امرأة بألف امرأة


مثل الوردة الحمراء نبتت في موضع موحش هكذا رايتها، قادمة بفستانها الاحمر، ومعطفها الفرو، وسيجارتها التي لم تفارق اصابعها. بدت وكأنها أحدى تماثيل متحف الشمع لشحوب بشرتها، وعينيها الواسعتين الغائرتين التي تحيط بهما هالات الحزن، أو ربما المساحيق التي كانت تزينها أوحت لي بذلك. رأيت فيها لوحة جمالية على أن التقطها بكاميرتي. وقفت بعيدا دون أن تلمحني، فالتقطت لها تلك الصورة. ربما رأت كاميرتي، تصويري لها، فافتعلت تلك الحركة الماجنة. وكأنها محظية تنتظر القطار ليحملها إلى سيدها. أو سيدة عاشقة تريد الفرار من عشق أتعسها، أو زوجة واقفة تنتظر زوجها المسافر كل ليلة فاهلكها الانتظار.

أعلن القطار الواقف بالرحيل، فهممت بالركوب إليه، وأنا متتبعا بنظراتي إليها ماذا ستفعل؟ هل ستركب، أو تنتظر، أو ستذهب؟ لكنها ظلت تسير وحيدة، وأنا من النافذة أراقبها. إن فستانها الاحمر يثيرني مع غنج حركاتها، وكأني ثور تريد مني السقوط أرضا مهزوما أمامها لتسال دمائي عند قدميها، وتنزع قروني بيدها. آه ما أجمل شعرها الأشقر عند انعكاس الشمس عليه، وكأنه خيوط الشمس أرادت أن تستريح على رأسها تحت فضاء قبعتها.

ظلت واقفة متوترة بعض الشيء، وبتلهف أسرعت راكبة القطار. أحسست خفية بالسعادة لأنها ستسافر معي تلك الأسطورة من عالم الخيال. أنها المرأة، وأنها السر الذي احاول كشف ستره بين طيات الشعر، وتضاريس الجسد. ومناخ النفس. جلست مسحورا أتأملها بصمت فقد أخرجتني إلى خيالها من عالمي، وأنا أطيل النظر إلى هضبة نهديها وحديقة وجهها، فذبت ما بين كرزية شفتيها، وتفاحة وجنتيها، والتوت الأزرق في عينيها. فباتت وطنا متكاملا لا ينقصني إلا النوم على ترابها أستمع إلى ثرثرة نهرها.

رفعت ساقا على ساق، فأصبحت مذبوحا تحت قدميها. فلا وطن أوى اليه غير خاصرتها. فبدوت منكسر العين شقي القدر. أجمع شتات قمحي المتناثر، وألقيه فوق شعرها الاشقر، ليختلط به، فألملم بقاياي منه ربما أجمع كسرات خبز تشبع جوعي وخواء روحي منها. تمنيت سماع صوتها سأتبع ضوء ثغرها الذي يضيء لي عتمة حياتي وأسير معها، وأنا اخذها بيدي على ممشى أخضر تغرد الطيور من فوقنا.

تحرك القطار بنا منذ زمن. كانت تذهب إلى مكان وتعود إلى مقعدها، وكأنها عارضة أزياء على خشبة العرض تتدلل بثوبها. تخيلتها بكل مرة بفستان بكل الألوان والتفصيل من لباس البحر حتى ثوب الزفاف. أنني أسير بجانبها تتأبط ذراعي إلى المذبح ليعقد قراننا. نقف أمام الكاهن ويشير إلينا بالاقتراب فيصلي لنا، ويسالني، ويسألها القبول حتى تحين اللحظة التي يطلب مني تقبيلها. فقبلتها بشغف وكأنني لم اقبلها مسبقا وأنا كل يوم شفتاي على شفتيها.

حملتها إلى بيتنا وبدت أمامي كحورية في منامات شتى تغيرها لي، فاعشق خطواتها عليها، واستلقائها على الفراش، وتقلبها، وحركاتها، وكأنها تسبح في المحيط فأغرق معها. فأصبحنا معا كعازفي يتحدثان النغمات، ويتبادلان الآهات. فكانت القيثارة وأنا الناي. أن القطار يهتز بعنف أشعر بك، وبعنفك كقطار ضمني فمت منتحرا تحت شفراتك.

توقف القطار، فاستيقظت من خيالاتي، ورايتها تقوم مسرعة تهم بالخروج منه. أريد اللحاق بها، أريد أعرف من هي من تكون من ينتظرها. أنها امرأة بألف امرأة. نزلت قبلها، ووقفت انتظرها. رايتها تنزل قدما بعد قدم. ثم تقف تنتظر. لكنها لا تنظر إلى الخارج أنها تنظر إلى الداخل إلى القطار. ماذا هل تريد العودة والركوب مرة أخرى؟ لِمَ إذا جمعت أغراضي سأعود لأركب معها لأواصل رحلة أملى، ولأكمل بقية لوحتي. أنزل فراشا أبيض يضم جسد طفل صغيرا سارت إليه كالملهوفة. فدنت منه، وقبلته. شعرت فجأة بوخز الضمير، ورايتها تتقدم إلى سيارة اسعاف تقترب تحملها وتحمل صغيرها. رحلت مبتعدة، وتلاشى الحلم، وظلت اللوحة تسألني أن أكملها. توقفت الريشة عن رسم تخيلاتي الماجنة، فلم أستطع أن ارى غير أم مكلومة على طفلها، فأكملت الرسمة حتى انني تمنيت أن اكون صغيرها.