ابنة الريح

شذا الخطيب

2013

الفصل الاول

 

هاج البحر بشدة وضربت الأمواج الصخور، وارتفع الزبد رابيا وحامت الدوامات كأعاصير مدوية تحت قاع البحر. واشتعلت السماء برقا ومزق صوت الرعد سكون الليل.  وهطلت الامطار فأغرقت الشواطئ والحقول، وابتلت الشوارع والأرصفة والمحلات، واسقطت السقوف الخشبية، ودخلت البيوت وأخذت معها ما أخذت. أنه غضب الرب. أنه غضب الرب.  سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.  توبوا إلى الله ليغفر الله لكم. تب الله يا سيدي تب إلى الله

أخذ يستمع إليه بصمت وهو لا يزال يكرر الآية الكريمة ويستغفر الله كثيرا ويكرر: تب إلى الله يا سيدي تب إليه.

أخذ نفسا عميقا، وخطا نحو عتبات سلم بيته إلى الطابق الأعلى تاركاً خلفه خادمه يبتهل وحيداً. دخل غرفته واتجه إلى الشرفة وفتح بابها الزجاجي وخرج فأمطرت بشده عليه. تأمل هيجان البحر ونسى نفسه للحظات حتى أخرجه من شروده صوت رعد قوي تساقطت الأنفس رهبة من قوته. فتراجع إلى غرفته مرتجف القلب.

نظر إلى ساعته التي أشارت إلى الثانية فجراً، مشى قليلا وفتح درجاً واخرج منه دواء مسكن. كاد الصداع يفجر رأسه منذ المساء تماسك على نفسه، فلم يستطع التحمل أكثر خاصة بعدما جفاه النوم وارقته قوة الأمطار.  استلقى على فراشه العريض في غرفته الواسعة عتيقة الطراز من فراش خشبي فخم أسمر اللون من خشب الصندل. محاطة بجدران زيتية اللون تزينها ستارة من المخمل. غرفة لم تتغير مذ سنين طويلة حين كان شابا في العشرين. وهو الآن يخطو نحو الأربعين من العمر.

 طويلا قوي البينة عريض المنكبين أسمر البشرة متوسطية اللون " نسبة لسكان البحر الأبيض المتوسط " عريض الوجه مستقيم الأنف عيناه كالثعلب المتربص على فريسته عسلية اللون وهذا ما زادها سحراً.  تخطف الناظر بجاذبيتها فيصبح فريسة نظراته المتوقدة ذكاء.  وما زين حسنه ابتسامته الساحرة التي تجذب الآخرين فتدفعهم للتبسم له تلقائيا. وتحديدا مع تلك الغمازتين التي تضيء وجهه. يتمتع بحضور جذاب. نام هذه الليلة وحيدا كعادته منذ خلق. في هذا البيت. الذي ورثه عن والديه السوريين المهاجرين إلى قبرص قبل ولادته. لم ينجبا غيره توفي والديه قبل بضع سنين. فمات أبوه لكبر سنه وتوفيت والدته كمدا لرفضه ان يتزوج. فلم يكن يشغل تفكيرها غير أمر زواجه واعتزاله حياة العزوبية وعلاقاته النسائية المتعددة، فجل ما كانت تتمناه أن تراه مستقرا متزوجا وأن ترى أحفادها قبل مماتها. الى أن أدركها الموت. حزه شعور بالحزن حينها بأنها توفت وهي عاتبة عليه. ولم يلبث طويلا، فذابت الفكرة من رأسه وحل محلها شعور بالرضا على نمط حياته، وعاش أيامه كما عهدها وحيدا مستأسدا بعرينه ومملكته في البيت وبمرسمه كونه رساماً وشاعرا في بيته، وأستاذاً جامعياً في كلية الفنون الجميلة، وخبيراً فنياً في معرضه الخاص للتحف والفنون.

***

 

أشارت الساعة الى التاسعة صباحاً حينما دخل حرم الجامعة بسيارته الفوكس واجن الذهبية. ركنها جانبا ونزل وهو مرتديا نظارته الشمسية بالرغم من أن الجو كان غائماً في شهر تشرين الأول. وكان اليوم بداية العام الدراسي للسنة الجديدة. توقع ألا يرى الكثير من الطلبة نظرا لسوء الحالة الجوية. رغم ذلك رأى البعض منهم وخاصة المستجدين.  مشى قليلا ودخل مبنى الإدارة وألقى التحية على بعض الموظفين.  جلس قليلاً إلى مدير الجامعة وتناقشا سويا على بعض المسائل ثم خرج. واتجه صوب مكتبه. لم يكن الأستاذ العربي الوحيد في كلية الفنون الخاصة في جامعة ليماسول الخاصة، وأيضا في الكليات الأخرى. فكان الكثير من العرب يعملون فيها والكثير من الطلبة العرب منتسبون لها.  لكن كان مختلفا عنهم فهو لا يعرف له وطنا غير قبرص. ولا عائلة غير الجامعة وكأنها بشرا تؤنس عليه وحدته.

 

قضى كعادته في اليوم الأول ما بين الجلوس في مكتبه واستقبال تهاني زملائه ببدء العام الدراسي وزيارة البعض في مكاتبهم. وتفقده لصالات الرسم ومعاينة ما ينقصها من أدوات. رغم كونه رساماً ويميل إلى الفوضى في حياته، إلا أنه لا يحب أن يمارس الرسم في جو تشيعه الفوضى، فقبل البدء بالرسم يتأكد بأن كل شيء حوله في مكانه حتى لا تخرجه أفكاره بالنظر إلى أمور تعترض عليه وتشوش فكره وانتباهه، فذات مرة كان مستغرقاً بالرسم فلفت نظره أنبوب ألوان ملقى على الأرض، فأزعجه المشهد وأخرجه من ترتيب أفكاره، فألقى فرشاته جانبا وذهب ورفعه عن الأرض ووضعه في علبته، واستشط غضباً سائلاً عامل التنظيف من فعل ذلك.  لكن لا جواب فالأساتذة كثر والطلبة أكثر.

 أنهى ما بيده ومشى عائداً إلى سيارته فأوقفه أحد زملائه الذي لم يره طيلة الإجازة الصيفية قائلا له: رعد مطر أين أنت يا صديقي اسأل عنك منذ الصباح؟

فابتسم إليه رعد قائلا: هلا بالعزيز غسان. كيف الصحة وكيف لبنان والأهل إن شاء الله قضيت إجازة طيبة؟

 -الحمد لله لا أحد يترك وطنه إلا مضطرا

 -فابتسم قائلا: لا وطن لي إلا هنا.

- و أنت هل أبحرت إلى إيطاليا ؟

- عم قضيت فيها شهرين

- يبدو انك أنجزت الكثير

فضحك قائلا: نعم الكثير من المغامرات

ضحكا معا ثم قال غسان: أخبرني إلى أين ذاهب الآن؟

- سأعود الى البيت فقد انتهى عملي

-  حسنا لماذا لا تأتي للغداء في بيتي   

- اجعلها في فرصة أخرى أشعر بصداع قليلا.

 -حسنا متى ستبدأ محاضراتك

- ربما الاسبوع القادم. لا أفكر ببدئها هذا الاسبوع وماذا عنك؟

 -لقد بدأتها منذ اليوم

 - معقول ؟!

 -و هل الطب يتأخر لحظة

- اعانك الله.

 

حرك سيارته وبدا القليل من المطر بالهطول والأجواء مالت إلى الغروب. قاد سيارته باتجاه طريق الشاطئ الطويل الممتد من شرق ليماسول الى الغرب. أوقف سيارته ونزل منها وارتدى معطفه الطويل الواقي من المطر. ومشى إلى السور الحجري ووقف متأملا هيجان البحر. كانت الريح تزداد قوة والمطر يتساقط بنعومة تأمل تقلبات السماء وألوانها من الرمادية والسوداء إلى السماوية والبيضاء وكأنها رسمت بفرشاة ألوان سبحان الخلاق. أخذه منظر جمال السماء. ثم أنزل بصره وتأمل القليل من الوجوه المارة فكل شيء عنده يمثل موضوعا جماليا يستحق الرسم مع لمساته المبدعة الخاصة به. مشى الهوينا ورأى بعض الطلبة على درجاتهم كما تعود أن يراهم في تلك الساعة التي قاربت نحو الرابعة عصرا.  بعد عودتهم من المدرسة يقددونها متسابقين على طول الشاطئ. تأمل طفلة صغيرة تلعب بكرتها وأمها تلحقها كانت كالسوسن الأبيض لجمالها ورقتها، فابتسم ضاحكا فتقدمت إليه فتراجع قليلا خوفا من غضب أمها. فأبت الطفلة إلا أن تقترب منه مبتسمة فربت إلى رأسها وجاءته والدتها معتذرة، فابتسم بلطف وتمنى لو كانت معه بضعة حلوى ليعطيها لها، فلمح كشكا يقف جانبا. ذهب وأبتاع بعض الحلوى، فما أن عاد إلا وقد رأى المرأة ابتعدت مع طفلتها فهز كتفه أسفا. أخرج مصاصة الحلوى وأخذ بمصها مستمتعا كطفل صغير. وفي غفلة منه مرت أمامه فجأة دراجة هوائية سريعة تسابق الريح، فوجم واقفاً لكونها كادت أن تصطدمه فالتفت يمينه فوجد قائدها يبطئ سرعته، ويتوقف تدريجيا، ثم يستدير مرة أخرى عائدا إليه. كان صبياً أو فتاة لم يعرف بالضبط حتى اقترب منه وأزاح الخوذة عن رأسه كانت صبية دون العشرين. وكأنها صبيا ببنطالها القصير. لولا رقة جسدها وهيئة قميصها ونهديها البارزين من تحته لقال عنها أنها ولد طويل الشعر. وبكلمة واحدة قالت: آسفة، ثم تراجعت خلفا واستدارت وذهبت مع الريح فقال متمتما: ابنة الريح.

***

أمست الأجواء أكثر برودة واشتدت الرياح مع الأمطار فاستدار راجعا الى سيارته. وصل إلى بيته المبني على تلة منحدرة تضربها أمواج البحر في ساعة متأخرة من العشاء. أوقف سيارته ودخل. كان قد تناول طعام عشاءه في أحد المطاعم الساحلية وحيداً كما تعود أحيانا يتأمل بالبشر. إن كان ظاهريا لا يجلس معه أحد إلا أن هاتفه المحمول من كثر الاتصالات لا يتوقف عن الرنين. التي تعتبر أنسا له، وهو يجلس وحيدا يتناول طعامه. فاخذ يقطع شريحة اللحم ويتناول البطاطا مع بعض النبيذ الأحمر والسلطة اليونانية. ويرد على الاتصالات المتعددة ثلاثة أرباعها من أصدقائه الشباب وبعض المقربات من النسوة إليه والربع الأخير كن صديقاته يجامل هذه ويتغزل بتلك وتمضي المكالمة، ولا يترك كل ذلك أثرا في نفسه غير المتعة الحسية التي تذهب مع الريح ويبقى القلب فارغا ينتظر سيدة قصره. أغلق الباب خلفه ورمى بمفتاحيه جانبا واسند ظهره على أول كرسي وأغمض عينيه مسترخيا، فسمع صوت خادمه أبو خالد قائلا: أنها تنتظرك

فتح عينيه عابسا بحاجبيه سائلا: من؟!

-     تلك في الغرفة.

حرك كفيه متعجبا وقام إلى غرفة جانبية في الطابق الأول، فتحها وكانت شبه مظلمة إلا من إضاءة خافته دخل اليها، وأضاء نور الغرفة، فوجدها شبه عارية تغطي جسدها بوشاح حرير ياقوتي اللون. على شفتيها اللون ذاته وشعرها الأسود وكأنه خيمة سوداء تتربع على رمال صحراء من جسد ذهبي اللون وتلك النظرات المترقبة إليه كترقب يمامة عن سر يكشف. ابتسم لها وأشاح ببصره عنها قائلا: اعدلي من جلستك.

لم تجبه وبقت كما هي. فسألها: منذ متى وأنت هنا؟

أجابت: ألم يخبرك خادمك؟

 -لا لم يخبرني

 -منذ ساعة

 تأملها ملياً واقترب منها وجلس بجانبها على فراش قوي من الإسفنج وأزاح عنها ما يسترها فبدا جسدها النضر أمامه فاخذ يدقق النظر إلى تفاصيله وهي مستلقية بغنج وبثبات لا يرف لها جفنا أمام قوة نظراته. وبحركة من رأسه عدلت من جلستها، فاقترب منها وتلمس بيده سريعا أجزاء جسدها، ثم أحاطها بالوشاح وطلب منها أن تستلقي مرة أخرى. وقام بتعديل موضع يديها وساقيها وحركة رأسها وانسدال شعرها. ثم أخفت الأنوار قليلا وأخذ كاميرته والتقط لها صورا متعددة. وضع كاميرته جانبا. وسحب حامل اللوحة وجلس أمامه وبقلم خط الخطوط العريضة. أنهى رسمه وابتعد إلى الباب وبإشارة من يده سألها أن تلحقه مع ملابسها الملقاة جانبا. فجاءت إليه وتبعته إلى غرفته وأغلق عليهما الباب حتى الصباح.

***

تملل على فراشه بعد ذهابها لم تكن المرأة الأولى التي تأتيه طالبة منه أن يرسمها، ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي يعاشرها سبقتها مرات وقد تليها مرات عدة هذه حياته وكانت هي إحدى عشيقاته.  لم يهتم بهن، فقط حبا في تلك اللحظات الشهوانية التي يعيشها معهن وما أن يغادرن فراشه لا يشعر بهن، ولا يتركن أثرا في نفسه بل أحيانا ينزعج منهن. رغم ذلك تغلبه عاطفته الذكورية فينجذب إليهن ويعاشرهن ويتركهن بعد ذلك يذهبن مع الريح فلا تأثير لهن في حياته. لم يفكر بالزواج مطلقا أحيانا تأتيه رغبة في أن يصبح أبا وأحيانا يطرد الفكرة من رأسه ويعيش حياته وحيدا مع لوحاته وعشيقاته الكثيرات أن كن مع الوقت نقص عددهن فسنويا لديه من أربعة إلى خمسة عشيقات وكأنه يبدلهن كما يغير ثيابه. حتى مع الوقت شعر بالملل، فاكتفي بواحدة، وكانت تلك أخر امرأة تعرف عليها منذ شهرين في أحد المطاعم كانت تتناول العشاء مع أصدقائها، فتبادلا النظرات معا، ثم دعاها للرقص ولشرب كأس من الخمر. لم يمض الوقت حتى حملها إلى بيته كانت جميلة كلوحة مفعمة بالحياة أراد رسمها. أجمل ما فيها ذلك القوام الذي شده إلى تجسيده على الورق. كانت يونانية وعرف أنها عارضة أزياء وهذا ما ألهمه كثيرا وساعده. ولكن لم يعرض عليها أن يرسمها بادئ الأمر أراد أن يعرفها أكثر. وهي فاجأته اليوم بحضورها واستعدادها وكأنها ملت الانتظار فواجهته برغبتها. فودعها بعدما أعطاها موعدا لجلسات أخرى. اغتسل ونزل إلى الطابق الأرضي. ووجد خادمه يقف ومعه حقيبة سفر.

عبس لرؤيته واقفا أمام الباب كان رجل في السبعين من العمر ضعيف البنية قوي الإيمان أراد العيش معه ما تبقى من عمره لأجل السيدة والدته. فصبر عليه وعظه كثيرا على ما يفعله من فحش، فأبي أن يرتدع. وكانت الليلة الماضية فوق تحمله. جلس رعد قباله قائلا: افعل ما تراه مناسبا لن أستطيع منعك كما لا أستطيع منع نفسي.

-سيدي ما تفعله بنفسك تهلكة لا يرضاه الله تعالى من مؤكد أن والديك غير راضيين عنك.

-أبا خالد هذه حياتي.

-حسنا و حياتي ان أتركك

-كما تشاء

حمل أبو خالد حقيبته واتجه ناحية الباب فاستوقفه رعد قائلا: حسنا قبل أن تذهب لك دين علي

نظر إليه أبو خالد باستفهام فاقترب منه رعد قائلا: انتظرني.

ذهب رعد لبضعة دقائق وعاد يحمل في يده مغلفا فيه مالا فوجد أن أبا خالد سبقه بالرحيل وأغلق الباب خلفه.

***

جلس في البهو الواسع الذي تطل عليه درجات خشبية إلى الطابق الأعلى وعلى جوانبه ثلاثة غرف أخرى. اشتراه والده عندما هاجر إلى قبرص، وعمل في مجال الفنون أيضا. فذلك المحل التجاري الذي يشرف عليه ملكا لوالده فقد ورث عنه حبه للفن والإبداع وكانت أمه خياطه تخيط الثياب على أجمل صورة وزبائنها كثر من النسوة العرب المهاجرات أو القبرصيات فصيتها كان واسعا ومعروفا إلى الجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط في كلا من لبنان وسورية وأيضا جنوبا الى الإسكندرية.  الحياة هادئة بشكل لكن تغير الوضع خلال السنوات الثلاثين الاخير بسبب ازدياد عدد السائحين العرب. إلى حد انه لا يشعر بنفسه وحيدا أمام هذا الكم الهائل منهم. حتى أن لهجته السورية امتزجت بالعديد من اللهجات العربية الأخرى. وأخذ يرطن مع كل إنسان على حسب لهجته. 

 

غير ملابسه وكان الوقت قد شارف على العاشرة صباحا. نظر إلى جدوله ورأى انه فوت محاضرة كانت عليه لطلبة السنة الثالثة. عموما لا يهم فما زال الوقت مبكرا ومعه الآن محاضرتين لطلبة المرحلة الأولى والثانية. استعد وقاد سيارته على الشاطئ. فوصل إلى الجامعة ودخل قاعة المحاضرة الخاصة بالرسم ووجد بعض الطلبة. عرفهم على نفسه ببرود وأخذ يشرح لهم أساسيات الرسم.

 

كانت توليفة معتادة من الشباب والبنات فالبعض منهم سيتخصصون بتخصصات مختلفة خاصة أنها مادة عامة لجميع الطلاب لذلك كان العدد كبيرا.  لذلك لم يعر اهتماما على من حضر، أو لم يحضر.  وأنهى محاضرته ودخل إلى الثالثة وكعادته اليومية، ولكن اليوم يعتبر استثنائيا عليه أن يدبر خادمة تعينه. سأل واستقصى، فدلوه على أرملة يونانية في الستين تعيش وحيدة. ولكنها قوية رضخ للأمر وجاء إليها وأتفق معها واصطحبها معه إلى بيته وعلمها كل ما يمكن أن تفعله.

الفصل الثاني

أمطرت الليلة بشدة أيضا فلا تزال السماء تعاند أهل الأرض بقوة الرياح. دخل بعض من الماء من حواشي النوافذ، فابتلت الأرض المكسوة بالخشب. رأت نفسها تسبح وتسبح فأرادت الخروج من البحر فلم تستطع واخذت تغوص إلى العمق الى عمق أعمق. فاستيقظت فزعة من النوم على قوة هدير الرعد.   تلمست جسدها الغارق بالرشح رغم شدة البرد. تمللت قليلا، ثم قامت ووضعت قدميها على الأرض. رات الأرض مبتلة فوضعت يدها على رأسها بضيق شديد، وقامت بكسل وأضاءت الأنوار ونظرت إلى غرفتها الصغيرة المليئة بمياه المطر. اتجهت إلى حمامها اخرجت منه ممسحة خشبية وأخذت تزيح المياه عن غرفتها باتجاهه. أستغرق ذلك منها بعضا من الوقت. ألقت ما بيدها وجلست على حافة سريرها ولمحت من طرف عينيها الساعة التي أشارت إلى الرابعة صباحا. سألت نفسها: هل سيأتيني النوم؟

 

  استلقت ودثرت نفسها في الفراش فشعرت بالضيق وبدأت الدموع تنساب منها، ثم أخذت تجهش ببكاء مرير فاق على تحمله جسدها الضعيف. كانت في الثامنة عشر وحيدة مع عمتها التي تكفلت بها بعد وفاة والدتها وزواج والدها وسفره إلى كندا. فبدلت عمتها ما بوسعها للعناية بها والإنفاق عليها مما تكسبه من مهنة الطبخ في أحد المطاعم السياحية التي يزورها الكثير من السياح العرب ويشتهون طعامها العربي من المحاشي والمقبلات بكل أصنافها والمشويات بكل أنواعها. كانت لا تلقاها إلا متأخرا وأحيانا لا تراها وتحديدا في فصل الصيف وكثيرا ما رافقتها.

التحقت هذه السنة بالجامعة فالشيء الوحيد الذي منحه لها والدها هو تكفله بنفقاتها الجامعية ودفعه لها دفعة واحدة، وهذا مما أقلقها حيث أن عليها الحرص على عدم أنفاقه خارج متطلباتها الجامعية لأن غير ذلك سيوقعها في أزمة مالية هي غنية عنها. وأن كانت تملك بعضا من المال الذي ورثته عن والدتها إلا أنه شارف على الانتهاء لإسرافها على شراء الملابس وأدوات الرسم المرتفعة الثمن. فأنبتها عمتها كثيرا وحذرتها مرارا. عليها أن تكون أكثر حرصا فقد يأتي يوم تشعر فيه بالعوز والحاجة فلا تجد من يساعدها فالحياة دون مال أما الموت جوع وأما الرذيلة، لذلك تحرص على تنبيهها باستمرار فأرجح الاحتمالات قد تجد عبق نفسها يوما وحيدة دون قريب أو صديق يعيلها فتصبح سمكة ضعيفة وسط المحيط تنهشها الحيتان.

 

كانت بشكل متقطع تتلقى بعض الهدايا من والدها أومن أقارب والدتها في إسرائيل كونهم من عرب إسرائيل. فهي فلسطينية الأصل قبرصية المنشأ. تزوج والداها وهاجرا إلى قبرص وهما يحملان الجنسية الإسرائيلية إلى أن تخلا عنها وحملا بعد ذلك الجنسية القبرصية لرفضهما القاطع للجنسية الإسرائيلية.  أنجباها بعد سنة من الزواج، وكانت عبق فتاة بيضاء جميلة شفافة بنية العنين ذات شعر اسود طويل رشيقة القوام وكأنها صبيا صغير.

لم يدم زواج والديها طويلا فتوفت والدتها غرقا وهي في الرابعة من عمرها. كانتا تسبحان معا في جو كان بدايته هادئا، فهاج البحر قليلا لشدة الريح حتى تراكمت الكثير من السحب، ونزلت منها بعض من قطرات المطر، فخرجت عبق من البحر لشعورها بالتعب. وظلت والدتها تعوم فيه الى ان اختفت تدريجيا، عاد والدها الذي ذهب ليبتاع شيئا. فانتبه أن عبق تقف وحيدة، فسألها عن أمها لم تعرف ماذا تجيبه إلا أنها أشارت إليه قائلة: أمي في البحر.

عبس والدها لشعوره بالقلق لعدم وجود أثر لزوجته، وبدا المطر أثناء ذلك ينزل بشدة اضطرب قلبه خوفا. ماذا يفعل أ ينزل البحر ويبحث عنها ويترك طفلته وحيدة؟  تلفت مرارا فربما يراها تخرج من جهة أخرى فهي سباحة لا بأس بها. تأخر الوقت شعر كثيرا بالاضطراب. والموج بدا يهيج أكثر والأمطار تزداد غزارة فرحل المصطفون وبقي لوحده. حمل طفلته إلى السيارة.  وأمرها أن تبقى هادئة.

وقف ينظر إلى البحر طويلا وكل مرة يزيد شعور في داخله أنها غرقت فأخذ هاتفه واتصل بالشرطة الذين حولوه على خفر السواحل فحضروا إليه بعد ربع ساعة.  وبدأ البحث عنها مضنيا ولكن لا أثر لها أبدا. اختنقت عبراته، وضاق تنفسه شعر بالخوف أن نزل فمن المحتمل أن يغرق أيضا فمن سيعتني بأبنته.

 مضت ساعتان حتى انقدوها وهو غير مصدق أنه يراها ميتة بعدما كانت حية ترزق قبل بضع ساعات وتملأ الدنيا مرحا. كاد يغمى عليه حاول رجال الإسعاف مساعدته والعناية بابنته. حملوا جثمانها إلى المشفى وبعد أيام تم دفنها بهدوء. شكلت هذه الواقعة صدمة على الجميع حتى أن عبق ابتعدت عن زيارة البحر شهورا عدة. ولم يصطحبها إليه والدها.  رغم نصح البعض له أن عليه ألا يبعدها عنه، فهذا سيساعدها لتكن   أكثر قوة وصلابة، وألا تخافه لمجرد أنه خطف والدتها، وإن كان الموقف مريرا، فعليها أن تكون قوية في مواجهة النوائب.

 بقت لا تتكلم لفترة من الزمن وتخاف الاستحمام. فقد كانت تحمل غصبا إلى الحمام. حتى الماء لم تطق شربه. عولجت عند طبيب نفسي الذي ساعدها مع الوقت على تجاوز محنتها، فظل البحر يأجج الخوف والغضب في داخلها، فهو من سرق منها الحب والعاطفة، وتركها وحيدة، فلولاه لما توفيت أمها ولما تزوج أبوها وهاجر عنها وتركها وحيدة مع عمتها. فبرغم صغر سنها إلا أنها ما زالت تذكر الواقعة جيدا وأحيانا تداعب أحلامها.  ظلت وحيدة مع أبيها شهورا حتى قدمت عمتها نادية من عكا لتهتم بها. وذلك بطلب من والدها الذي لم يستطع كليا الاهتمام بها، وخاصة أن عمتها لم تتزوج مطلقا وبسهولة تستطيع القدوم إلى قبرص وإيجاد فرصة عمل لكونها طباخة محترفة في إحدى المطاعم السياحية التي تملا قبرص كلها شرقا وغربا.

أخفى عوني بشارة أثناء ذلك رغبته بالزواج من صديقته السورية الذي تعرف عليها لاحقا، فما أن أحس باستقرار أخته نادية مع ابنته حتى أخبرها بنيته. لم تعترض نادية بل سرها ذلك أن ترعى عبق كابنتها لتشبع رغبة الأمومة في داخلها بالرغم ان عمرها لم يكن يتجاوز الخامسة والعشرين. مضت بها السنوات هي ترعى عبق.  فربتها على الاستقلالية والاعتماد على النفس في الكثير من شؤون حياتها وكأنها صبيا. فعلمتها قيادة الدراجة ثم السيارة وجعلتها تتحمل عبء مسؤولية نفسها وبيتها.

***

خرجت من غرفتها بعدما قضت ليلة سيئة في السابعة صباحا واتجهت نحو المطبخ الصغير في شقتها الصغيرة في عمارة قديمة، وإن كانت يوما مرتعا للسياح تطل على البحر. ارتدت بنطال قصيرا تحت كنزة صوفية رغم شدة البرد إلا أنها لا تنفك أبدا على ارتدائه وترتدي من تحته جوربا طويلا ليقيها من البرد. تركت عمتها نائمة كعادتها التي لا تستيقظ إلا ظهرا.  وقبيل خروجها رأت الشمس تسطع بقوة، فجففت الحرارة مياه الأمطار الغزيرة، فقامت بخلع جوربها الطويل وارتدت ببنطالها مرة أخرى ووضعت معطف المطر عليها. وخرجت تحمل على ظهرها حقيبة الرسم الخاصة. نظرا لالتحاقها بكلية الفنون منذ تخرجها من المدرسة الصيف الماضي، وهذا الأسبوع الثاني لها في الجامعة لم تحضر الأسبوع الأول. لشعورها بالملل العام. أخذت الحافلة الخاصة بالجامعة التي انتظرتها في الموقف المخصص. كانت قد تعرفت على بعض الطلبة أثناء تسجيلها فقدمت إلى الجامعة ورحبت بهم. وسألتهم عن المحاضرات التي فاتتها وعن أساتذتها لم يعطوها انطباعا إلا أن أستاذ إحدى المواد عربيا مثلها. دخلت القاعة الكبيرة، فسحبت كرسياً وفعل مثلها بقية زملائها.

دخل إليهم رعد أستاذ مادتهم وكعادته أنيق الملبس قوي الحضور، فهفت قلوب الطالبات إليه لجمال حضوره وقوة شخصيته فتراجع الطلبة الشباب نظرا لشعورهم بالضعف أمامه. لم تنظر إليه عند دخوله، مستغرقة بالرسم على كراستها. سمعته ينادى على أسمائهم جميعا فوصل إلى اسمها عبق عوني بشارة فانتفضت من قوة صوته الناطق باسمها بلكنة عربية فصمتت لبرهة لا تعرف كيف ترد عليه، هل ترفع صوتها، أو تشير يبدها إليه كما يفعل البعض. فرفعت يدها وانزلتها سريعا ثم رفعت عينها إليه، فارتجفت، وارخت جسدها على الكرسي وانزلت عينيها وخاطبت نفسها: رباه هو من اصطدمت به متعمدة عند الشاطئ! هل يذكرني؟  ربما لا، لقد اعتذرت منه وذهبت. فماذا على أن فعل أكثر من ذلك هل أصلي له ليغفر لي فعلتي. كان قد أثار انتباهها وهي تقود دراجتها وبقت تراقبه وهو مترجلا وتعمدت الاصطدام به لكي تواجهه، فتأتي إليه معتذرة. لا لم تفعل شيئا كانت فقط مجرد نزوة منها لإعجابها بشخصيته حين رأته.

 أكمل أسماء بقية الطلبة، فتشجعت وأخذت تنظر إليه، فأصبحت دوامة بحر تدور حول نفسها تريد عناقه فتسحبه إليها، فلا يراه أحد غيرها. تسجنه بين أحضانها تتلمس بشرته. تقبله ترتوي من مائه العذب وتمزجه بملح حياتها. لم تدرك ماذا قال. كل الذي تسمعه   صوته فقط وترى حركات جسده ويديه العريضتين تمنت لو تعلقت بهما كأرجوحة وهي تضحك فيدفعها اتجاه الأمام وتعود خلفا إلى أحضانه.

***

 مضى الوقت. وسحبت نفسها وخرجت تفكر به، ومع الوقت تناسته قليلا، وانشغلت مع صحبها. تذكرته وهي في الحافلة عائدة إلى البيت، عند المغيب. دخلت البيت فوجدته فارغا كما تعودت. فدخلت المطبخ، ووجدت غذائها على موقد النار فأوقدت النار تحته. رمت بأشيائها وغسلت يديها ووجهها. ثم عادت لتغرف منه وهمت بالأكل وهي تشاهد التلفاز.  أنهت طعامها واستلقت على الأريكة فغفت قليلا، ثم قامت بعد ساعة فاغتسلت. وكان الوقت مقاربا نحو الثامنة مساء والجو يشتد برودة وهيجان البحر قويا مع قوة الرياح. ارتدت كنزتها الصوفية وخرجت إلى الشرفة وبدأت الرياح تلاعب شعرها أرادت الطيران وهي تقف على شرفة بارتفاع ستة طوابق. فترى البحر على مرأى البصر طويلا ممتدا جميلا غامضا تداعبه الرياح فتثيره وتهيجه إلى دوامات وأمواج عاتية. بدأت قطرات المطر تهطل، واشتدت الريح، فعادت إلى الداخل وأخذت كراستها وجلست ترسم البحر ودواماته. استغرقت بالرسم حتى سمعت صوت باب البيت يفتح عرفت أن عمتها قد عادت.  كانت عمتها امرأة جميلة رغم ذلك لم تتزوج وعاشت حياتها ما بين دراستها في مجال الطبخ والكتب التي الفتها وعاشت الحب بكل تفاصيله. لم تخجل يوما أن تسرد على عبق قصصها الغرامية فكانت عبق تضحك رغم ذلك كانت دائما تحذرها من الرجل وغدره.

 ابتسمت لها عبق عندما قدمت إليها عمتها فضمتها إليها فسألتها ماذا ترسمين؟

  • البحر

فدققت النظر إلى الرسم وتأملت ملامح وجه ابنة أخيها قائلة: بل أنك ترسمين رجلا

 -رجل ؟!

 -نعم

 -أين ؟

 -ليس في اللوحة بل في قلبك

- عمتاه ماذا تقولين ؟

 -لأنك لأول مرة ترسمين البحر.

فوجئت من إجابة عمتها نعم هي لأول مرة ترسم البحر أليس ذلك غريبا؟! أنها ترسم البحر والآن تحديدا وهي تعيش معه كل يوم وتراه باستمرار. دخلت غرفتها تفكر بحديث عمتها قلبت أوراق كراساتها القديمة والجديدة، فلم تر منظرا لبحر كانت قد رسمته قبلا، فتعجبت كثيرا كيف لها ألا ترسم البحر؟!  هل ذلك يعود للحادثة القديمة؟ لكنها شفيت وذهبت مرات عديدة لتسبح فيه، ولم تشعر بالخوف منه ولكن لم يخطر على بالها أن ترسمه فهذا أمرا مستغربا كانت ترى صحبها يرسمون البحر كثيرا، وغالبا ما يكون رسمها وجوها وأشخاصا أو رسوما تشكيلية فمن النادر ما جسدت الطبيعة في لوحاتها، إذا لماذا الآن رسمت الطبيعة وحينما رسمتها رسمت البحر؟   هل يعقل أن أستاذها اليوم من أوحى لها بذلك؟ فبدل أن ترسمه رسمت البحر.  هل لأنها التقت به عند شاطئ البحر وهف قلبها إليه أم لأنه يشبه البحر؟

الفصل الثالث

 

انقضى الأسبوع رتيبا عليه وكعادته يقضي نهاره ما بين جامعته ومحله وبين صحبه وفي يوم مشمس على غير عادته دخل قاعة الرسم ليعطي محاضرة في أساسيات الرسم كان مهتما كثيرا بطلبته أن يعلمهم ويشرف عليهم بنفسه.  قسم الطلبة إلى مجموعات حتى يتسنى له استيعاب الكل وشرح لكل مجموعة مفاهيم الرسم ومبادئه. لم يتعجب من كثرة عدد الطلاب فالأغلبية يدرسون مبادئ الرسم كمادة إضافية أو كهواية يرغبون بإتقانها، وبصوت جهوري طلب أن يقف كل واحد منهم أمام ورقة يضعها على حامل اللوحة وأن يرسم ما يشاء. تحرك الطلبة، فانتبه إليها كانت تجلس على الأرض متربعة فقامت بكسل. جذبت انتباهه وشعر كأنه يعرفها، أو أنه قد التقى بها في مكان ما. كانت مثيرة في خطواتها رغم هيئتها الصبيانية. أخذ ينظر إلى جمال ساقيها العاجيتين المكشوفتين ما فوق الركبة تحت بنطال بني اللون زادها نضارة مع حمر بشرتها وقميصها ذات اللون عاري الكتف وعنقها الطويل المتدلي من عليه عقد طويل من اللؤلؤ البني الصناعي.  تأمل وجهها النضر المزين بمساحيق زادت عينيها حسنا، وشفتيها المصبوغتين بلون الرمان. جذبته إليها وهي تقف أمام اللوحة. بقي ينظر إليها ولم تفارقها عيناه أراد مراقبتها عن بعد ليراها كيف ترسم. وبترقب القناص انتظر فرآها تأخذ القلم ولكنها بقت جامدة كتمثال عاجي سلب منه الحياة للحظات.

***

 

وقفت أمام اللوحة ونظرت إليها نظرة فراغ كالتائهة لا تعلم ماذا تخط، فشرد ذهنها إلى أعاصير مضت، وامتزجت الأحلام بالواقع حينما أمسك يدها بيده العريضة كالنسر بين مخالبه عصفور مكسور الجناح. دنا منها وألصق خده بخدها واحاط خصرها بذراعه اليسرى. وبدأ بالرسم معا كالراقصين على الورق.  أثارتها لمسة راحته على خصرها، فاسترخت وكأنها خدرت ومالت بظهرها اليه، وكأنها تريد النوم على صدره، ولم تنتبه على الوقت، بل لم تعي شيئا سوى بحرارة أنفاسه على خدها، فارتجفت عروقها، وضاق تنفسها وكأن الرقص معه أتعبها بين احضانه فتصبب جبينها عرقا. أبتعد عنها. ولم تفق إلا بلفحة هواء اقشعر بها جسدها الشفاف فوقعت جالسة على الأرض.

 خجلت من نفسها ونظرت إلى الآخرين لم تلحظ أن هناك من أهتم كثيرا بها، فكل منهم مشغول أمام لوحته. لم تعرف ماذا رسمت معه. قامت وتأملت اللوحة التي خطت بأنامله وأناملها كانت عبارة عن صورة لامرأة تكاد تشبهها فتعجبت من الذي رسمها هو أم هي. هل طبعت صورتها في خيالها لترسمها، أم أنه من أراد أن يرسمها، وكأنها هي من قامت بذلك. ما الذي اثاره فيها ليرسمها هي بالذات. تلفتت، فرأته منشغلا مع بعض زملائها. ابتعدت عن لوحتها، واقترب من زميلة لها تسألها: هل ساعدك الأستاذ رعد؟

 -نعم اخذ مني القلم و قام ببعض الخطوط

 -حسنا أريني ماذا رسمت ؟

 -فوجدت صورة امرأة مختلفة عن صديقتها

 

تنقلت بين أصدقائها تبدي فضولا لما رسموه وتخفي فضولا عن ماذا رسموا.   سألت نفسها: لماذا هي من رسمت نفسها دون الغير. تأكدت أنها الوحيدة التي جسدت صورتها في اللوحة كان المطلوب منهم وجوها. ولكن لم يحدد اية وجوه سيرسمونها. لكنها الوحيدة من رسمت وجهها. بل أنه من فعل ذلك وليست هي. ما أذكاه من رجل استطاع بلمحة بسيطة وبالقرب منها بزاوية جانبية أن يرسمها، ربما تأملها بدقة سابقا، واستطاع أن يحفظ ملامحها جيدا لذلك استطاع أن يرسمها. أخذت معها اللوحة وطوتها وحفظتها في حقيبة الرسم. تلفتت تبحث عنه قبل أن تذهب، فلم تجد له أثرا. 

عادت إلى البيت وأخرجت اللوحة وتأملت دقتها وقضت وقتا تنقل تفاصيلها على ورقة أخرى فلم تتمكن من رسم شيء ببراعة الرسم الذي أمامها. دخلت إليها عمتها ورأت اللوحة فصاحت مندهشة قائلة: مبدعة يا ابنتي.

فابتسمت لها قائلة: لست من رسمتها

فعبست سائلة: من؟

 -إنه أستاذي رعد مطر.

- عد مطر ؟!  وهل وقفت أمامه ليرسمك؟

-لا.

 فأخبرتها ثم أكملت قائلة: والآن أحاول أن ارسمها مجددا لكي تتقن مهارتي. هل تعرفيه؟

 -ترددت قليلا فقالت: نعم أعرفه.

- كيف ؟

- كثيرا ما يأتي الى المطعم. وجلست معه مرارا

- جميل و كيف علاقتك به ؟

- صمتت و لم تجبها ثم سألتها: ألم تجوعي ؟

- لا لست جائعة

- حسنا أنا مرهقة سأذهب إلى النوم ؟

 

ذهبت وتركتها وهي تنظر إلى الصورة، فأخذت بإصبعها تحدد مسار الخط الأسود فاتخذت تتخيل وهي ترسمها مجددا.  رأت يديه من جديد تحيط بها ليرسم معها حتى تراخت يدها وتمدد جسدها على الفراش ودخلت بنوم عميق.

 

***

نظرت نادية إلى وجهها في المرآة وتأملت ملامحها وحسنها الذي لم يذبل كثيرا رغم الزمن فهي ما زالت جميلة بيضاء البشرة سوداء الشعر أن كان معظمه مغطى بالصبغة إلا انه غزير قوي. وجسدها فتيا مشدود القوام لاهتمامها بمنظرها وحسنها، لمزاولتها للرياضة وللأكل الصحي الذي تهتم كثيرا بتناوله. أدركت لأول مرة أنها كبرت في السن وذلك لوجود عبق التي بدأت تشعر بالحب حتى إن تبادلت الحب مع أستاذها أو من طرف واحد. فأدركت الحقيقة التي لا مفر منها أن العمر يمضي بها، وهي لا تزال كما هي. كان الممكن أن تكذب على أحدهم، وتخبره بأنها قد سبق لها الزواج لتغطي على مصيبتها التي ارتكبتها قبل سفرها إلى قبرص عندما كانت عاشقة ومغرمة بشاب مثلها فسلمت له نفسها لعشقها له من دون تحفظ وعاشت معه في حيفا أيام لا تنسى وكانت تعيش لنفسها دون أي اعتبارات أخرى لم يعلم أهلها ماذا تفعل لكونها تدرس هناك في إحدى المعاهد. وغادرها حبيبها غير آسف على ما فعله معها، وعادت إلى عكا تتهرب من أي شاب يتودد إليها، فأنقذتها وفاة أم عبق، وجاءت سريعا إلى قبرص، ثم سفر أخيها الذي ابتعد عنهما. بل وشعرت أنه يفضل عدم زواجها لتهتم بعبق. ابتسمت بسخرية لأنانية الرجل.

استلقت على فراشها وخاطبت نفسها: من الظالم الحقيقي هي أو حبيبها أو أخوها أو رعد التي تعشقه إن كانت تحاول أن تتناساه، إلا أن الذكريات الحميمة التي جمعتهما معا لا تزال تواسيها. لم ترغب بالزواج منه فهي تعرفه أنه رجل لا يصلح للزواج بل الزواج معه موت بطيء لمن تحبه وترتبط به نظرا لتعدد علاقاته ولجموح عاطفته ولانفعاله العصبي الذي لا حدود له. هل ذلت نفسها أنها أحبته، ووهبت نفسها له. لم تخسر شيئا أكثر مما خسرته فعلاقتها معه دامت سنة كاملة وكان ذلك بعد خمس سنوات من إقامتها في قبرص تعرفت عليه في المطعم. عرفها عليه أحد أصدقائها وما أثارها حضوره المستمر وإعجابه ببراعة طبخها. فكان يبلغها بحضوره قبل ساعة وكانت تجهز له ما يشتهيه وكأنها سيدة بيته. كانت تنادمه وهو يتناول طعامه وتؤنس وحدته وكان سعيدا بها فطربت فرحا لهذه السعادة البادية منه. حدثها عن لوحاته وفنه فتتوقت إلى زيارة بيته ورؤيته يعمل. فعرض عليها أن تأتي معه بعدما أنهى عشاءه. ذهبت برفقته وجلست تتأمل رسوماته المختلفة إن كانت على الورق أو على اللوحات المعروضة على الجدار أو الملقاة جانبا على الأرض. عرض عليها مجموعة من اللوحات اللواتي رسمهن لعشيقاته.  سحرت   أمام براعته وإبداعه في تجسيد النساء. فسألته: هل هن جميلات حقا بهذه الصورة؟

 اقترب منها ووقف خلفها وتأمل اللوحة التي تقف أمامها قائلا: نعم ولكن لسن بهذه الصورة فنحن الرسامين نخفي العيوب ونظهر الجمال بكل دقة وحرفية.

  • كيف؟

 اقترب من اللوحة قائلا: مثلا انظري إلى جيدها لم يكن عريضاً بهذه الصورة وخصرها لم يكن ضيقاً، وكذلك شعرها لم يكن طويلاً وشفتيها أقل اكتنازاً. ولكنها جميلة رغم هذه العيوب فأردت أن أظهرها أكثر جمالا.

فابتسمت بتهكم قائلة: وكأنك تقوم بإصلاح جمالهن عبر عملية تجميل

ضحك للتشبيه قائلا: وأنت ألا تريدين عملية كهذه؟

إن جسدها يشتهي ذلك وروحها مترددة وعقلها يرفض القبول. فتصارعت ألهو مع الأنا والأنا الأعلى. حتى استسلم ألهو صريعا له. وبدأت بين يديه طفلة صغيرة بين أحضان أب يحبها إلى رجل يعشقها. تكرر ذلك كثيرا ورسمها مرات عدة أهداها إحدى الصور التي ما زالت محتفظة بها. قامت من على فراشها وفتحت إحدى الأدراج وأخرجت مغلفا وأخرجت منه اللوحة التي أظهرتها جميلة بالكثير من مفاتنها. لم يصورها مطلقا عارية كليا ليس لرفضها، بل لأنه يرى أن جمالية الصورة تأتي ما بين إظهار بعض جوانب الجسد وإخفاء بعضه.

 أرجعت الصورة مكانها وعادت إلى فراشها، واسترجعت بعض ذكرياتها معه فأيقظ مضجعها عبق وعلاقتها به، واحتكاكها المتسمر معه لكونه أستاذها، فربما سيغويها. لا تريد لعبق مصيرا كمصيرها فلن يرحمها أبدا.  جلست تفكر هل تصارح عبق