ولما خاض مِسطح بن أثاثة فيما خاض فيه من حادثة الإفك، وأنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح لقرابته وفقره، قال أبو بكر رضي الله عنه:
" وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)22 سورة النور.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا«.
الحديث رواه البخاري (4381) ومسلم (4974).
القلب يحتاج إلى إفراغ تام
ما دام الإنسان حيا فهو معرّض في حياته أنْ يلقى الكثير من الأذى والمضايقات من الآخرين، وقد يكون هذا الأذى صادرا من أقرب الناس: من أفراد العائلة أو قد يكون صادرا من الأصدقاء الذين ساعدناهم ووثقنا بهم، أو قد يأتي هذا الأذى من محيطنا الاجتماعي. ويتنوع هذا الأذى كأنْ نُظلم بغير وجه حق ويتم سلبنا حقنا المادي، وربما يكون هذا الأذى، بأنْ يتم اغتيابنا بسوء وتُهتك أعراضنا دون أنْ ندري، أو قد نسمع كلمات جارحة بغيضة مباشرة، أو رّبما قد يتم التقليل من شأننا أمام جمع من الناس. و قد لا يمرّ يوم أو يومين إلّا وقد نلقى أنواع من الأذى، فعلاقات البشر فيما بينهم يوجد فيها مثل هاته التعاملات السيئة والبغيضة والمؤلمة، ولا يمكن أنْ نتصور علاقات بشرية بغير أذى، لأننا أمام بشر وليس أمام ملائكة أو أنبياء.من هنا يمكن أنْ نضع في أذهاننا أمر واحد وهو مهم جدا: بعض البشر تحرّكهم أنانياتهم وغرائزهم وميولهم الشريرة في علاقاتهم مع الآخرين، بسبب حبهم للسيطرة والظهور والانتقام لهذا فمن المثالية والسذاجة أنْ نتصور مجتمع يخلو من الأذى.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نملأ عقولنا وقلوبنا بذلك الأذى الذي لا يمكن أنْ يسلم منه أحد، لأنّه لو استجبنا عاطفيا وفكريا للأذى الخارجي، فستكون عقولنا كبراميل مليئة بالنفايات الضارة والتي ستنغِّص حياتنا وسنظل نجتر في داخلنا ذلك الأذى السيّئ، وهذا ما يحوّلنا إلى كائنات إنسانية كل مهمتها انتظار فقط ردة الفعل السلبي والغاضب إزاء كل أذى خارجي.
وحده التسامح الحقيقي والعفو سوف يُفرغ هذه النفايات من عقولنا، فعلاقاتنا الاجتماعية والعائلية كثيرة، فإذا وضعنا أذى كل شخص في رأسنا كخطأ ارتكبه في حقنا لأصبح عقل كل واحد منّا يملك مخزون استراتيجي من الغضب والحقد، وسيسعى الشخص الذي أصبح قلبه كبرميل في لحظة ما إلى إفراغ جل غضبه على شخص يكون بالقرب منه، قد يؤدي به الأمر إلى سلوك عنيف. من هنا، لا يجب أنْ أتحوّل إلى برميل للنفايات الضارة الذي يجمل في قلبه كل حقد وضغينة من سلوكات وكلام جارح من الآخرين.
وهذا هو عين البؤس الذي نعيشه في حياتنا، فكيف نُريد أنْ نعيش حياة سعيدة ومطمئنة ونحن لم نتخلص بعدْ من النفايات الضارة التي في عقولنا، لذلك فإنّ الخطوة الأولى للاطمئنان أنْ نُمارس فن التسامح مع أفراد العائلة، ومع الأصدقاء، وحتى مع الأعداء. ونيّتُنا في ذلك، أنْ نطلب رضى الله تعالى وعفوه ليرزقنا بها حسنات ليوم القيامة. ألا نستطيع أنْ نكون مثل أبي بكر الصديق: الذي أصابه أذى غليظ من إنسان كان ينفق عليه ويعطيه من ماله، وتبدأ القصة أنّه "لما خاض مِسطح بن أثاثة فيما خاض فيه من حادثة الإفك، وأنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح لقرابته وفقره، قال أبو بكر رضي الله عنه:
"وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 22 سورة النور.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا "
السعادة لا تدخل إلى قلب ممتلئ
لا يمكن أنْ نعيش الفرح إلّا إذا هيّأنا شروط الفرح بداخلنا، وأهم شرط على الإطلاق: أنْ تكون قلوبنا فارغة وصافية من الأحقاد والضغائن التي هي كالأعشاب الضارة. بهذا يمكن أنْ نستقبل السعادة، فأين تأتيك السعادة وقلبك مملوء بكامله؟ أفرغ قلبك من المحتوى الذي فيه، ثم اترك السعادة تدخل. قد يتساءل أحدنا: أنا لست سعيد، بالرغم أنى امتلك كل شيء. يا أخي: أين تمر السعادة وقلبك مملوء بالحقد، والضغينة، والحسد؟.
التسامح والعفو هو منظِّف القلب من المشاعر السلبية نحو الآخرين. ولكن لن نتمكن من العفو إذا لم نجعل ذلك تقرّبا لله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 22 سورة النور.
صحيح أنّ تجاوز الإساءات والأذى من الآخرين لهو أمر صعب والقليل منا من يتمكّن من فعل ذلك، فقد تأخذنا لأجل أنْ نعفو العزّة والكرامة، فقد يكون ذلك الأذى الذي تعرّضنا له مما جرح النفس كثيرا، وسبب لها ألما عظيما. نعم هذا الأمر مفهوم وواقعي. ولكن نستطيع فعل ذلك، إذا جعلنا ذلك في وجه الله، كما فعل أبو بكر مع ذلك الذي أذاه في عرض ابنته مع أنّه كان قريبه في النسب وممن كان ينفق عليهم.
العفو هو اقتدار القلب على التجاوز والنسيان بغير منِ ولا استكثار، وبغير تذكير الظالم بالأذى. لكن العفو لا تقدر عليه ولا تستطيعه إلّا القلوب الكبيرة، لأنّ المتسامح استطاع أنْ يتجاوز مشاعر الألم والظلم وإرادة الانتقام التي يعيشها في داخله. وهذا ما سوف يُشعر أعداءه بخزي داخلي ويسبب لهم أيضا تأنيب الضمير.
أنْ تعفو وتسامح لا يعني أنّك ضعيف أو أنّك إنسان بغير كرامة وعزة، بل لأنّك تتيقن أنّ الحياة هي أقصر وأسرع من تمضيها في التفكير في الانتقام. أنْ تعفو معناه: أنْ تقول لمن أذاك بصمت: أنّى لن أنزل إلى مستواك بالتفكير مثلك.
قواعد مهمة:
لا يمكن أنْ تستمر الحياة إذا لم نمارس العفو كعادة ضرورية ودائمة في تعاملنا مع الآخرين، فإذا كنا نتوقف عند كل شيء سبّب لنا: جرحا، أذى، عدم احترام، إهانة. فإنّ حياتنا ستتحول بذلك إلى أيّام من الشجار، والصدام، والحزن، والكآبة. فالعفو الذي يمارسه الإنسان هو الطريق الذي يجعله يعيش حياته على نحو عادي وليتفرّغ لشؤونه الخاصة. ذلك الصدام مع الآخرين يُسبب تأخيرا لإنجاز مصالحنا ويمنعنا أنْ نعيش حياتنا بفرح مع أنفسنا. فعندما لا تعفو قد تكون أنت الخاسر، لأنّ مشاعر الانتقام وكيفية رد الأذى ستحرق في داخلك مشاعر الفرح والسعادة وتنغص عليك حياتك الخاصة وتستنفذ وقتك.
إنّ عدوك يريد أنْ ينقلك لكي تفكّر مثله، وإذا فكّرت مثله، فقد تمكّن منك، فمن خلال أذاه، يريد أنْ تفكّر فيه وفي أذاه. لكن تفكيرك في الأذى والعدو هو تعاسة وكآبة يتمناها عدوك أنْ تفعلها. ولكن العفو الحقيقي فيه حكمة عميقة، فمن جهة تتفرغ لمصالحك الخاصة، ومن جهة ثانية: أنْ ترتفع عن هذا الشخص وعن تفكيره السافل. عفوك سيجعل عدوك يستيقظ من سفالته وإنْ لم يستيقظ ولم يرد ذلك سيحترق بخزي عفوك.
الحسد والكراهية والحقد انفعالات وتّوترات داخلية شديدة مصحوبة بتفكُّر عميق، وهي بذلك مستهلكة جدا للطاقة ومشرّدة للأفكار ومُذهبة لكل شعور داخلي جميل فينا. والذكي هو من يعرف كيف يدّخر طاقته لأموره الدنيوية والأخروية. أمّا الحاسد والكاره والحقود، فإنّه يستهلك نفسه ويحترق ذاتيا بنجاح الآخرين، وهو بذلك غير قادر على تحقيق نجاحه الخاص بسبب أنّه أحرق طاقته واستنفد إرادته في التفكير في المحسود.