بسم الله الرحمن الرحيم

نسيج الانسان الفاسد

كتاب في نقد اليوطوبيا أم في نقد النضال ؟

   الكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن اربع محاضرات منتقاة من ست هي محتويات النص الانجليزي ، و هي محاضرات القاها "السير" ايزايا (اشعيا) برلين في فترات مختلفة .

   يُقَدَّم برلين على أنه فيلسوف ، و مؤرخ افكار ، و منظر سياسي و اجتماعي مهم (ويكبيديا)

   كان برلين قد كتب مقالة أُطلِقَ عليها اسم " القـنـفـذ و الـثعـلب " صنف فيها البشر– خاصة المبدعين- الى نمطين :  "ثعالب" و "قنافذ" . أما نمط الثعالب فهم الشغوفون بالتنوع و تعدد الافكار ، الذين تتسع مخيلتهم لاستيعاب الكثير من المعلومات ، المؤمنين بأن هناك الكثير من الظواهر غير المفهومة و التي لا تتناسب و حدود مقدرتِهم المعرفية ، المُتَأَقلِمون مع الواقع ، المتصالحون معه . بينما يميل نمط الـقـنافـذ الى التعامل مع كافة الامور من منظور أحادي مركزي شامل ، و هو نمط دائم النزاع مع الواقع ، و غير مُتَصالح مع العالم .( موقع "المحطة" الالكتروني ، مقال مترجم عن الغارديان ).

  و ربما تكون فكرة برلين المركزية في كتاب "نسيج الانسان الفاسد" ، أقول ربما تكون ، مستـندة على فكرته في مقالته القنفذ و الثعلب ، او متطورة عنها ، لا أدري ، و لكنها غالبا مرتبطة بمجمل اعمال برلين العلمية حول المفكرين الذين نفذوا "هجوما مضادا" على أفكار عصر الـتـنوير ، و طرحوا "نسبية القيم الانسانية" و اختلافها من بيئة لأخرى و من زمان لآخر ؛ ففي هذا الكتاب – نسيج الانسان الفاسد - نقدٌ حادٌ بعباراتٍ بليغةٍ أدبياً ، لكل الافكار و الايديولوجيات التي تتسم بـ"يقين ثابت" و بـ"رؤية نهائية" لحلول المشاكل البشرية ، سواء كانت هذه الافكار "يوطوبيات" يونانية ، كالمدينة الفاضلة لأفلاطون ، أو كانت مجتمعات مُتَخَيَّلة رسم صورتها اشتراكيون حالمون ، أو اشتراكيون علميون توقعوا ، بناءً على التحليل و الدراسة ، أفول الرأسمالية و بزوغ فجر المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات و الصراع . أو كانت تصورات علماء حول مجتمعات تُبنى بناءا على دراسة الطبيعة البشرية بطريقة تشبه دراسة العلوم الطبيعية للمواد .... كما ينتقد الكتاب كل صيغ تمجيد الذات و اقصاء الآخر نتيجة "الوعي القومي الهائج" و الفاشية و غيرها .

   و يتتبع برلين أصول هذه الافكار و الايديولوجيات فيعثر عليها في مُسَلَّمات هَيمَنَت منذ اليونان و حتى العصر الحديث على مجمل المنظومة الفكرية الغربية ، هذه المسلمات تتمثل في " المثال الافلاطوني " الذي يقول – باختصار :

ان كل سؤال " اصلي " له اجابة صحيحة واحدة فقط ... و أن كل الإجابات الصحيحة يجب أن تشكل "كلا" منسجما "متجانسا" . هكذا يمكن للإنسانية المعذبة أن تجد – نظريا على الأقل - أجوبة على الاسئلة التي تؤرقها ، و هي أسئلة – في حالتنا هذه - ذات طابع قيمي أخلاقي -و من هنا تنبُع مركزية دراسة فلسفة الاخلاق و السياسة عند برلين - فاذا استطاع الانسان تحديد الخصائص التي تميز طبيعته البشرية ، والرغبات و الاهداف التي تحركه ، فانه يستطيع ان يجد النموذج الذي يلبي احتياجاته و يحقق رغباته .

   هذه النماذج و الحلول الشاملة – بالإضافة الى الامكانية النظرية لبلوغها - كان من المُفتَرَض أنها تنبع من طبيعة بشرية واحدة ، و من قيم عابرة للزمان و المكان ، و من عدم جواز التعارُض بين القيم الانسانية  ... الا أن هذه المسلمات و الفرضيات كلها ، تعرضت لهجمة مضادة ، تعرضت للتشكيك ، منذ اليونان ( من الرواقيين ) مرورا بميكافيلي ( الذي اوحى في كتاب الأمير أن "بعض المُثُل قد لا تكون منسجمة" ) و المحاميين في غرب اوروبا و شمالها ( الذين قالوا : ان القانون الروماني بادعائه حق السلطة الشمولية لم يكن يعني شيئا بالنسبة ) لبقية الشعوب ، و مونتسكيو ( الذي اعتبر ان طرائق عيش مُختَلِفة تلائم الناسَ في بيئاتٍ مُختَلِفة ) و   حتى العصر الحديث ...

 " كان من شأن ذلك ن يكسر اغواء قيام عالَم واحد و قانون شمولي واحد ، و بالتالي اغواء التنطح لهدف شمولي لكافة البشر في كل زمان و مكان "

لكن برلين يركز على مكان و زمان ، و شخصيات محددة :

  المانيا ، مستهل القرن التاسع عشر ، قادة كنسيين ... سدَّد بعضُ قادةِ الكنيسة في الولايات الالمانية سهامَهم الى صدرِ التنوير الفرنسي ، و كان هذا – حسب برلين – انتقاما " للشعور القومي الجريح " عند الالمان ؛ فقد كان الفرنسيون أصحاب السيادة في كل مجالات الحياة ، كما عرفت بلدان اوروبية أخرى ازدهارا ثقافيا ملحوظا ، أما الشعوب الناطقة بالألمانية فلم تكن قادرة على التباهي بشيء مشابه ، و يبدو أن الموهبة الأصيلة لم تبرز الا في اللاهوت . لذا لم يكن غريبا أن تفكر شخصية دينينة كـ " يوهان غوتـفـريد هـيردر " :

أن القيم ليست شمولية ... و أن لكل عصر قيمه  ، و لكل حضارة مُثُـلها الخاصة الفريدة ، و مقاييسها ، و أسلوبها في العيش و التفكير و العمل ... لكل أمة  مركز ثقل أخلاقي خاص ... هنا و هنا فقط ، تكمن سعادتها ؛ في تطوير احتياجاتها القومية الخاصة ، و شخصيتها الفريدة .. ما من سبب يُرغِم الانسان على السعي وراء تقليد النماذج الأجنبية ...

يعلق برلين على أفكار هيردر قائلا : " هذه عقيدة جديدة " ... و يضيف :

أسهمت الحركة الرومنتيكية  – في المانيا أيضا – باندفاعة ذاتية قوية لهذه النظرة العالمية المُبَكِرة ، و الثورية بأصالة "

" الرسام يُبدِع لا ينسَخ ، انه لا يحاكي ، هو الذي يسن القوانين .. "

و كذلك القيم – قياسا الى هذا التصور الجديد للإبداع الفني -

 " لا تُكتـَشـف ، بل تُـبـتـَدع .. ".

" هذا يشكل انشقاقا حادا عن التعاليم السابقة " التي تعتبر الخطأ ، الواجب ، الخير المطلق ... قيما ثابتة لا تتغير .

هكذا تم التشكيك في شمولية القيم ، كما تم اعتبار الصراع بين القيم جزءا من طبيعة الحياة الانسانية ذاتها، و ليس نتيجة لجهل او خطأ بشري يمكننا تعديله بمزيد من العقلانية .

لكن كما كان "الانتصار العظيم الذي حققته العلوم الطبيعية" مانعا لتأخذ التشكيكات المُبَكِّرة في القيم و المسلمات مداها ، كذلك كانت مساهمات هيغل و ماركس في العودة الى " مخطط تاريخي عقلاني " محاولة لوقف " المخطط الخطير "
 - حسب تعبيرات برلين -  المُتَمَثِّل في اطروحات هيردر و الرومانتيكيين .

كان هيغل و ماركس يسلمان بوجود التناقضات و لكنهما – خلافا للرومانتيكيين – يؤمنون بحتمية الوصول الى حلول لهذه التناقضات ، بل ان التناقضات نفسها لا غنى عنها للتقدم و صولا الى " الكل المُنسَجِم " كحل نهائي .

" مع ذلك تواصلت الشكوك ... هذا هو الارث المُقلِق للحركة الرومانطيقية .. " يُعَقِّب برلين .

لكن برلين يعتقد أيضا " أن الارث الانحلالي للرومنطيقية في شكليه : غير المؤذي نسبيا – كالتمرد المشوش للفنان في القرن التاسع عشر – و الارث الشرير – المتمثل بالكُلِّيَّانِية – هذا التأثير في اوروبا الغربية – على الاقل – قد استهلك نفسه " . يزعم برلين أن " الصدمة " التي عاشها الأوروبيون نتيجة الحروب و الدمار في الحربين العالميتين كشفت " أن هناك نظاما مُتَراتِباَ للقيم يعيش بمقتضاه معظم البشر ، و الاوروبيون الغربيون خاصة ،  لا يعيشونه ميكانيكياَ بحكم التعود ، بل كجزء مما يُشَكِّل في لحظاتِ وعيهم الذاتي الطبيعة الاساسية للإنسان " .

   ان برلين يعتبر أن التماثُل قاتل ، وأن التنوع صِحِّي و مطلوب ، و ان القِيم البشرية ، كالطبيعة البشرية ، تختلف و تتصادم - مع ايمانه بوجود مباديء عامة تجمع البشر -  و يقترح في النهاية أننا - " كقاعدة عامة " -  " يجب أن نسعى الى تخفيف حدة الصدامات المحتومة بتعزيز توازن متقلقل و الحفاظ عليه " .

تعليق :

في صدر محاضرته الاولى يحدد برلين عاملين حدَّدا مسار التاريخ الحديث : " التطورات العلمية " و " العواصف الايديولوجية الكبرى " .

و لا خلاف على أهمية العاملين في مسار التاريخ البشري ، لكن المرء يتساءل : أو ليست الايديولوجيات و الافكار في علاقة جدلية مع الواقع ؟ ؛ بمعنى أنها تتأثر بالواقع كما يتأثر الواقع بها  ، أو ليست الايديولوجيات الكبرى " العاصفه " تعبير عن رفض لـ ، و تمرد على ، واقع معين ؟ و لنكن أكثر تحديدا و أكثر صراحة : ألم تخلق الرأسمالية و المدنية و المجتمع الحديثين ،  بوحشيتها و ماديتهما و جفافهما ، تناقضا لها ، هو الماركسية و الرومانتيكية .. و غيرها من التعبيرات الفكرية و الايديولوجية الرافضة لقسوة الحياة الحديثة ؟ .

هناك موضعان في الكتاب – المحاضرات – ربما يفسران ، اكثر من غيرهما ، تصدير الكتاب بهذه التعميمات حول العوامل المؤثرة في " مسار التاريخ الحديث" :

 في الموضع الاول يرى برلين ان التصنيع يغذي النزعة القومية و لكن النزعة القومية ليست بحاجته لتنمو ، " ان القومية ليست حصيلة ثانية لقيام الرأسمالية تأفل بأفولها " ... و هذا رفض واضح لربط الافكار و الوعي ، او الشعور القومي ، بسياق اقتصادي ، اذن – بناءا عليه - لا دخل للرأسمالية بالجرائم التي ارتكبت باسم القوميات في اوروبا ...

في الموضع الثاني يشير الكاتب الى ما هو أبعد من تبرئة الرسمالية من عار القوميات و جرائمها بحق البشرية ، انه يشير الى أن " ثمة ايمان " بـ " الشركات المتعددة القوميات " كـ " واق من الشوفينية " و ينقل لنا " قناعة كويدن " بـ " أن تطوير التجارة الحرة في العالم يؤدي الى توطيد السلام و التعاون المنسجم بين الامم " و يذكرنا بـ " حجة نورمان انجيل  ... و التي كان واضحا أنها لا تُدحض ، بأن المصالح الاقتصادية للدول الرأسمالية الحديثة وحدها تجعل من الحروب الواسعة النطاق أمرا مستحيلا " !!! .

  طبعا اشارات التعجب مني ؛ فالرأسمالية - بطبيعتها - تحتاج الى التوسع و الاحتلال و النهب ، و دور المؤسسات الرأسمالية في الانقلابات و المجازر و الحروب حول العالم معروف و موثق ، بل ان الشركات العملاقة داست على كل القيم و الاخلاقيات بأحذيتها الثقيلة الغليظة لتحافظ على ممتلكاتها و مصالحها في المستعمرات السابقة ... أفبعـد هذا كله نقرر بهدوء ان كل مشاكل البشرية نابعة من الايديولوجية الفاشية و الشيوعية ؟ و أن الرأسمالية – و هي سبب المصائب – هي الحل ؟ ... اليس هذا تضليل ؟ .

لا اتهم الكاتب بأي شيء ، و لست مؤهلا لذلك ، لأني لم اطلع على مؤلفاته الاساسية ، و لكن هذا التحليل الذي قدمه يقودنا الى هذه النتيجة شاء ام أبى . و اليوم لا يزال أشباه المثقفين يصدعون رؤوسنا بالتخلف الفكري و التعصب الفكري و ما شابه ذلك ، كأسباب لمآسينا ، ناسيين ، أو مُتَناسين ، أن هناك دول امبريالية تجثم على صدورنا و تشوه كافة جوانب حياتنا منذ قرون !! لسنا أنبياء ، بل كلنا أخطاء ، و لكن هذا التحليل تزييف للواقع و تضليل مُمَنهَج ...

   لقد أصبح الواقع الاعلامي و الثقافي العربي في السنوات الأخيرة واقعا يصيب بالغثيان لكثرة الكذب المُستَمِر ليلا و نهارا ، اننا نحتاج بالضبط الى ما رفضه الكاتب : الى أفكار و نضال مضاد و مناهض للامبريالية ، لكن – نعم – نحتاج الى الكثير من التواضع في اصدار الاحكام و اقتراح الحلول فيما يخص المشاكل و القضايا الاجتماعية السياسية ... نعم ، لقد سئمنا الحتميات و اليوطوبيات بأنواعها ، و لكن الواقع الذي خلق هذه الحتميات و اليوطوبيات لا يزال موجودا ، بل و يزداد سوءا و لا يصلحه " تسويات " و " موازنات " ، انه يحتاج الى تغيير جذري .

   افكار ماركس و تحليلاته ، و شطحات الرومانسية القلقة الحزينة ، كلها معطيات بشرية تحتاج الى مراجعة و تطوير دائمين ، و لكن الواقع الذي خلقها يستدعيها على الدوام ، و لن تعود كما كانت حتما ؛ لا شيء – كما قال برلين نفسه – يعود الى بدايته ، هناك جدل و صراع دائم يغير كل شيء ، و قد ساهم العشرات في تطوير النماذج المعارضة ، ابتداءا من ماركس و انغلز نفسيهما ، مرورا بلنين و ستالين ، ثم غرامشي ، و لوكاش  و ألتوسير ، ثم ماو و سمير أمين  .... و غيرهم كثيرون .

   من جهة أخرى ، الأنظمة الرأسمالية الغربية اليوم تحتضر ، لا ندري كم سيدوم هذا الاحتضار ، و ما الذي سينتج عنه ، لكن لم يعد واردا أبدا أن نأخذ بالرأي القائل بأن التجارة الحرة و العلاقات الاقتصادية العابرة للقارات تعزز السلام ... على النقيض من ذلك لقد عززت هذه التجارة و هذه العلاقات - بنمطها الرأسمالي  - الخصام و الصراع ، لقد زرعت الموت في كل مكان ، انها المشكلة الأساسية ، فكيف تكون هي الحل .

و الله أعلم .