادة تـتـأكد من توافرِ الفحمِ و "الدُّقْ" ، لزوم الـتـدفـئة ، فبردُ كانون يستعان عليه بـ "الكانون" - كانون النار - و حول الكانون كان يجتمع الأهل و الأحباب يـنـشـدون الدفءَ و يتسامرون .
و لا أذكر كانونَ و بردَه ، و نارَه و أسمارَه ، الا و أذكرُ أيضاً ليالٍ حالكةِ السواد ، مُخيفةٍ ساكنة ، الكلُّ يترقـب ؛ يستمع الجميعُ الى أصواتِ آلياتٍ كثيرةٍ تهدر بقوة ، بقسوة ، تطوف البلد ، ركابُها يصيحون بلغةٍ عربيةٍ رَكِيكَة ، انهم يهددون و يُعربدون ؛ انهم المحتـلون ؛ انها انـتـفاضةُ كانون ؛ انتفاضة الحجارة ، نحن في نهاية العقد الثامن من القرن العشرين ، فوجئ الاحتلالُ بالشعبِ الفلسطينيِّ الأعزل يمـتـشـقُ حجارةَ بياراتِه و ساحاتِه و شوارعِه ، و يلقيها على جيشه المجهز بأحدث الأسلحة ...
قالوا : أيام و تـنـتـهي "أعمالُ الشغب" ، ربما اسابيع ، قد يطول الأمرُ الى شهور معدودة و لكنه – بالتأكيد - سينتهي قريبا ...
خاب ظنُّ المُحتـلين ، جن جنون " رابين " – عصفور السلام البريء - أصدر أوامره : اكسروا عظامهم ، لا فائدة ،
أَطْـلَـقُـوا قنابلَ الغاز ، رَشَـقـوا الـمـُنْـتَـفِـضـيـنَ بالرصاص المطاطي ، بالرصاصِ الحيّ ، لا فائدة ،
لجأوا الى العقابِ الجماعي الى الارهاب ، بلا فائدة ...
سنوات و نحن صامدون صابرون ؛ كانت انتفاضةً حقيقية ؛ كانت عفويةً جماهيرية ، انها من التجاربِ النبيلةِ البريئةِ في تاريخِ الانسانية ، قبل أن تُـفْـسِـدها - و تُـفسدنا المصالحُ ، و تُـشَـتِّـتـنا الأهواءُ، و تُمزقـنا الأحزاب ... ايه ، لا شيءَ يبقى على براءتِه الأولى في الدنيا ؛ لا الحب ، لا الثورة ، و لا حتى الأسرة ! .
و نعود الى شتاءِ ذلك الزمان ، الزمان الذي كانت فيه فلسطينُ حاضرةً بقوةٍ في دنيا العرب ، بل و في الدنيا كلِّها ؛ الزمانُ الذي كنا فيه حالمين رومانسيين – و هذه ليست شتيمة – حلمنا بالقضاءِ على الاستعمار ، و التحرر من التبعية ، و تحرير فلسطين ، كان الحلمُ لا يزال ممكناً ، و العمل لتحقيقه كان يجري على قدم و ساق ...
اعذروني على ا لاستطراد ثانية ، و لنعد الى الشتاء و أيامه :
بعد "الـمـربـعـنية" مباشرة بتيجي " الخَـمْـسِـيـنِـيِّـة " ؛
خـمـسـون يوماً مقسمةً الى أرباع ، كلُّ ربعٍ يستمر اثـنا عـشـر يوماً و نصف اليوم ! .
و نصف ؟ يا سـلام ! تخيلوا معي هذه الدقة : و نصف ، الم أقل لكم ان الـشــتـاء كان واضحَ الملامِح ، كان للصيفِ وقـتـه و للشتاءِ وقـته ، مش فوضى الحكاية ، اليوم الدنيا اتْـشَـقْـلَبَت ؛ فـِيـشْ اشي واضِـح .
المهم ، خلينا انـكَـمِّـل الحكاية :
أول ربع من أرباع الخمسينية كان يسمى " سَعِدْ ذابح " أو " سَـعـِـد ذَبَح " ، كانت جدتي تقول :
( في سعد ذَبَحْ لا بابٍ انْـفَـتـَح و لا كلبٍ نَبَح )
و كانت تفسر سكوتَ الكلاب – أجلَّكمُ الله - بشدةِ برودةِ الطقس ؛ فحتى الكلاب لا تجرؤ على التجولِ في ليالي سعد ذابح (اللي سَـكْـعِـتْـها بِـتْـقـُـص الـمـسـمـار) ، الا كلب ابتلاه الله و أشقاه ! .
و بعد سعد ذابح كان ييجي " سَعِدْ بَلَع " و " سعد السعود" ، و أخيرا :
( "سعد الخَبَايا" اللي بتطلع فيه الحَيايا )
و كانت جدتي تُـعلِّـل خروج "الحَـيـايا" – الافاعي - من الخبايا ، بانتهاء أيام البرد القارصة ، و بداية أيام الدفء ، لقد اصبحنا على أبواب الربيع .
لكنَّ برداً مفاجئاً كان يأتي بعدَ أيامٍ من الدِّفءِ لذيذة ، و كانت أيامُ البردِ هذه تسمى
" الـمِـسْتَـقْـرِظات " ؛
انها تلك الأيام السبعة من آواخر شباط و بداية آذار ، و كان مرور تلك الأيام يعني أن الشتاءَ قد أشرَفَ على الانتهاء .
شتوية اليوم و أحوال اليوم :
أما "شتوية" اليوم فهي غريبةٌ كأيامنا ؛ تـتأخر كثيراً حتى نيأسَ من قُدومِها، و عندما تأتي ، تأتي بـغـتـة ، و في ساعات قليلات قد تـنزلُ كميةٌ من المطرِ تعادلُ ما ينزل في أيامٍ معدودات ، و قد يكون المطرُ مصحوباً بريحٍ شديدةٍ مصفرةٍ مغبرةٍ ، و بَرَدٍ كبيرِ الحجم يضرب البلادَ و العبادَ بقسوة ... ثم فجأة ينتهي كلُّ شيءٍ بسرعة و تعودُ أحياناً أيامُ الصيفِّ في شهرِ نوفمبر ، و يصفو الجوُّ أحياناً و يحلو فنقول : ها هو الربيع قد جاء يـشـدو ! .
لم يعد الشتاءُ واضحَ الملامِح اذن ، و كذلك أيامُنا ، أصبح الطقسُ غريبا ، و كذلك أحوالُنا ، اهتزت ثقةُ الراصدينَ الجويينَ بأنفسهم ، و كذلك المحللين السياسيين ، و الباحثين الاجتماعيين ، و الفلاسفة و المفكرين ... كلنا حائرون ، كلنا نتساءل : عن ما كان و ، و عن ما سيكون ! .
هذا لا يعني أبدا أن أحوالنا كانت قديماً على ما يرام ، و لكنها كانت واضحةً مفهومةً الى حدٍ كبير ؛ تحدثنا قليلا عن الانتفاضة الشعبية ، و الأحلام الجماهيرية فماذا لدينا يا ترى عن الطبقة الحاكمة "العلية" و علاقتها بـ "الرعية" ؟ :
كانت أيامُ الحاكِمِ - كشتاءِ ذلك الزمانِ تماما - لها بداية مفهومة و نهاية معلومة ؛ أما البداية فكانت عندما كنا نـتـشرف بتربع الحاكم الملهم على صدورنا - عفوا أقصد على عرشه - و أما النهاية فكانت بموته و انتقاله الى "عليين" بإذن الله ، فينال بذلك الرفعةَ في الدُّنيا و الأخرة ( و لَئِنْ رُدِدتُ الى ربي لأجدنَّ خيراً مِنها مُنْقَـلَبا ) .
و بين بدايةِ عهدِه الميمون و نهايتِه ، كان الحاكمُ المُفدَّى يصبغُ أيامَنا بصبغات مختلفة ، كانت أيامهُ شـتـوية - كما قلنا – فكان فيها : " ذبح " و "بلع " و "سعود " و " خبايا " :
كان زمانُه عادةً ما يبدأُ بـ "ذبحِ" المعارضين ، و تـنـظـيـف "قصره" و "نظامه " و "بلده" من المخالفين ،
و في عهده كان يتم "بلع" ثروات البلد ، فيسعد بقربه البالعون " سعودا " كثيرا ، فـيخرجون من "الخبايا" كالحيايا - فقد اطمأنوا الى استقرار النظام - فلا خوف و لا قـلق ، بل فرح و حبور ، و سعادة و سرور ، و تكبر و تجبر و غرور .
و بما أن الأمور - بحمد الله - قد اسـتـتـبت ، فلا بأس من بناء بعض المرافـق العمومية ، و لا خطر من التنفيس عن " الرعاع " – عفوا الرعية - بإجراء انتخابات "ديمقراطية" ، و لا ضرر من رفع الاجور قليلا ، و تعديل الشرائح الضريبية ، لتحقيق "العدالة الاجتماعية" ...
و هكذا كان يسود جو ربيعي جميل لفترة ، و لكنه ربيع خداع ؛ فأيُّ ربيعٍ هذا الذي يأتي في الشتاء ؛ لذلك كانت هناك أيام " مـسْـتـقـرِظات " أيامٌ تـذكَّرُنا بأيامِ الحاكم الشتوية القاسية الأولى ؛ أيام " الذبح " و السلخ ...
انها أيام الحاكم الأخيرة ، و لا بد له قبل الرحيل من تمهيد الأرض لابنه ؛ فأمر البلادِ و العبادِ لا يصلحُ الا بحكمِ سلالتِه الطاهِرةِ النقيةِ الذكية ... و لكنَّ أكثرَ الناس لا يعقلون ! .
بعد ذلك يهل الدفء ثانية ، و يسود "ربيع شتوي" أخر استعدادا لشتاء الحاكم الجديد ... !
هكذا كانت أيامنا مع حكامنا : شتاء طويل يعقبه شتاء أطول ، و بين الشتاءين "ربيعٌ" قصيرُ العمرِ يتكرمون به علينا ، ندرسُ و نعملُ فيه ، و (نحوش قروشا بيضاء) استعداداً لأيام" شتوية " قاسية سوداء .
لكن الناسَ تعبت تعباً شديداً و ملَّت ، سَـئِمت من الشتاءِ و اشتاقت الى الربيع الحقيقي فثارت ، سقط حكامٌ كثيرون ، و جاء حكام آخرون ، لكن "الحيايا" البشرية لم تمت ، لقد كمنت في جحورها و اختبأت ، و لما واتـتها الفرصةُ بحذرٍ خرجت ، و بمكرٍ لـدَغَـت ...
اذن لم يأت "الربيع" الحقيقي بعد ، بل عاد الشتاءُ بشكلٍ أغربَ و أقـسـى ، و أصبحَ البعضُ يترحم على أيامِ زمان ، و على حكام زمان ، و يردد حكمةً قـيـلـت من زمان : ( سلطان غشوم و لا فـتـنة تدوم ) ! ، و كأن قدرنا أن نتأرجح بين مُــرَّين ، و أن نذوق الأمَرَّين ! .
كلا ، أظن أن هذا المنهج في التفكير قد أصبح مرفوضاً - هذا المنهج الذي يحكمنا بخيارين فقط ، و يرسم لنا طريقين و حسب ، هذا المنهج "الجبري" الذي يكبلنا و يخنقنا - أقول : لقد أصبح مرفوضا ، أظن أننا اليوم بحاجة الى منهج جديد ، الى أفكار جديدة ، اننا بحاجة الى "ابداع" ؛ الى اجتراح طريق ثالثة ، طريق تعيد المناخَ الطبيعي الى بلادنا المنكوبة ، علَّنا ننعم - مثل بقية خلق الله – بفصول أربعة حقيقية ...
قولوا آمين ...
اللهم آمين .