منذ طفولتي لم أفارق الكتاب و لم يفارقني، و كثيرا ما سألني الأهل و الأصدقاء : لماذا تقرأ ؟ و كانت اجاباتي نمطية ، مدرسية الطابع ، و لم أجد لهذا السؤال جواباً مُقنعاً الا عند الكاتب و المناضل الفريد "باولو فريري" :

" نحن نقرأ سعياً وراء الكمال الانساني " ..

و من يومها ازددت اهتماماً بنوعية الكتب التي اقتنيها ، و أصبحت هوامش الصفحات مسرحاً للحوارِ بيني و بين الكاتب ، بعد أن كانت الملاحظاتُ على الهامشِ شبه محرمةٍ في مذهبي لشدةِ حرصي و حبي للكتاب ... كانت هذه نقلة نوعية في حياتي ، فقد تحولتُ من قاريءٍ همه الأول هو المتعة ، الى قاريءٍ همه الأول هو السعي وراء الفهم و الحقيقة  ، و لا أنكر أنني أحنُّ الى أيامِ القراءةِ العفويةِ الفوضوية ، حين كنت القي كتاباً  صعباً او مملاً بلا تردد،  ثم اتناول غيره بحثاً عن السعادة و الاثارة .. لكنني رغم حنيني لتلك الأيام المُمتِعة الا أنني لا أحنُّ الى عقليتي في تلك الأيام ؛ عقلية المُتَلَقِي السلبي ، الذي يتلقى سيلا من المعلومات بلا أي تدقيقٍ و لا تساؤل .

نعم ان القراءةَ النقدية عملٌ شاقٌ جداً ، و لكنها هي القراءة المطلوبة ، فنحن قومٌ نستَسهِل اصدار الأحكام القاطعة ، و نؤمن بالخبر المشكوك في أصله و كأنه خبرٌ متواتر ، فلا ندقق و لا نحلل و لا نراجع أنفسنا ، ناسين أو متناسين أن الكلمةَ مسؤليةٌ و أمانة ... ان مشكلتنا الاساسية ، في ميدان العلم و الفكر ، ليست في هذه الفكرة أو تلك ، و لا في هذا الرأي أو ذاك ، بل هي في المنهج و طريقة التفكير ، أو قل : في غياب المنهج و طرق التفكير ..... آلاف بل عشرات الآلاف من الكتب التي تستنسخ نفس المواضيع و لا جديد فيها ، خطباء يعتلون المنابر لعشرات السنين و لا يتقدمون و لا يتطورون قيد أنملة ، لعمري انهم لمسؤولون عن هذا التقصير المرعب يوم الحساب ... كلنا مسؤولون : كتاباً و اساتذةً و خطباءَ و اعلاميين  ... ، مسؤولون عن الترهات التي نلوكها منذ قرون بلا توقف ، حتى أصبحت حياتنا ماسخةً لا لونَ لها و لا طعمَ و لا رائحة ، تكرار و تضليل و تزوير ، و نحن نتلقى بلا أدنى تفكير ... أصبحنا كالوعاء الذي يحتوي كل ما يوضع فيه بلا أي اعتراض ، أصبحنا جمادات ، أصبحنا أوراقاً فارغة يُسَطِّرُ عليها من يريد ما يشاء .

كفى ... كفى جهلا و "هبلاً " ... كفى ... كفى بلادةً و كسلاً ... لقد آن أوانُ التحررِ و الانعتاقِ من القيودِ التي أثقلت كواهلنا و زرعتنا في الطين ، آن أوانُ التحرر ، و لا تحررَ بلا عقلٍ ناقدٍ و مفكر ، بلا منهجٍ صارم و دقيق .  

لدينا نحن العرب مئات ان لم يكن آلاف المؤرخين ، لكن تاريخنا كله لم يشهد الا نابغة واحدا وحيدا متفردا في مضمار فلسفة التاريخ  : ابن خلدون . و لدينا عشرات الآلاف من كتب الفقه و الاصول ، و لكن لا يوجد بينها الا بضعة كتب أصَّلت و أطَّرت و نظَّرت : الأم للامام الشافعي ، و الموافقات للشاطبي ... لماذا ؟ و بماذا تفرد هؤلاء العباقرة ؟ لقد تميزوا بالمنهج ، بالاستقراء و بالتحليل ... أما البقية فمعظمهم نُسَّاخُ و شُرّاحُ ، مقلدون و معلمون ...

و يومنا كأمسنا ، بل أسوأ ؛ فنحن نعتاش على مائدة التراث ، و لو قام ابن خلدون و الشافعي لماتا ثانية ، غماً و كمداً و حزناً على هذه الأمة . حتى المفكرين الذين صَدَّعونا بنقد التراث ، و بنقد العقل العربي،  لم يأتوا بجديد ... لماذا ؟ لأنهم يكتبون و يفكرون - و قليل منا المفكر - و هم بعيدووووون عن الناس ، الفقه و الأصول في بداياتها كانت رداً مهماً ، و ملائماً ، على اسئلة المجتمع الفتي ، مجتمع صدر الاسلام ، كنا وقتها نحارب و نُسالم ، نبني و نؤسس ، نصنع و نتاجر ... كنا نتحرك ، نبني حضارة ، فبنينا الى جانب الحضارة المادية ، و بالتزامن معها ، حضارة عقلية و فكرية ، ان العلم الحقيقي ، و الفكر النقدي ، و العقل الحاد ، لا تنبت في الفضاء ، انها ابنة الأرض ، ابنة المجتمع ، ابنة الناس ، انها ثمرةُ النضالِ و الأِعمارِ و التدافعِ و الجَدَل ... و ليست ابداً ابنةَ الخنوعِ و الاستسلام ، و لا ابنة الذلِّ و الهوان ، كلا ...

فان كان لهذه الأمة مستقبلاً - و سيكون بعون الله - فان هذا المستقبل سيُبنى على دعامتين :

1. نضال بلا توقف و لا استسلام ؛ نضال لتحرير الارض و الانسان من كل انواع الهيمنة و التسلط و القمع ، تحرر من هيمنة الغر ب على مقدراتنا و ثرواتنا ، تحرر من الأنظمة القمعية. و نضال في سبيل تحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنية ، و نضال لتحرير العقول و النفوس من كل القيود حتى ينطلق الانسان و يبدع و يحقق ذاته و يخدم مجتمعه ... 

2. حركة فكرية عقلية علمية تنبثق  عن هذا النضال نفسه . بموازاة هذا النضال الشامل ، سيكون الانتاج و الابداع الفكري و الفني ... فالنضال حركة ،و الحركة فيها صعود و هبوط ، خطأ و صواب ، أمل و ألم ، خطط و قرارات ... و هذا ، و غيره ، لا بد سيواكبه تفكير و تدقيق ، قبول و رفض ، تخطيط و تقييم ، غناء فرح و غناء حزين .. و هذا لعمري ما ينتج الفكر و الثقافة الاصيلتين ...و بذلك نبني حضارة و ثقافة وطنيتين ..

. و أحسب أن بذور هذه الحضارة و هذه الثقافة قد بُذِرَت ، فنحن نشهد منذ سنوات احداثا جساما لن يعود وطننا العربي بعدها كما كان  قبلها أبداً ، فهناك جيلٌ من الشباب تفتحت عيونه على العالمِ من أقصاه الى أقصاه ، و شهد تحركات جماهيرية فضحتنا حكاما و أحزابا و مفكرين ، فليس له الا البحث و التنقيب مستفيدا من نكباتنا المتوالية ... أعتقد أن هذا الجيل الشاب يدرك تماما - و لا أريد أن أُنَظِّر عليه - أن التغيير المطلوب هو تغيير جذري ،  تغيير ينهي هذه الأنظمة المُتَعَفِنة ، و ينسخ هذه الافكار و النظريات البالية ، و يكتب و يبني بيديه عالماً جديدا ... هذا ليس خيال ؛ فالمتابع لصفحات التواصل يدرك أننا أمام شباب يبحث و يسأل و يكتب و يقرأ ، على عكس ما يتم الترويج له ... و المُلاحظ أيضا أن هناك حركة ترجمة لا بأس بها تتسارع في السنوات الاخيرة ، نعم ان معظم ما يُترجم هو روايات - و هذا ليس تقليلا من شأن الرواية -  لكن القائمة تحوي أيضا كتبا في الفكر و الفلسفة ، نعم لا تزال حركة الترجمة في بداية الطريق و لكنها مرشحة للتطور ، كنا مثلا نقرأرواية 1984 لجورج اورويل و لا نعرف له غيرها ، أما اليوم فنجد الكثير من الروايات الاخرى لاورويل لم نسمع بها ، كنا نقرأ رواية السأم لالبرتو مورافيا ، أما اليوم فنجد له روايات أخرى ، و مما يلفت الانتباه وجود عدة ترجمات لنفس الكاتب او الكتاب ، كنيتشه و كافكا ، و أحيانا كثيرة أصبحت الكتب الاجنبية تترجم عن لغتها الأصلية ، بعد أن كانت تُتَرجم عن  نصها الانجليزي غالبا . كما أننا نجد اليوم انتشارا - و ان كان محدودا بعد - لنصوص ماركس الاصلية و لمؤلفات غرامشي و التوسير ، و كذلك للكتب المعتمدة على ، و المتطورة عن ، النص الماركسي .

أخيرا ، فان هذا الجيل أثبت أنه جيل رافض للخضوع ، و لا تزال ذاكرته حية ،  اليوم مثلا كنت استمع لأغنية فريق الترجي التونسي (قضية الأمة) فسمعتها مراراً ، و كل مرة كان يقشَعِرُ فيها بدني ، ها هم شبابٌ لم يشهدو نكبةً و لا نكسة ، و لكنهم يهتفون لفلسطين ، و يلعنون الحكام الخونة الذين يتاجرون بالقضية ، مدرجات متخمة بالمتفرجين حولت الملعب الى مسرح ، بل الى مهرجان وطني قومي بامتياز ... أفلا نتفائل اذاً ؟

لا تقل لي ان العرب يهرولون الى اسرائيل مُطبعين ، فهؤلاء ليسوا كل العرب ، هؤلاء قلة من الخونة و المأجورين و ضعاف النفوس ، و لا يمثلون الا أنفسهم ، أما العرب فهم هؤلاء الأبطال الذين يحاربون في سوريا و لبنان و فلسطين ، هؤلاء الذين يهتفون في تونس و المغرب و الجزائر لفلسطين ، هؤلاء الذين يترجمون ، هؤلاء الذين يكتبون محتجين على صفقة الأفاق ترامب ، هؤلاء هم العرب ، و هم الأمل .

و قل اعملوا فيرى اللهُ عملكم و رسوله و المؤمنون ...