كان عقيمًا كريمًا !
لم تنجب أمه من أبيه سواه ، فيما له إخوة غير أشقاء !
كان مختلفًا عنهم تمامًا ، فهو سخي اليد ، وهم بخلاء ، وهو دمث الأخلاق وهم غير ذلك !
ابتدأ حياته التجارية من الصفر ، متنقلًا في أكثر من منطقة بالمملكة ، فعمل في شبابه عند الجفالي ، وآخر نسيت اسمه من كبار تجار الجنوب .
استفاد منهما الخبرة وفن التجارة والمقاولات ، ولذا لمع نجمه في الطفرة الأولى ( التسعينيات الهجرية / السبعينيات النصرانية ) .
كان سابقًا لجيله ذلكم الزمن ، فجاب الأرض ( استجمامًا وتجارة ) .
تقلبت به الأمور بعد حرب الخليج الثانية ( احتلال الكويت ) بسبب الركود الاقتصادي الكبير الذي أعقب الحرب ، فبدأ ببيع معداته واحدة تلو أخرى ، ومعها بدأ منحنى رفاهيته يتدرج للأسفل بعد أيام رخية كان فيها ملء السمع والبصر !
هو هو في خُلقه ، فلم تغره النعمة حينما كان منعمًا ، ولم يكسره الفقر حينما بدأ مشوار الإفلاس المتدرج !
في رمضان زرت مزرعته التي كانت جنة من الجنان ، وفيها منزله الذي كان غاية الترتيب ، وهما اللذين قد تحولا بقدرة قادر إلى محلة أشباح ، تمامًا كما تلك التي قرأنا عنها في الروايات !
كنا ثلاثة قد ساقنا القدر إلى المرور بمزرعته ، ولا أدري كيف سولت لنا أنفسنا التطفل بدخولها وهي المهجورة منذ وفاته قبل اثنتي عشرة سنة !
منظر مؤلم ، أعجاز نخل خاوية ، وعرائش عنب يابسة ، وأشجار فاكهة متخشبة !
كان المنظر مريعًا ، ولم نتخيل بعده بأننا سنحظى بمشهد آخر هو أكثر إيلامًا منه ، وذاك عند دخولنا إلى منزله المهجور !
لا تسألوني كيف سولت لنا أنفسنا ذلك ، ولا أستنكر عليكم استغرابكم سوء أدبنا في دخوله دون إذن ، فكل ما هنالك أن البيت كانت مخلعة أبوابه ، والمنظر كان مغريًا لولوج منزلِ رجلٍ - كان بحق - أرستقراطيًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ولفظ !
ثمة سبب آخر كان قد حركني شخصيًا دون صاحبيّ لأن ألج منزل هذاالمتوفى ، وهو أني كنتُ أُحبه ومعجب به جدًا ؛ لأخلاقه العالية والنادرة ، ولكرمه الشديد - كان هذا الرجل يُهدي أقاربه [ الذين تخلو عنه فيما بعد ] سيارات ومنازل ، وأخيرًا فإني كنتُ أحبه للكاريزما التي حباه الله بها !
قبل الحديث عن المشهد الرئيس لهذا المقال ، فإني أتذكر لهذا الإنسان شمائل حميدة كثيرة ، وهو الامر الذي لأجله قد رفضت زوجته وابنة عمه الانفصال عنه لما خيّرها بين البقاء مع عقيم أو أن تطرد نصيبها مع غيره ، فبكت قائلة : ما خير العيش بعدك ؟!!
أتذكره تمامًا وهو يُطفئ سيجارته حينما يرى والدي مقبلًا نحوه احترامًا وتبجيلًا .
أتذكر طريقة جلسته الخاصة على الأرض والتي من سبب إعجابي به قد صرتُ أجلسها ، وهي : التربع بوضع القدم اليمنى ممتدة فوق الركبة اليسرى امتدادًا بيّنًا وملحوظًا !
أتذكره حينما كنتُ صغيرًا قد أرسلني والدي نيابة عنه لحضور وليمة في قصره المنيف ، فاستقبلني كما لو استقبل أميرًا أو وزيرًا - وهي عادته مع الجميع - ، ثم أكملها حين تقديم العشاء ، إذ إني قد جلست على الصحن الأصغر - كما يفعل الصغار احترامًا للكبار ، فشدني من يدي قائلًا : أحمد ، هات يدك ! ثم مضى بي وأجلسني على الآخر الكبير ( المفطح ) !
هنا أنتقل إلى اللحظة الحزينة المؤلمة ، وهي دخولي منزله المهجور في مزرعته الميتة !
كنا ثلاثتنا نظن أنها خالية المتاع ، وأردنا الاستمتاع بحُسن تصميمه الذي قد عُرف عنه ، فكانت حينئذ المفاجأة الصادمة ! فالمنزل كما هو منذ وفاته عام 1423 للهجرة إلا من عبث قليل لا ندري من افتعله !
الأرضيات يعلوها التراب ، والفراش الوثير الذي يشي عن ثروة بائدة كان ممزقًا ، وأغراضه الشخصية - لأنه عقيم - كانت موجودة !
لا تسلني - مرة ثانية - عن سوء أدبنا ، فهذا ما قد حدث ، ولعل عذرنا أننا كنا ننظر إلى مقبرة كانت يومًا من الأيام جنة وقصرًا !
دخلنا المجلس ، وفيه الصور الفنية التي جلبها من أوربا ، ثم إلى دهليز مليء بأشرطة الفيديو ( كلها مصارعة حرة ؛ لأنه من جيل الزمن الجميل ) ، ثم صحف كانت على وضعها وبتأريخ سنة وفاته 1423 هـ .
نظارته كما هي على منضدته ، ثوبه معلق ، وأوراق كثيرة ملقاة على الأرض متناثرة !
من هذه الأوراق كان صك أرض قد باعها في الجنوب بمبلغ مليون ومائتي ألف ريال في عام 1402 ( 1982 بتأريخ النصارى ) .
لا تسلني - ثالثةً - عن سوء أدبي عندما وجدتُ رسائل من ورق فاخر مرسلة إليه من صاحب له هو مليونير مصري - كما في الرسائل المرسلة عام 1979 م - يُخاطبه فيها بكلمة " ابني العزيز ... " ويُخبره - بخط جميل باهر - عن افتتاح مصانعه في القاهرة ، واستيراده الخشب من هونج كونج بمبالغ فلكية ، وهو - أي هذا المليونير المصري - لا يصفه في كل سطور رسائله إلا بكلمة : ابني العزيز ! ولا يُخاطبه إلا بأرق الكلام .
كان المنظر بائسًا ، حزينًا ، مُخيفًا ، يقطع نياط القلب حسرة وألمًا على ذاك الفرد الباهر النبيل الذي مات دون ذرية .
في يوم العيد التقيتُ بصديقه وشريكه في تجارته أواخر السبعينيات وبدء الثمانينيات ، فأخبرته بمشاهداتي المؤلمة التي قادني إليها قدَري في صبيحة يوم رمضاني !
لم يتمالك صديقه ورفيق دربه بعدما أخبرته هذا الخبر إلا أن اغرورقت عيناه بالدموع أسفًا وحزنًا على صاحبه الأثير وصديقه النبيل ... النبيل حقًا !

( رحمه الله وغفر له ، وعزائي عن عُقمه أنه ابتنى مسجدين ، وأوقف ثلث ماله في سبيل الله ) .

آيدن .