كان صلى الله عليه وسلم يُبشِّر أصحابه بمُلْك الشام وفارس واليمن؛ فيقول -وهو يكسر الصخرة التي عرضت لهم في حفر الخندق-: «الله أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، والله إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحجَرِ فَقَالَ: الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ الْمدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحجَرِ فَقَالَ: الله أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». رواه أحمد والنسائي في الكبرى وحسّن إسناده الحافظ في الفتح

هناك قانون كوني: الفجر يأتي منْ قلبِ الليل

من الطبيعة يمكن أنْ نتعلّم تعاقب الأشياء وتغيّر الأحوال، فالفجر يأتي من قلبِ الليل ليأذن بدنو نهار جديد، وتنمو الأعشاب والزهور والشجيرات على أرض قاحلة مستخلفة أنقاض الأعشاب والزهور والأشجار الميتة. ويأتي الربيع على عقب قسوةِ الشتاء.أمّا على مستوى الحياة البيولوجية للإنسان نجد أنّ الطفل يولدُ من عُنق الرّحم، يخرج من ظلمات بطن أمّه، وقد قطع بذلك، خطو كبيرة نحو الحياة. ها هي الطبيعة تعلِّمنا التعاقب في أحوالها. فلا شيء يبقى على وضعه الأصلي إلا وتغيّر إلى حالة ثانية. وفي حياة الناس أيضا. هناك تعاقب بين الهزيمة والنصر، الخوف والأمن، اليأس والرجاء. هذه النظرة التعاقبية للحياة كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام عندما بشّر أصحابه وهم في أوجِّ الحصار بفتح أرض فارس والروم واليمن.

كل إنسان في هذه الحياة قد يتعرّض لعيش ظروف قاسية ومُظلمة ومربكة. وهذا الأمر طبيعي لا تخلو منه حياة أي شخص في العالم، ولا أيّ أمّة في التاريخ إلا ومسّها البلاء والابتلاء. ولكن الناس في تعاملهم مع هذه الظروف القاسية ينقسمون إلى صنفين: الصنف الأوّل من لا يستطيع أنْ يتجاوز لياليه الحالكة إلّا بشرب الخمر وتناول المخدّرات وفي قضاء أيام طويلة في النوم وتناول السجائر. وقد يذهب البعض بهم الحال إلى ممارسة علاقات غرامية وجنسية محرّمة يعتقدون أنّها تُنسيهم في حاضرهم المُؤلم. ومنهم من يفكِّر في الانتحار من أجل التخلُّص من عذاباته، ومنهم من يقضي وقته في رفع شكاويه للناس لعلّه بذلك يُزيل بعض الهم والغم. مثل هؤلاء النّاس يعتقدون أنّ ما يعانوه من ألام وهموم واغتمام سيبقى إلى الأبد، يعتقدون أنّ ما هم فيه لن يستطيعوا تحمل أثاره إلا بتصرفات يعتقدون أنها مناسبة لتخفيف معاناتهم. ولكنّهم بذلك، سيرتكبون أخطاء وأفعال ستزيد من استفحال وتعقُّد وضعيتهم التي هم فيها. فبدلا من التركيز في حل مُشكلهم الراهن والأساسي الذي هو سبب تعاستهم ونغصه يقعون في أخطاء جديدة تُضاف إلى مشكلتهم الأصلية. فإذا ما هُم تمكنوا من حل مشكلاتهم الأوّلية التي كانت سبب تعاستهم لن يتمكنوا من حل المشكل الثاني الذي وضعوا أنفسهم فيه مؤخرا. وأمثلة ذلك كثيرة من واقعنا لا مجال لذكر تفاصيلها: كالمكان والزمان وهي تحدث في كل مرة.

- فتاة تعرّضت لخيانة زوجها أو لسوء تعامل خطيبيها، اندفاعها يدفعها إلى الانتقام منه من خلال ممارسة الخيانة أمام عينيه، وربّما تمارس علاقات جنسية محرّمة مع غيره، حتى تغيظه وتنتقم منه. هذه المرأة بفعلها هذا، قد قطعت كل إمكانية للرجوع إلى زوجها، وقد تحرِم نفسها من انتظار تقدم رجل آخر إليها، لأنها قد لطّخت سمعتها، وقد تزيد الطين بلّة، بأنْ تسهر الليالي في النوادي الليلية وتدخل في دوامة شرب الخمر وتعاطي المخدرات والممنوعات.

- شاب في مقتبل العمر ذو أخلاق عالية وهو على وشك التخرّج من الجامعة بشهادة محترمة، مستقبله مفتوح على جميع الأبواب. يتغيّر مسار هذا الشاب على عقب سماعه إهانة من شخص غريب على إثر حادث سير في الطريق وقع بينهما، يبادر هذا الشاب الطموح الذي لم يفكر في العواقب بغرز سكين على جسد هذا الشخص الغريب. يُرديه قتيلا وفجأة تتحول حياة هذا الشاب إلى جحيم ويقضي بقية حياته في السجن.

- رجل في حالة غضب طلّق زوجته، ثم باع بيته وشرّد عائلته، ثم في حالة هدوء واطمئنان واتزان أراد الرجل إرجاع زوجته وأولاده. لكنه لم يجد البيت الذي يأويهم.

- رجل زنى بامرأة في بيت زوجها، وفي يوم ما اكتشفهما الزوج في حالة متلبّسة، وخوفا من الفضيحة قتلا العاشقان الزوج، وبعد أيام فُضح أمرهما وأدخلا السجن المؤبد.

نلاحظ من خلال هذه الأمثلة أنّ مشكل واحد الذي قد يقع فيه الفرد قد يؤدي إلى سلسلة من المشكلات التي لا نجاة منها إلا باستعمال التروي والاتزان والحلم. والحكمة تقتضي ألّا أزيد من تعقيد المشكل وتعميقه. فبإمكان الفرد أنْ يسيطر على مشكل واحد أمّا إذا تشعّب واستعصى. فيكون من المستحيل حلّه، فحتى لو كان المشكل الذي أوقعت فيه نفسي كبيرا، فلا يجب أنْ أفتح بعده سلاسل من المشكلات وتشعبات أغرق فيها إلى الأبد.

أمّا الصنف الثاني من الناس فيتعاملون مع مشكلات الحياة من منطلق فكرة: أنّ النجاة والانتصار في هذه الدنيا لا يأتي هكذا كطريق مفروش بالورود. بل يتطلّب صبرا واجتهادا ومعاناة وتحدِّي كبير. فالنبي عليه الصلاة والسلام أوْقد نور الأمل لأصحابه وهم في أشدّ الظروف قساوة ورُعبا حيث تربّصت بهم جيوش العرب وأحاطت بهم من كل جانب. ومع ذلك، بقي يبشّر أصحابه بفتح فارس والروم. من هنا علينا أنْ نستخرج قاعدة يجب أنْ نكتبها بماء من ذهبوهي: على المرء أنْ يوقد شمعة الأمل وهو في أشدِّ الظروف قساوة وظلامية. عليه أنْ ينتظر الأمل ولو كان في وضعية يُغلّفها الألم والفشل والهزيمة.

ضرورة وجود الأمل:

نشير إلى فكرة في غاية الأهمية وهي: ضرورة أنْ يبقى الوعي مستيقظا منتبها وألاّ يستسلم لصدمات الحياة وإلا ارتكب المرء حماقات أخرى كبيرة تزيد من تعفُّن الوضعية. نعم، هناك فعلا مرارة للهزيمة والفشل والألم والخيانة والغدر والشعور بالظلم والتي تؤثر على عمل العقل والقلب معا. ولكن على العقل أنْ يبقى منتبها وأنْ تتصرف الإرادة على نحو حصيف وسديد لحماية الإنسان من الوقوع في تعقيد وتعميق المشكلات. فانتباه الوعي يعني إضاءة شمعة الأمل في دائرة الظلمة وأنّ هناك دائما إمكانية للنجاة. فبعض الناس يُطفئون كل شموع الأمل الممكنة، ويعتقدون أنْ لا أمل لهم في نجاتهم مما وقعوا فيه. وبذلك سيتجهون إلى ارتكاب حماقات فضيعة أقبح مما عانوه. ولكنهم لو فكّروا " أنّ بعد العسر، يُسرا. وأنّ بعد العُسر يُسرى" لفُتحت لهم أبواب الأمل. وبالفعل ستُفتح لهم أبواب الأمل وسيندمون على ما ارتكبوه من أخطاء بعد استيآسهم وقنوطهم. هؤلاء الناس لو لم يطفئوا جميع شموع الأمل في أذهانهم لاستقبلهم الفرج قريبا في ساحته. والقاعدة الذهبية هي أنْ نفكّر بتروي وبحِلم في جميع الأفعال والأقوال. التي تصدر منّا بأنْ نستشرف ونتوقّع مآلاتها السيّئة.

فقبل أنْ تطلّق زوجتك فكّر مليا وبتروّي فربّما لو صبرت عليها قليلا لكانت نِعم الزوجة، فقبل أنْ تطلق اترك مساحة للأمل. وقبل أنْ تفارق صديقك وقبل أنْ ترد عليه بالمثل بكلمات قاسية ومريرة فكِّر بواسطة الأمل-ربما سيتغيّر هذا الشخص، وربما قد تختار طريقة أخرى للفراق تكون جميلة، أفضل بكثير من الفراق القبيح الذي يكون بتبادل الكلام السيئ والمريروالجارح لكل واحد منكما.

قبل أنْ تشك وترتاب في زوجتك أو في زميلك، فكِّر بأمل قبل أنْ تنطق بكلمات قد تهدم كل شيء بينكما. وقبل أنْ تنتقم من عدوّك فكِّر بواسطة الأمل ربما قد يصبح صديقك يوما ما. وقبل أنْ تستقيل من منصبك غاضبا فكِّر بواسطة الأمل ربما ستتغير حالتك إلى الأفضل. وقبل أنْ تظن في أيْ إنسان، ظنا سيّئا، فكِّر بواسطة الأمل أنّ الخطأ في تفكيري وليس في الشخص. أو قد سيصير ذلك الشخص في صلاح في المستقبل. وقبل أنْ تضرب شخصا بأيّ أداة جرّاء إهانة منه، فكّر بواسطة الأمل في أولادك ومآلك. وقبل أنْ تدخل في علاقة جديدة محرّمة، فكِّر بواسطة الأمل في مآلها وانتهائها.

إنّ النجاح لا يرمي لك بالورود، كما أنّه ليس طريقا مُعبّدا سهلا لكل سالِك خامِل وضعِيف. بل يتطلّب رُؤية تُبصر بعينين اثنتين وهما: الأمل، والتروّي. فإذا كان بعض الناس يرون الظروف القاسية حاجزا بينهم وبين تحقيقهم لِذواتهم، فإنّ الرؤية بواسطة الامل والتروّي تعني أنْ ترى من بعيد ذلك الأفق الذي لا يراه الناس. والناجح هو الذي يرى من وراء الظلام نهارا ومن وراء الظروف القاسية يُسرا وفرجا مُبهجا.

يتعلّق الأمر بِجعل الوعي مستيقظا وأنْ لا نترُكْه تحت تأثير صدمة الفشل أو الهزيمة أو الظروف القاسية. فلو انطفأ الوعي تحت تأثير الصدمة فقد لا يستيقظ أبدا. بل يجب علينا أنْ نرى ما وراء الحاضر. موجِّهين النظر إلى المستقبل، وأنْ نرى ما لا يراهُ غيرنا الذين دبّ في قلوبهم الفشل، والهزيمة.

لا يجب حرق جميع الأوراق

البعض من الناس عندما يفشلون في مسارهم الدراسي أو المهني أو عندما لا ينجحون في مسابقة توظيف ما أو عندما يخسرون أموالهم. يعتقدون أنها نهاية العالم، ويرتابون في قدراتهم، ويقسُون على أنفسهم. فتتراءى لهم بذلك ظلامية الحياة ووحشيتها. بل ويتوجّهون نحو ارتكاب الممنوع، وقد يفكرون جدِّيا في الانتحار. ولكن بعض الذين يمتلكون بصيرة نافذة، أعينُهم مصوّبة نحو ما وراء الفشل إلى مستقبل مليء بالفرح والنجاة والاطمئنان. والحقيقة أنّ ما يُؤسِّس النجاح الحقيقي هو رؤية بعدية لما وراء الحاضر البائس، وألّا يقع الإنسان تحت تأثير صدمة الفشل، فيطفئ جميع شموع الأمل.والقاعدة التي تجعل الفرح والأمل ممكنا في حياتنا هي: عدم إحراق جميع الأوراق فلا يجب أنْ نكسر في أذهاننا جميع أبواب النجاة، والأمل، والنجاح، وألّا نطفئ جميع الشموع.فلا نقلْ في أنفسنا: لقد انتهينا، وانتهى كل شيء من حياتنا، فلا ربما أنه عندما نحرق جميع أوراقنا، وندمِّر ما بقي لنا، يأتينا باب من النصر، والفتح على حين فجأة، فنندم على ما فعلنا. ونقول: يا ليتنا صبرنا قليلا لفزنا ولنجونا.

تغيرات القدر وصفحة أخرى للنجاح

قد يكون الانتصار صبر ساعة وقد تكون النجاة على بُعد صبر ثواني. تماما كالذي استيأس من انتظار نجاحه في الحياة، وبعد تفكير أحمق توصل إليه: تناول السم ليتخلّص من معاناته، وإذْ به يُفاجأ، باتصال ساعي البريد ليسلِّمه وثيقة مرسلة من طرف مؤسسة تُعلمه بنجاحه، فما إنْ يقرأ هذا الذي تناول السم تلك الورقة ويتيقن بأنّه نجح بالفعل وأصبح حلمه حقيقة يندُبُ نفسه ويندم ندما شديدا على تناوله المادة القاتلة التي بدأت تمزق أحشاءه الآن.

فقد يكون زمن استيآسك هو الزمن الذي يكتُب فيه القدر صفحات نجاحك، وقد يكون زمن الشدّة التي تُعانيها هو زمن قد تم فيه تحقيق مُرادك وأنت لا تدري.

الفتاة التي كنت تركض وراءها والتي طالما راودتها على قبول الزواج بك، قد أدّى بك استيآسك منها إلى إسماعها كلمات جارحة، وهي التي كانت في طريقها لتفاجئك بخبر أنّ والدها قد وافق على زواجكما، وبتعجّلك وفقدانك للأمل قد فقدتها للأبد.

إنّ الشهادات الدراسية الورقية التي مزقتها في لحظة غضب ويأس، تزامن معها وصول رسالة إليك تعلمك بقبولك في المنصب على أن تأتي بالوثائق المطلوبة.

ذلك الشخص الذي تسيء الظن فيه وتهاجمه بألفاظك الجارحة في طريقه إليك ليحمل لك مفاجآت في خصوص العمل والترقية. وذلك الكتاب الذي أحرقته في الماضي بدعوى أنّه كتاب بغير قيمة تحتاجه الآن وليس له أي نسخة في السوق.

خلاصات:

لو صبر الإنسان حق الصبر فلن تؤثر عليه الظروف القاسية، لأنّه مكوّن من روح. والروح يمكن أنْ ترفرف فوق كل الظروف والأوضاع، وهي التي يمكن أنْ تصعد فوق الجسد وفوق كل الأشياء. وتزداد صلابة هذه الروح عندما تتشبث بحبل الرجاء في الله. فالله هو الذي يفتح أبواب الفرج لكل نفس تيقنت أنّ أمره بين الكاف والنون.

- الظروف القاسية التي تصيب الإنسان تشبه اللقاحات الخاصة بزيادة مناعة لجسد، وإذا كان الجسم يأخذ مناعته باللقاح ضد الأمراض المختلفة، فإنّ الظروف القاسية هي مضادات حيوية تزيد من مناعة النفس ضد ظروف أخرى قاسية مشابهة. إذْ سيتحصّل هذا الإنسان الذي عاش ويلات البلاء على مناعة تجعله يتحمل ألم أي ظروف قاسية قد تكون مفاجئة ومباغتة. ولا شك أنه لن يتألم، كما يتألم الناس العاديون الذين تفاجئوا بهذه الظروف. لأنهم لم يعانوا ويلات البلاء من قبل. فقد اعتاد الإنسان المُبتلى، على ما هو أعظم من ذلك بكثير.