عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال " كلّ مخْمُوم القلب، صدوق اللسان. قالوا صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: التّقي النقيُّ، لا إثم فيه، ولا بغي ولا غل، ولا حسد"

رواه ابن ماجه: 4216، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3397

المخموم في اللغة، الموضع المكنوس، الذي كان مملوءًا بالقذر ثم سُلِّطَتْ عليه المكانس لإزالة ما به من القمامة والقاذورات، مَخْمومِ القلبِ"، أي: سَليمِ القَلبِ، وهو مِن تَخميمِ البَيتِ، أي: كَنْسِه وتَنظيفِه، والمعنى: أن يكونَ قلبُه نَظيفًا خاليًا مِن سيِّئِ الأخلاقِ.

تهيئة شروط الفرح:

تخيّل أنّك تُريد ملء دلو ممتلئ بالماء بنفس قياس حجمه من الحليب، فهل هذا ممكن؟. الإجابة بالطبع لا، لأنّ الدلو مملوء ولا يوجد مكان لإفراغ الحليب .هذا المثال ينطبق تماما على القلب،فأنْ نبحث عن ملئ قلوبنا بالسعادة وبالطمأنينة وبالمشاعر الجيّدة يحتاج ذلك أوّلا، إلى مكان لها في القلب، فإذا ما كان القلب مملوء بمشاعر الحقد والكراهية والحسد فكيف يمكن أنْ تحل السعادة فيه؟ - على الأقل يجب أنْ نجد لها مكانا لِتحلّ فيه -. فقبل أنْ نفكّر في طرق تحصيل السعادة لا بدّ أنْ نفكر في تخلية القلب من المشاعر الكريهة.

خذْ مثلا: الحاسد والحاقد فهما لن يعرفا الطمأنينة والسعادة لأنّ قلبيهما يمتلئان بالكراهية والحقد وقد اكتسحت تلك العواطف السوداوية والظلامية كل مكان فيهما.

لذلك فالكثير منا قد تساءل يوما: لماذا يغيب الفرح من حياتي؟ لماذا لا أجد السعادة؟ ربّما قد يكون الجواب: في كوننا لم نطرح سؤالا حقيقيا عن تلك المشاعر التي نخبّئُها ونسترها بعيدا عن الناس والتي تقبع في أغوار قلوبنا في صمت دفين، والتي قد تكون هي السبب الحقيقي في غياب الفرح والسعادة من حياتنا. لا يتعلق الأمر عن المشاعر السامية كالمحبة وحب الخير للناس.لأنّ هذه المشاعر لا تؤلم ولا تجلب ضيقا في القلب.بل أتحدّث عن تلك المشاعر البغيضة: كالكراهية والحسد والحقد التي تقبع في دهاليز ومغارات تفكيرنا الظلامي. إذ لو أنّنا طرحنا سؤالا صادقا على أنفسنا لعرفنا حقيقة تعاستنا وضيقنا.

هل تساءل أحدنا: لماذا أكره فلان؟ لماذا أحسُد علّان؟ لماذا أرفض نعم الله على الناس؟ وهل هذا منطقي ومعقول أنْ أعترض بقلبي وانزعج على نعم الله النازلة على فلان؟ ثم ما فائدة هذا الحسد وما الذي أجنيه من هذه الكراهية؟ لماذا أُدمّر نفسي بمشاعر " نووية" ضارة ومدمّرة كالحسد والكراهية الخاسر فيها هو أنا لا غير؟.

إنّ طرح هذه الأسئلة هو التعقُّل الحقيقي، وممارسة أيضا للتفكير الهادف لتغيير النفس نحو الأفضل، هذه الأسئلة تُشعر الحاسد والحقود منّا بمدى تفاهته وحقارته، فالنفس الشريفة تعاف الحسد والحقد لأنّ تفكيرها قائم على تحقيق معالي الأمور. صحيح أنّه لا أحد يكون بعيدا عن مشاعر الحسد والحقد والكراهية وكلنا يمكن أنْ يكون حاسدا وكارها وحاقدا. ولكن طرح مثل تلك الأسئلة السابقة تُرجع العقل إلى توازنه والقلب إلى فطرته.

حدث لي مرة أنْ التقيتُ بصديق قديم لم ألتق به منذ فترة، وقد بدت عليه ملامح النعمة والغنى. تصوروا أنّ فكري راح يتساءل ويفكِّر في كيفية وصول هذا الشخص إلى هذه المكانة؟ وكيف استطاع أنْ يصل إلى تلك الوظيفة؟ وكيف حقق ذلك؟ وفجأة قلبتُ استراتيجية التفكير وأوقفتُ دائرة التفكير تلك، وحدّثت نفسي: دعيك من النّاس، وفكِّري في شؤونك الخاصة. وبعد انصرافنا كان وقت صلاة الظهر  ودخلت بالصلاة ودعوتُ لصديقي في سجودي: بأنْ يرزقه الله أكثر وأكثر. هكذا علّمتُ عقلي وقلبي طريقة في تدمير الحسد والغيرة التي قد أشعُر بها إزاء أي شخص. وهي قول: ما شاء الله لا قوّة إلا بالله أمام الشخص الذي يتحدث عن نِعمه أو تبدو عليه، ثم الدعاء للشخص الذي تحدثني نفسي لأحسده. وهكذا أصبحت لي عادة كلما حدثتني نفسي لكي تحسُد، أعالجها بالضد، بالدعوة لذلك الإنسان بالبركة وبكثرة الرزق. والآن الحمد لله الذي عافاني من ابتلاء الحسد.

الحسد ينمو في القلب كلّما غُذّي بالتفكير الذي يكون عادة مصحوبا بالتوتر والعاطفة، فكل حاسد عندما يفكر في محسوده يتفجّع ويتألم لحظة رؤية محسوده، هكذا يتحوّل الحسد مع الوقت إلى ثعبان ضخم يطوّق القلب. لكن، قبل أنْ تتحول بذرة الحسد إلى ثعبان، أيْ إلى شعور غليظ وقوي ومدمّر. علينا أوّلا بتدمير بذرة الحسد منذ بداياتها الأولى، فمن تلك اللحظة التي تبدأ الغيرة والحسد تدبّ في القلب يجب تجنب التفكير في المحسود وإخراجه من دائرة الذهن ومن دائرة الاهتمام.لأنّه بممارسة إعادة التفكير ستتولّد عادة فكرية سيِّئة. 

والعقل القوي لا يكون قويا إلا بالقلب القوي. والحسد والكراهية من المشاعر المدمرة التي تمرض وتضعف القلب، وإذا حلّ الحسد بقلب الإنسان سيطرد الفرح منه، ويرحل بغير رجعة ولن يعود إلا إذا أُخلي القلب من هذا الشعور البغيض. فالحسد يدِّمر صاحبه ويحييه في دائرة ضيقة من التفكير وهو التفكير في نِعم المحسود.

العفو واللامبالاة لتوفير الطاقة:

إنّ خلو القلب من الحسد والمشاحنة والكراهية معناه: توفير طاقة للعقل وللقلب لتوظيفها في القيام بأشياء تتعلق بحياتنا قبل كل شيء. وهذه الطاقة التي نوفرها تدفعنا إلى تحقيق أهدافنا التي سطّرناها من قبل. فالأحقاد، والمشاحنات، والضغائن عواطف سلبية، تستهلك وتستنفد طاقاتنا كلها وتبذّرها في عادات تفكير تافهة لا تعود علينا بأي فائدة.

انظر كيف يُضيِّع المرء طاقته؟ يحسُد فلان، لأنّه أحسن منه، ويحقد على آخر لأنّه ينافسه، ويكره ذاك شخص لأنّ سلوكياته لا تعجبه، ويشك في زميله في العمل، ويسيء الظن بآخر، ويتخوف من جاره... أُنظر كيف يتم إهدار الطاقة في مواضيع وفي أشياء تافهة تُعيق الوصول إلى أهداف حقيقية ومهمة، وتُهدر الطاقة التي كان من المفروض الحفاظ عليها لمزاولة شؤون الدنيا والآخرة. والخطير أنّ هذه العواطف السلبية تأخذ كل مساحة القلب ولا تجد السعادة لنفسها مكانا فيه.

الترفع عن الحسد والضغينة والكراهية وكذلك ممارسة العفو الحقيقي على الظالم هو الذي يمسح وينقي ما في القلب، وإذا تنقّى القلب من المشاعر الهابطة والحقيرة سيطلِق سراح الذات وتشتغل بالتفكير في عوالم ومواضيع جديدة: كالإبداع وعيش الحياة بفرح وممارسة البناء والتنمية على أرض الواقع. هذا الانهمام بمشاغل الذات هو الذي يترك أثارا إبداعية جميلة تنفع البشرية والمجتمع.كما أنّ الترفع عن الحسد وممارسة العفو ينقل الذات من التفكير في الأشخاص إلى التفكير في الإبداع. ولكن العفو الحقيقي ليس ذلك الذي يترك شيئا في القلب مما بقي من أثار الأحقاد والضغائن التي ربما قد بقيت راسبة إزاء من ظلموك وأذوك، بل يجب أنْ تعفو بعمق لدرجة أنْ تتناسى ولا تستحضر في كل مرة الظلم والأذى الذي تعرّضت له.

وعندما نعفو فليكن ذلك تقرّبا إلى الله تعالى ليعفو عنا، ومن أجل أنْ تتحرر ذواتنا من تلك العواطف السوداوية. فالعفو هو الحرية الحقيقة التي تتحقق في أعماقنا، من خلال توقف الانسان من  استحضار ذكرياته الماضية مما وقع له من ظلم وأذى الأشخاص.

فالعفو الصادر من القلب يحرر الإنسان من ذاته التي تريد الانتقام ومن قلبه المحصور بالأشخاص إلى عالم الحرية الحقيقي من أجل أنْ يفكر في أهدافه البعيدة والقريبة.

وعندما يتم من جهة أخرى، الترفع عن الحسد والكراهية والبغض تتحرر النفس من سجن التفكير في الأشخاص الذين نفكِّر فيهم باستمرار ويخرجنا بالتالي من الغُرف المظلمة للعواطف البائسة. 

فكم من شخص لا يزال مسجونا في داخل ذاته، مقيّدا بأغلال العواطف الهابطة، واضعا نفسه بين جدران الكراهية، والضغينة، والحسد، فلم يستطيع أنْ يتجاوز هؤلاء الأشخاص الذين سيطروا على تفكيره وقلبه.

قصة ذات مغزى: الشاب المستكبر

كان هناك شاب وسيم يعمل في مؤسسة مرموقة، وكان كغيره من الموظفين يتقاضى أجرا لا بأس به يكفيه لتحقيق طموحاته وأحلامه. ولكن، تعرّضت الشركة إلى إفلاس مالي جعلها تُسرح العمال وتغلق على نحو نهائي. وهكذا أصبح الشاب عاطلا عن العمل. ولكن، بدل أنْ يبحث الشاب عن عمل جديد ليكمل تحقيق تلك الأهداف التي سطّرها بقي في بيته، وأصبح يرتاد المقاهي في كل صباح ومساء.

ظل الشاب البطال يرتاد المقهى، حاملا في يديه كوبا من القهوة. ويقول لجلسائه: انظر إلى صاحب تلك السيارة الفاخرة، إنّه شخص أعور لا يستحقها، كان من الأفضل أنْ تكون ملكي، وعندما يرى غنيا يجلس لاحتساء قهوة. يقول لجليسه: هذا الغني لا يستحق المال ولا الممتلكات التي لديه، لأنّ شكله يشبه القرد وكان من الأفضل أن تكون تلك الأموال والممتلكات لي. وفي يوم الغد يعاود الشاب نفس الكلام لجلسائه: فإذا مرّت عليه امرأة جميلة مع رجل آخر، يقول لجليسه: هذا الرجل المتسخ لا يستحق تلك المرأة الجميلة، بل من المفروض أن تكون زوجتي.

وظل هذا الشاب على هذه الحال غير متجرّع لوضعه الجديد، ومعترضا على الحياة الجيّدة التي يحياها بعض الناس المحظوظين. وكان يرى أنّه بوصفه شاب وسيم ويعرف فن ارتداء الألبسة وتناسقها وما يناسب الجسم الأبيض أو الأسمر، أو السمين، والنحيف مع الموضة اعتقد الشاب في نفسه، أنّه مظلوم من الحياة، ولم تكن عادلة في توزيع المال والممتلكات. وهو على هذه الحال، حتى لاحظ الشاب عجوزا في الثمانين من عمره، يرتاد المقهى، وفي كل مرة يطلق العجوز ابتسامات وضحكات ذكية أثارت استغراب الشاب، وقد حدث ذلك مرات عديدة. لم يتمالك الشاب نفسه، وذهب إلى العجوز بغضب وقال له: لماذا تضحك كلما تراني؟ وهل هناك شيئا يضحكك؟ قال العجوز: لا، وإنّما سمعتك تتحدث عن ظلم الحياة، وأنها لم تقسم الأرزاق بعدل، وسمعتك أيضا: تحتقر الناس الذين يمتلكون الأموال والممتلكات، وترى أنّ القسمة أخطأت عندما وهبتهم ولم تهبك.

اسمع يا ابني: أنا لم يبقى لي الكثير من العمر، فإنّي في عمر الثمانين، وأنا بغير زوجة ولم أتزوج قط، ولا أملك أموالا ولا بيتا، وأعيش في بيت أخي. ما أوصلني إلى هذه الحالة إلا الطريق الذي تسلكه الآن بالاعتراض عن قسمة الحياة للأرزاق واحتقار الناس، أودّ لو يعود بي الزمان إلى الوراء لأعمل أي عمل يحقق لي شيئا في حياتي.

يا بني، اذهب وابحث عن عمل، وإذا بقيت على هذه السيرة، ستصل إلى مثل سني، ولن تغير من سير الأمور في شيء. قالها وغادر العجوز المقهى بغير رجعة. هذه القصة تلهمنا، أنّ إهدار الوقت في الشكوى والاعتراض على قسمة الأرزاق، والحسد واحتقار الناس، لن يقدّم للإنسان شيئا، ولن يغيّر من واقعه. بل إذا استمر المرء على هذه الحال سيفوته قطار الحياة ولن يلحق به. يتعلق الأمر بتفكير المرء بكيفية إخراج نفسه من المأزق، والعمل على أنْ يكون مثل هؤلاء الناجحين. وليس اتهام الحياة بأنها لم تكن عادلة في تقسيم الأرزاق.