أوصاف عمرو !

عُرفَ بالحزم ؛ فولاّه رسول الله – صلّى الله عليه وسلم – جيشاً فيه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق !

وعُرِفَ بالسؤدد ؛ فولاّه عمر بن الخطّاب مِصراً حتى مات ؛ وقد قالَ عنه : " ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلاّ أميرا "!

وعُرِفَ بالدهاء ؛ فقال عنه - أيضاً - عمر بن الخطّاب :" رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب "!

وصفه الإمام الذهبي بعد ذلك بقوله : " داهية قريش ، ورجل العالم " !

ذاك هو أبو عبدالله :عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي .

لن أتحدث عن سيرته ؛ فهي مبثوثة معلومة ، ولن أسرد ترجمته ؛ فهي مُتيسرةٌ مُلقاة ، ولكني سأنتزعُ لكم منها باباً قد أعجبني وحِرتُ فيه !

إنها أوصافُ عمروٍ للأشياء ، وعجيبتُه في رمي الصفة على الموصوف : لكأنما في ذلك ألقى عُرياً على ثوب !

ولذا ؛ فلا تعجب إن سمعت بالفاروق يسألهُ " معاويةُ " من الشام فيسألُ عمراً في مصر !!

جاء أن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – قد أرسل لعمر بن الخطّاب – رضي الله عنه - يسألهُ ركوبَ المسلمين في البحر للغزو ، ويُخبره عن قُرب منازل الروم من بلاد المسلمين ويقول : " إنّ قريةً من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم "!!

فيكاد ذلك أن يأخذَ بقلبِ عُمر ؛ فيكتبَ من فوره إلى عمرو بن العاص قائلاً : صِفْ ليَ البحر وراكبه ، فإن نفسي تنازعني إليه ( الجهاد والغزو ) .

فكتب إليه عمرو : " يا أمير المؤمنين ، إني رأيتُ خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركنَ خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قِلّةً ، والشك كثرةً ، هم فيه كدودٍ على عودٍ، إن مال غرق ، وإن نجا برق". فلما قرأه عمر كتبَ إلى معاوية : " لا والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً ".

فبالله عليكم بعد هذا الوصف العجيب للبحر من عمرو : إلاّ وألبستموه – بعد ذلك - على ركوب الجو اليوم ( الطائرة ) ثم إليّ فارجعون !

لم ينحصر وصفُ " عمروٍ " على الطبيعة يرسمها بكلماته ؛ بلْ إنّه زادَ على أنْ وصفَ شعوباً بأكملها ، وبصفاتها التي جُبلت عليها وتمكنت منها !

يا أكثرَنا قد سلبَ لُبّهُ ، وأخذَ بمجامع عقله ما قد فعلته العديدُ من الأمم الأوربيّة من نهضةٍ سريعة ، ووثبةٍ نشيطة - بعد حروب كانت عليها طاحنةً قد أكلت الأخضرَ منهم واليابس فيهم . ولكنها مع كل هذا قد عاودت النهوض والوثبة على الفور منها والعَجَلة ؛ فاستجمعت قوتها ، وأدارت عزيمتها ، ثم وقفت – من بعدُ - سامقةً شاهقةً ؛ وما حال ألمانيا وفرنسا وبعثهما من مرقدهما منّا ببعيد... فماذا – يا ترى – قد قال " عمرو بن العاص " عن تفسير هذا العزم ، وتلكم الوثبة عند الفرنجة ؟!

روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند عمرو بن العاص رضي الله عنه: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس ". فقال له عمرو: أبصر ما تقول . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك ، إن فيهم لخصالاً أربعاً : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين و يتيم وضعيف ، وخامسة حسنة وجميلة : و أمنعهم من ظلم الملوك " ا . هـ .

فهلُمّ معي نفصفص هذا الوصف العجيب من هذا الرجل اللبيب : إنّ من عرَفَ الأوربيين قراءةً عنهم أو معاشاً معهم ؛ فإنه يلحظُ منهم الحلمَ في الرزيّة ... حتى لقد قيلَ : شعبٌ بارد !

ومن تفكّر في حال ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الأمم الأوربيّة فإنّه سيجدُ : الفَواقَ السريعَ من المُصاب - مع الكرّ واستخلاص الثأر على العجلة .

ومن طالع – بعد ذلك - في اهتمام أثريائهم بالأعمال الخيريّة ، والخدمات الإنسانيّة ؛ فإنه سيلحظُ الخيريّة في شرهم .

وأمّا الخامسة : فلعمرُ الله قد وقع عليها عمرو ؛ إذْ أن تلك المجتمعات الأوربيّة قد حققت قدراً عالياً من العدالة الاجتماعية ؛ فصرنا نرددُ بعدها: إن الله لينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة !!

فهل رأيتم ما فعل عمرو ؟!! ومن سيلوم بعدها عمرَ بن الخطّاب إنْ قال بعد رؤيته للرجل الذي يتلجلج في كلامه : " خالقُ هذا وخالق عمرو بن العاص واحد " !!

لم يكتفِ عمروٌ بوصف الشعوب المُتباعدة وإحسانِ فَهمِها ؛ فله من الشعوب القريبة تدبرٌ وقراءة .

قال رجل لعمرو بن العاص صف لي الأمصار ! فقال : " أهل الشام أطوع الناس لمخلوق وأعصاه للخالق ، وأهل مصر أكيسهم صغارا وأحمقهم كبارا ، وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها ، وأهل العراق أطلب الناس للعلم وأبعدهم منه " .

من زار الشام سيُفجع بأنّ التاجر هناك : يشتمُ المُقدّسات - فيما هو يقول بين ذلك للزبون : على رأسي ، تؤبرني ، تؤمرني ... الخ .

الطفلُ المصري ذكيٌ لوذعي ، ولبقٌ مؤدب ؛ يكره الكذب والغش وسيء الأخلاق ... لكنّه لا يستمر على ذلك في الكِبر .

وأمّا الحجاز فعمروٌ منه ، وهو أعلم مني به .

فيما أنّ العراق يطلبُ العلم في ذُباب الحرم : أيُقتل ! ولكنه يبتعد عن هذا في " دم الحُسين " !

وهكذا فقد مضى عمروٌ يصف بدقّةٍ كلّ شيء يقع عليه بصره حتى اللحظات الأخيرة من حياته ؛ إذْ وصف الموتَ لابنه وهو في سياقته آنئذ !

كان عمروٌ - رضي الله عنه - يتمنى لو أن يجد من يَصِف له الموت قبلَ أن يحِسّه هوَ بنفسه !

وقد كان – رضي الله عنه – يَعْجَبُ من الرجل ينزِلُ به الموت ثمّ لا يستطيع أن يصفه لمن حوله ، ولكن ماذا حدث لعمروٍ عند الموت ؟! وهل وصف الموت – كما كان يفعل دائماً – بدقة ؟!

عندما نزل الموتُ بعمروٍ بن العاص - رضي الله عنه - قال له ابنه: يا أبت قد كنت تقول : إني لأعجب من رجل ينزل به الموت ومعه عقله ولسانه كيف لا يصفه ؟!. فقال عمرو : " يا بني الموت أعظم من أن يوصف ! ولكن سأصف لك منه شيئاً ، والله لكأن على كتفي جبال رضوى وتهامة، وكأني أتنفس من سم إبرة ! ولكأن في جوفي شوكة عوسج ، ولكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما " .

فرحماك اللهمَّ رحماك .

وهكذا طيلة حياته قد جابَ عمرو – رضي الله عنه – كُنهَ الأشياء : وصفاً ودِقّة ؛ إلاّ أنّه لم يُفلح في واحدة ، وليته أفلح ؛ إنها صفةُ خِلقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - !

فقد جاء من خبره حين وفاته أنّه قال : " ... فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلّ في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني إجلالاً له ، ولو شئتُ أن أصفه ما أطقتُ ؛ لأني لم أكن أنظر إليه إجلالاً له ... " !

قلت : وليته فعل .. ليته فعل !

وبعد ؛ فهذه لمحةٌ عن أوصاف عمروٍ ، مع مُلحٍ جاءت فيها ؛ وإلاّ فهو الذي قد قيل عنه : داهيةُ قريش ورجل العالم !

آيدن .