الخادمة

أشرقت الشمس على صيدا في يوم الجمعة إحدى أيام شهر أب (أغسطس) فمالت إلى الدفء في وقت تشتد فيه حرارة الصيف على إحدى أحياءها السكنية التي اعتصرت أرضها جوعا وفقرا. خرجت أمراه من يتأمل ملامحها يجدها قد تجاوزت الأربعين، ولكن من يعرفها جيدا سيعلم أنها طاهرة ذات السابعة والعشرين من مستوصف القرية. منكسرة الرأس حزينة تلفها الحيرة في مشيتها، فاحتار الهواء أين يأخذها. مشت ببطء تريد العودة إلى بيتها، والخوف مسيطر عليها. فخطت خطواتها كالتائهة وسط صحراء قاحلة. وصلت إلى حديقة الزهور واقتربت من أول مقعد فأسرعت الجلوس عليه. تضرب بطنها بيدها بقوة وكأنها تريد إنزال جنينها والتخلص منه. رأت من ينظر إليها فتوقفت حاولت أن تستعيد انفاسها المتعبة فداهمها الوقت وأسرعت عائدة إلى بيتها. دخلت إلى إحدى الحارات القديمة، إلى أن وصلت إلى بيتها المتهالك على أطراف الحارة. أخرجت مفتاحا من حقيبتها وفتحت الباب، وما أن فتحته حتى تسارع أطفالها الثلاثة ملتفين حولها ينادون عليها فلم تأبه بهم، في طريقها إلى غرفتها. وعلى فراشها استلقت وأغمضت عينيها وكأنها تريد التخلص منهم بل من الحياة وفقرها ومرضها وكأنها بإغماض عينيها ستختفي مشاكلها أو تهرب كالإنسان الذي يريد النوم ليحلم بل بما ليموت فالنوم هو الموت الأصغر. فأرادت أن تنام لتموت.

وقفت والدتها على باب غرفتها واقتربت إليها ورأتها على حالها منها وسألتها. طاهرة وصلت يا عزيزتي أخبرني ماذا كانت نتيجة الفحص؟

هزت رأسها إيجابا من دون أن تنبس ببنت شفة.

-      رباه والآن ماذا ستفعلين؟

تمللت على فراشها ماذا على فعله سيخرج الجنين مني وسيكون مثل بقية أخوته.

-      يا ابنتي لا أنت ولا زوجك ولا أولادك الثلاثة قادرون على أطعام أنفسكم فكيف ستتصرفين مع هذا القادم وزوجك عاجز لا يستطيع العمل بعد إصابته.

-      سأستمر بعملي كخادمة ماذا يمكنني فعله يا أمي أرجوك أنا تعبه أريد النوم

فانفعلت والدتها والتي تعرف بأم ياسين: إذا لا تشتكيا من قلة الحيلة. ألم تفكران جيدا؟! معكما ثلاثة وما زالوا صغارا، وأصغرهم عايدة التي لم تكمل بعد سنة واحدة وهانية أكملت التاسعة محمد في الخامسة، وأنت الآن حبلى. أي عقل هذا الذي تحمليه ما بين كتفيك مع زوجك المحترم الذي لا يهمه غير إمتاع نفسه، وأنت مثل الأمة لا تستطيعين ان ترفضي طلبه. فكم سألتك مرارا أن تأخذي موانع للحمل وأنت تعجزين عن ذلك بتبريرك أن ما سوف توفيره لشراء الدواء سوف تطعمين به صغارك. لكنك وفرتي قيمة الدواء لكي تستعدي لطفل قادم. أنك غير قادرة على شد نفسك وحملها فكيف ستحملين بطفل جديد. سأتركك وأعود إلى بيتي لقد سئمت منك ومن عنادك.

شعرت بالدوار ورغبت بالاستفراغ فحديث والدتها صحيح، ولكنه ثقيل على روحها. ظلت مستلقية على هذه الحالة، فدخل إليها زوجها مرتضى قادما من الخارج. فاقترب منها دون أن يسألها فنظرت إليه شاردة وقالت: نعم

عض شفتيه. شعر بالهم والعجز الكبير الذي قيده وخاصة عندما رأى أصابع يده المبتورة. قام بضرب يده على الباب بقوة غاضبا، وبدا بدق رأسه على الجدار باكيا حتى شج رأسه واجتمع الأطفال حوله، وهم يبكون. دارت به الأرض وسقط مغمى. ودمه ينزف فارتعب الأطفال وخافت طاهرة. قامت مسرعة بأخذ قطنا محاولة أن تطيب جراحه. فنشف الجرح ومنع الدم من التدفق.

****

تركت أم ياسين ابنتها طاهرة وعادت إلى منزلها الكائن في ذات الزقاق بالقرب من منزل ابنتها. وفي داخلها هم ثقيل جاثم على كاهلها للخبر المفاجئ. فهم في ضائقة بعد إصابة مرتضى زوج ابنتها في ورشة الحدادة مما أثر عليه كثيرا وظل عاجزا بعد الحادث عن العمل. كانت مصيبة كبيرة وقعت عليهم قبل خمسة أشهر. فقد كان يجني مبلغا لا بأس به قادرا أن يطعم به أسرته بطريقة تكفيهم عن السؤال، ولكن بعد أصابته اضطرت طاهرة أن تخدم بالبيوت، وهي الآن تواجه مسالة حملها الذي سيعفيها عن الخدمة لمدة وهذا يعني أنهم جميعا قد يموتون جوعا. ارتجفت يدها وأسقطت ما بيدها وانكسر حتى شرعت بالبكاء.

****

جلس مرتضى القيسي في بيته بعدما تعافي قليلا يفكر بماذا عليه فعله بهذا بالهم الكبير الذي حل عليهم، فقرر أن يخرج للبحث عن عملا فيكفيه الخمسة أشهر التي قاضها في البيت بسبب إصابته والتي اضطرت بسببها زوجته أن تعمل خادمة، فخرج باحثا عن عمل طارق كل المحلات ولكن من أن يروا أصابع يده حتى يرفضوا توظيفه. فعاد إلى بيته خاويا. ودخل إلى المطبخ، وشرع يأكل قليلا من الجبن والزيتون الأسود مع كسرة خبز يابسة، وما أن أنهى طعامه حتى خرج من المطبخ وطلع الدرج القديم. وجد أبناءه في غرفتهم، وزوجته في غرفتها نائمة على فراشها. فنزل مجددا ودخل غرفة الجلوس التي تجاور المطبخ فاستلقى أرضا.

وبدأت ذكريات قديمة تهف على رأسه. فتذكر كيف خطب طاهرة وهي ابنة الجيران ذات السادسة عشر من عمرها وهو فتى قويا في العشرين من عمره. رغم ذكائه إلا انه لم يميل إلى التعليم ولذلك عمل في ورشة للحدادة. تزوجها بمباركة الجميع.

بدا بالعرق يتصبب من جبينه وشعر بالحمى عندما تذكر يوم الحادث الأليم حيث سقط على أطراف أصابعه قضيب ساخن جدا مباشرة أذابت أصابعه. مما سبب له ألما بالغا ونفسية سيئة جدا، فجلس فترة الزمن يخضع للعلاج حتى شفي، وقد تكفل بعلاجه صاحب الورشة العم أبو علي بحكم أن إصابته إصابة عمل. ولكنه لم يتكفل بمصاريفهم بقية الأيام أي من وقت خروجه من المشفى. فما سينفقه عليه وعلى أسرته سيأتي بعامل جديد أفضل منه.

نام مرتضى شاعرا بالكراهية من كل شيء حوله. من فقره وعجزه ومن زوجته وحتى من أطفاله الذي لا ذنب لهم. استمر على هذا الحال حتى استيقظ من النوم وهو لا يريد الحركة. قدمت إليه طاهرة وقالت: سنخرج جميعا ستذهب هانية إلى صديقتها وأنا سآخذ محمد وعايدة إلى أمي، ومن ثم سأذهب إلى العمل. هانية سأجعلها تعود إلى بيت أمي وأنا عندما أعود في السادسة مساء سآتي لأخذهم. حضرت لك طعاما إذا أردت أن تأكل شيء.

كانت تكلمه وهو مائلا بظهره إليها فقالت له: أتلومني على حملي وكأنني أنا من زرعته داخل رحمي من ذات نفسي. آه منكم أنتم أيها الرجال بعدما تفعلون فعلتكم. تلومنا نحن النساء لماذا حملن وكأننا أتينا بهذا الطفل بلقمة طعام نأكلها.

خرجت بعدما أخذت أولادها وصفقت الباب بشدة. وتركت أولادها عند أمها ومشت راحلة من الحارة إلى الشارع الرئيسي فركبت الحافلة وخرجت تدرجيا من المنطقة الفقيرة إلى منطقة أخرى أكثر رقيا وفخامة. وصلت إلى بيت كبير عبارة عن فيلا جميلة فدقت الباب، وفتح لها.

كان بيت لعائلة تعتبر من أغنى عائلات صيدا. التحقت بالخدمة في بيتهم قبل أربعة أشهر عبر وساطة توسطت لها زوجة صاحب الورشة أم علي. وما أن دخلت حتى شرعت بخدمة البيت وتنظيفه.

استلقى مرتضى في مكانه وهو لا يرغب حتى بالذهاب الى غرفته. وظل على حاله ساعة من الزمن حتى شعر بالجوع، وهو الأمر الوحيد مع رغبته بدخول المرحاض الذي يجعله يتحرك من مكانه غير ذلك فهو يشعر باليأس من كثر ما أغلقت عليه كل أبواب العمل. تحرك وقام فخرج من الغرفة ذاهبا إلى المطبخ، جلس على كرسي أمام طاولة حقيرة في مطبخ تهالكت فيه ألوان الدهان والسقف متشربا بالمياه وبدا بأكل قليلا من الحمص على زيت الزيتون مع بيضه مسلوقة تكفيه لسد جوعه حتى تعود زوجته طاهرة من عملها. اخذ يأكل وهو يبلع بشاي اسود بارد كادت برودته تشبه يده المبتورة. كان بيته الصغير يتكون من ساحة مفتوحة وغرفتين في الأسفل مع مطبخ ودرج يأخذنا إلى غرفتين نوم في الطابق الأعلى. كان بيت ورثه عن أبيه.

توفي والده قبل زواجه بسنوات وتوفيت والدته قبل سنتين، وترك أخوته الثلاثة البيت، فأحدهم بقي في صيدا والبقية رحلوا إلى بيروت العاصمة كلا يبحث عن لقمة عيشه. جلس في مكانه وكأنه جثة هامدة حتى استفاق من غيبوبته عند سماعه دقا على الباب. ولكنه جلس في مكانه يشعر بالكسل لا يرغب بالحركة ولا يقوى عليها. نظر إلى مدخل المطبخ ووقع نظره على الباب الذي مازال يدق. ألقى ما بيده من كسرة الخبز وبلع بقية شاي ومن ثم قام ببطء بعدما استمر الباب بالدق فصاح عاليا: حسنا قادم إلى أين سأذهب لماذا كل هذه العجلة؟

فتح الباب ووجد أخ والده (عمه حسن) كهل في الخمسين لكن من يراه يعطيه أكبر من عمره تزوج مبكرا، ولكن القدر لم يوهبه أولاد فاعتبر أولاد أخيه كأولاده وكان يمتلك دكان للخضروات والفواكه، وغائبا عن صيدا منذ فترة قبل إصابة مرتضى بالحادثة.

-      عم حسن الحمد لله على السلامة

فأجابه متعجبا: بل الحمد لله على سلامتك ما أن وصلت حتى أخبروني بحالتك. والآن هل تدعني واقفا أمام الباب.

-      عفوا تفضل

دخل عم حسن البيت ونظر إلى أبن أخيه مرتضى قائلا: ماذا بك يا بني هل الإصابة ستحطمك وتجعلك جسدا دون روح؟

-      يا عم ماذا على فعله؟

-      عليك أن تجد وظيفة تخرجك مما أنت فيه والآن أين هي طاهرة لا أراها ولا اسمع صدى لصوت الأطفال

-      طاهرة في العمل

-      وماذا تعمل طاهرة؟

قال ضاحكا: وزيرة شؤون الدولة

-      استهزئ بي يا مرتضى

-      ماذا يعني ستعمل امرأة لم تكمل تعليمها مؤكدا ستكون خادمة

-      حسنا وأنت لم تجد لك وظيفة؟

-      بحثت حتى انقصم ظهري إلى أن أحبطت

-      حسنا يا بني ما رأيك لو تعمل معي في المحل ستساعدني وأنت تعلم أن لا أولاد لي وفي النهاية هذا كله لك أنت وأخوتك.

ضحك مرتضى في سره قائلا: في النهاية هذا كله لك أنت وإخوتك وكان عمه يملك أراضي زراعية فهو كل ما يملكه هو محل لبيع الخضروات والفواكه. لكنه لم يعترض فوافق مرتضى على ما عرض عليه عمه وجلس في دكان الخضروات يساعد عمه بيده اليسرى يقوم بوضع الخضار على الميزان، واخذ منهم النقود شعر أن الدنيا تتفتح له تدريجيا. لم يكن الراتب مجزيا ولكن كان أفضل من لا شيء.

مضت ستة أشهر وفي ذات ليلة وضع رأسه على المخدة قائلا لطاهرة: طاهرة عليك أن تتركي العمل فأنت في أشهرك الأخيرة وهذا يتعبك.

-      وماذا افعل بالمبلغ الذي استدنته من السيدة نهى وقت ما عملت لديها بعد إصابتك بالحادث إلى الآن لم أوف حقه وبقيا شهرين على انتهاء الدين. لولا وساطة أم علي وكفالتها لي وتوقيعي على نفسي عهدا لأرجع لها مالها عبر راتبي لما كانت وافقت السيدة نهى أن تديني المبلغ. فانا جديدة في الخدمة.

-      تستطيعي أن ترجعي لها بعد وضعك للطفل

-      هؤلاء لا يعرفون الرحمة لو أنا تركتها الآن قد تبلغ السلطة على الالتزام بالعمل حتى ينتهي ديني لها.

تنفس مرتضى بضيق. ووضع رأسه على المخدة واستلقت بجانبه حتى ناما مباشرة وهما يشعران بالتعب.

بدا حمل طاهرة يثقل وهي مازالت تعمل لم تتوقف يوما حتى أنهكت قواها كانت ترفض الاستماع إلى نصائح أمها بان تتوقف عن مزاولة العمل واستمرت وهي تعاني بصمت من غير اعتراض أو ألم. وكان كل تعبها تكبته في داخلها. شعرت بألم قوي في بطنها وصرخت صحية مكبوتة وكأنه سيغمى عليها. لكنها تماسكت وأكملت عملها بصمت حتى وقعت أرضا. صاحت زهرة زميلتها بالخدمة. اقتربت منها وقالت طاهرة استيقظي. طاهرة ماذا بك؟

شعرت زهرة بالتوتر ولا تعرف ماذا تصنع وجلست بحيرة هل تكلم ربة المنزل أم أنها لا تدري بالضبط. حتى دخل عليها عبد السلام سائق المنزل من باب المطبخ الخارجي ووجد طاهرة ملقاة على الأرض فتقدم قائلا: زهرة ماذا بها طاهرة؟

-      لا اعرف حقا فجأة وقعت على الأرض

-      اذهبي وأخبري سيدة نهى وأنا سأحمل طاهرة إلى المشفى

قفزت زهرة خارج المطبخ إلى غرفة الصالون واقتربت من سيدتها نهى التي كانت تجلس مع بعض صديقاتها في وقت الصباحية التي اعتادت عليه معهن، فدخلت بهدوء وأشارت إلى سيدتها أن تقدم إليها. شعرت نهى بالضيق لان زهرة قطعت عليها أهم جلسة نميمة. قامت بعصبية برزت على محياها قائلة لها: زهرة ماذا بك؟

همست زهرة في أذن سيدتها وأخبرتها بما جرى وقالت: حسنا خذي هذا المال وأعطيه لعبد السلام لعلاجها. وبعد شفائها اخبريها إلا تعود للعمل فانا لا أحب اللواتي يدعن المرض.

أخذت زهرة المال متعجبة من موقف سيدتها المتناقض. أعطتها المال لعلاج طاهرة وفي ذات الوقت تنتقد مرضها. فأدركت حقيقة واحدة بعدما أعطت لعبد السلام المال. بأن السيدة نهى أعطتها المال لتتباهى أمام صديقتها بأنها سيدة خير. وفي الحقيقة إنسانة بلا قلب أو رحمة.

اخذ عبد السلام طاهرة إلى المشفى وكانت الحمى تزاد عليها وتنفسها يبطؤ وصوت أنين خافتا يصدر من صدرها. وما أن وصل حتى حملها إلى الداخل وادخلها غرفة الطوارئ. وجلس بانتظار ما يتم وأثناء ذلك اتصلت به نهى تسأله: أين أنت؟

-      في المشفى

-      الم أخبرك أن تكون جاهزا على الواحدة ظهرا فمعي موعدا على الغذاء.

-      طاهرة مازالت مريضة.

-      أتحدثني بكل وقاحة عن طاهرة أسرع إلى أنا جاهزة واتصل بأهلها ليكونوا بجانبها. ترك عبد السلام المشفى بعدما اطمئن على حالة طاهرة وما أن وصل إلى البيت حتى أصر على زهرة أن تذهب إلى بيت أهل طاهرة وتخبرهم عنها.

ومضى النهار وذهبت زهرة إلى بيت طاهرة فلم تتمكن من مغادرته مبكرا ولم تعلم أي رقم هاتف خلوي يمكنها ان تتصل عليه لتخبرهم عن طاهرة. فوصلت إلى بيت والدتها وأخبرت أمها التي فزعت كثيرا، وأسرعت إلى بيت زوج ابنتها. خرجا معا برفقة عم حسن إلى المشفى. سألوا عنها. قدم أحد المسئولين إليهم وعرف صلة قرابتهم بها فقال لهم:

جيدا انكم اتيتم فلم يترك لنا من احضرها رقم هاتفه اعذروني حقيقة ارتفعت حرارتها كثيرا وجسمها كان ضعيفا قليل التغذية ولم تراجع الطبيب منذ فترة فالجنين مات في أحشائها منذ مدة وهي لا تعلم. مما تسبب لها بتسمم في الدم فأدى إلى وفاتها مباشرة.

دفنت طاهرة وأقيم العزاء لثلاثة أيام. ومضى شهر على تلك الأحداث. كانت أم ياسين والدة طاهرة لم تتوقف عن البكاء حزن على ابنتها الوحيدة. كانت امرأة في السابعة والعشرين من العمر لم تر من الدنيا غير الحزن والألم. تمنت لو أن ابنتها تزوجت من شاب غير مرتضى كان من الممكن أن تكون الآن حية ترزق. استغفرت الله كثيرا على تفكيرها الذي يأخذ الإنسان إلى طريق الكفر بقضاء الله وقدره. جلست تسبح حتى أذن الفجر فقامت تصلي. وما أن أنهت صلاتها حتى ذهبت لتوقظ هانية لتذهب إلى مدرستها. كانت هانية في الصف الرابع الابتدائي فتاة صغيرة ولكنها ذات بنية قوية تدل أنها ستبلغ قريبا لما يتضح عليها من علامات النضج. طويلة الشعر بيضاء البشرة رمادية العينين كانت تشبه كثيرا والدتها.

مضت ستة أشهر أخرى على تلك الأحداث. استيقظت هانية والتي أكملت عامها العاشر قبل أربعة أشهر من نومها واغتسلت وبدأت تستعد للذهاب إلى المدرسة. كانت تخرج من البيت من غير إفطار لولا إصرار جدتها أن تأكل لو كسرت خبز مع قليلا من الجبنة وكانت تأكل لكيلا تغضب جدتها. وما أن جهزت حتى أنقدتها جدتها بعض القروش لتشري شيئا لها في المدرسة. كانت أم ياسين تنفق على نفسها وعلى أولاد ابنتها مما يرسل لها ابنها ياسين المقيم في قطر هو عائلته ويعمل هناك براتب كبير يستطيع به أن يرسل لوالدته ما تحتاجه. خرجت هانية من البيت تاركة أخويها نائمين عند جدتها. فمحمد سيلتحق بالمدرسة في السنة القادمة والهموم والمسؤوليات تكثر عليها وعلى أبيهم، الذي منذ وفاة طاهرة وهو يقبع في بيته لا يتحرك منه للذهاب إلى عمله. على الرغم من محاولة عمه حسن المستمرة بإقناعه بمواصلة العمل لينسى همومه، ولكنه ما أن يخرج من دائرة الاكتئاب حتى يدخل إليها مرة أخرى. بكى كثيرا عندما تذكر رفضه للجنين الذي يعتبر نعمة ترزق ومعها رزقها، فضرب نفسه حتى شج رأسه. فأدرك أن تصرفاته أثرت على نفسية طاهرة كثيرا. حتى غضب الله عليه فسلبه تلك النعمة مع زوجته. شعر بالحسرة والألم. فكره نفسه وكره أولاده وكره الحياة.

وجدت أم ياسين أن زوج ابنتها لن تتغير حالته فأصرت أن تأخذ أبناء ابنتها إليها، وتركه وحيدا. طالما قد جن ولا يسمع صوتا للعقل وكأن الحياة توقفت عند وفاة طاهرة. هل سيكون حزنه عليها أكثر من حزن أم على وفاة ابنتها. فهي فقدت قرة عينيها وابنتها الوحيدة الذي لا يمكن أن تعوض عنها أبدا. أما هو فيستطيع أن يأتي ببدل طاهرة أربعة غيرها. ولكن بسبب فقره ومرضه وعجزه أصبحت حياته تزداد سوءا.

خرجت هانية تلحق مدرستها، ومرت بدكان جدها عم حسن سلمت عليه واخرج لها بعضا من القروش وانقدها وقبلها وبارك لها. كانت على الرغم من حزنها الشديد بسبب وفاة والدتها إلا أن وجود جدتها وعم حسن ساعدها على تخفيف ألمها. فمازالت ذكرى وفاة والدتها تؤرقها كثيرا حتى أنها تصحو من النوم في منتصف الليل وهي فزعة. وكثيرا ما يتراءى لها يوم وفاة أمها بتفاصيل مختلفة.

دخلت مدرستها وهي تحمل حملها الثقيل من الكتب على ظهرها وبدء يومها بشكل معتاد. انتهى يومها المدرسي، فخرجت من مدرستها مع جموع من زميلاتها كل منهن إلى بيته. جميعهن كنا صغيرات يافعات لا يعلمن من أمور الدنيا غير اللعب والدراسة فحياة الفقر تغلب معظمهن لذلك لم تشعر هانية أبدا بالفرق بينها وبين زميلاتها. كانت متفوقة دراسيا ومن ضمن الخمسة الأوائل. كثيرا ما تحزن إذا نقص من علاماتها درجة أو درجتين وتكافح كثيرا حتى تعود مرة أخرى لتعويض ما ينقصها.

كانت تخرج من مدرستها على الثانية عشر والنصف ظهرا وتصل إلى بيت جدتها بحدود الواحدة. تضع حقيبتها وثيابها المدرسية وتقوم بمساعدة جدتها بالعناية بالمنزل وتنظيفه. كانت جدتها تبلغ الخمسين من العمر ولكن مرض الرثية (الروماتيزم) يدق عظامها كثيرا وكانت تحرم نفسها من العلاج المتتابع حتى تنفق ما يرسله ابنها على أحفادها الصغار.

كانت هانية تشعر بجدتها كثيرا وكثيرا ما كانت تراها تبكي وهي وتجلس وحيدة وخاصة بعدما تنهي من صلاتها وتبدأ بالدعاء والتسبيح. فكانت هانية تصلي بجانب جدتها. وكان ما يقهرها أن ترى دموع جدتها تنزل منها باستمرار. فمازالت الجدة موجوعة على وفاة ابنتها طاهرة.

وفي ذات يوما قالت لها: جدتي أرجوك ولم تكمل حديثها حتى ضمتها إليها وبدأت تشاركها البكاء. لم يكن سهلا على هانية أو على أخيها محمد أن يفقدا والدتهما في سن صغيرة، وكانت عايدة كثيرا ما تسال أخوتها وجدتها عن والدتها ولم تقتنع بإجابة أي واحد منهم. ما يزيد الحزن على هانية حالة والدها الصحية التي تسوء يوما بعد يوم.

فقبل الغداء تذهب إلى والدها وتحضر له طعاما صنعته جدتها له. وكانت كلما تمر عليه ترى أن حالته لم تتغير حتى جلسته لم تتغير لو أنها لا ترى الصحن الذي أمامه يفرغ لكانت تعتقد انه ميتا منذ مدة. فلا يرد عليها إلا إذا كلمته فكل ما تفعله أنها تأخذ الصحن القديم الذي أمامه وتبدله بما بيدها. وقبل خروجها أحيانا تقوم بترتيب منزله وتأخذ ثيابه لتغسلها في بيت جدتها وأسبوعيا تذهب مع جدتها لتنظف له البيت. وأحيانا يأخذانه إلى الحمام ليغسلاهن.

وكثيرا ما تجادلت أم ياسين مع مرتضى حتى وصل بهما النقاش إلى منعطف خطير. عندما قالت له: ويلك يا مرتضى على ما تفعله بنفسك. هذه حالتك وأنا الآن موجودة أرعى أولادك وعمك يقوم بالنفقة عليك وعليهم لو لم نكن نحن متواجدان فماذا ستفعل؟

نظر إليها والشرر يتطاير من عينيه قائلا: اتركيني واذهبي لا أريد اسمع منك المزيد.

شعرت أم ياسين بالغضب وأخذت صحنا من الحديد فضربته به فجزع من فعلتها، فاستشط غضبا وهب وواقفا متقدما باتجاه أم ياسين خانقا لها قائلا:

أترمين الصحن على أيتها المرأة الفاجرة اللعوب اللصة التي سرقت أبنائي وزوجتي مني. وبدا بضرب أم ياسين ضربا مبرحا: أين هي طاهرة لقد آخذتيها مني وزوجتيها برجل أخر وبعت أبنائي. كم قبضتي ثمن فعلتك. ساقطة لصه أريد زوجتي أريد طاهرة. قفزت هانية إلى الخارج لتنادي على جدها حسن والجيران لينقدوا جدتها من بين يد أبيها. وصل الجميع حتى لقوا الجدة ملقية على الأرض تحت رحمة أقدام مرتضى وهي تأن ألما. وتكاثف الجميع للقبض عليه وحضرت بعض النسوة أخذن أم ياسين إلى بيتها. وما لبث أن ابلغ بعض الجيران الشرطة، فقدموا لأخذ مرتضى للسجن ومن ثم لمستشفى الأمراض العقلية لما تبين انه مصاب بحالة اكتئاب حادة تسببت في أحداث خلل في العمليات الذهنية في علقه. تعرضت أم ياسين لنزيف حاد في المعدة وكسر في ظهرها حتى أقعدها فترة عن العمل في البيت وتولت هانية كل شؤون ورعاية جدتها وأخوتها.

***

وبعد أشهر على تلك الأحداث جلس جميل الكايد في سيارته أمام مدرسة خديجة بنت خويلد الابتدائية وهو يتأمل الصغيرات وهن يخرجن من المدرسة كان رجلا في الخمسين من عمره قوي البنية شديد البأس. ظل على حاله يجلس في سيارته أمام المدرسة لأسبوع كامل. كان يريد من خلال نظراته تقيم الفتيات وجمالهن ونضارتهن. فوضع في قائمته عشر فتيات لم يعرف أسماءهن بعد ولكن كان يحفظ هيئتهن تماما كما يحفظ ملامح وجه العابسة. وأما أن تذهب كل فتاة إلى بيتها وتفرغ المدرسة حتى يأمر السائق بأن يعود به إلى بيته.

وصل إلى بيته المستأجر وجلس يفكر بهؤلاء العشرة أي منهن قادرة على أن تكون لقمة سائغة ويستطيع أن يجذبها إليه. جلس مفكرا حتى جاءه اتصال فرد قائلا:

مرحبا سيد سائد: نعم هناك عشرة فتيات على أكون حريصا على اختيار واحدة منهن مناسبة للعائلة التي ترغب بالتبني. على أن ابحث عن ظروف كل عائلة ومن هي الراغبة بأن تعطي ابنتها بكل سهول دون مشاكل.

-      لا تتأخر الأسرة التي وعدتها تريد الرحيل إلى فرنسا الشهر القادم. وتريد الفتاة بأسرع وقت

-      حسنا سأتصرف سريعا.

جميل كايد  اشهر التجار في المتاجرة بالأطفال اللقطاء والأيتام . لكنه امام مهمة صعبة هذه المرة، وخاصة أن طلب العائلة ليس سهلا. تريد فتاة جميلة وابنة عائلة فقيرة وليست لقيطة وتزال تقيم مع أهلها ويفضل أن تكون يتيمة الأبوين. كان متعجبا من طلبهم، ولكن هذا ما يرغبون به وعليه أن ينفد طلبهم كأي تاجر لديه بضاعة يريد بيعها. فكل ما يعلمه أن العائلة والتي تتكون من السيد ناصر الصابر رجل أعمال وصاحب مراكز للتجميل وزوجته المقعدة زينب الطبيبة الشهيرة التي أقعدها حادث سير أصيب ظهرها ولم يتم علاجها بسهولة خاصة أنها وقد بلغت الأربعون ونيف. وابن واحد يدعي قصي في السابعة عشر من عمره، فلذلك أرادت فتاة صغيرة بالعمر تربيها كما يحلو لها وترافقها وترعاها، لأنها تعلم الفتاة ليست كالولد ترعى والدتها أكثر منه، خاصة أنها لا تستطيع الإنجاب. فلو رزقها بابنة لما اضطرت لفعل ذلك. لذلك كانت شروطها محددة واضحة فتاة جميلة ابنة عائلة فقيرة وليست لقيطة وملتحقة بالمدرسة. وهي مستعدة لدفع مبلغا كبيرا لأسرة الفتاة حتى يتم إقناعها ببيع ابنتها لهم.

لذلك اختار جميل مدرسة البنات الابتدائية في صيدا لأنه يعلم أنها انسب مكان لاصطياد فريسته. ويستفيد من ذلك كثيرا فهو يأخذ عمولته بعد إتمام الصفقة، بالإضافة إنه يخص لنفسه مبلغا من المال المقدم الى العائلة المحتاجة ويصل أحيانا إلى النصف. فيأخذ نصف المبلغ ويعطي للأسرة أو لدور الأيتام نصفه الأخر. ولكن لم يقم بالتعامل من قبل مع أسرة لا يعيبها غير الفقر. الأسر الذي اشترى منها الأطفال كانت من اسر مشتتة ضائعة. تسلم أولادها له بكل سهولة مقابل أي مبلغ. لذلك شعر أن مهمته صعبه وانه سينفذها بحكمه وتروى وقد لا يخلو الأمر من استخدام أسلوب العصابات إذا لزم الأمر.

خرج من بيته في اليوم التالي كعادته، فوقف أمام المدرسة ومعه آلة تصوير رقمية محاولا التقاط صور مقربة للفتيات اللواتي اعتبرهن أكثر الفتيات جمالا. وعاد إلى بيته ومحملا بصور الفتيات وقام برفعها على جهاز الحاسوب، ومنه عبر الإميل للسيدة زينب. ولم تمض ساعة حتى استلم ردا من زينب تخبره أنها اختارت واحدة منهن وهي مصرة عليها. وإن قام بعمله كما يجب ستنقده مبلغا مضاعفا. شعر بالنشوة لهذا العرض المغري وقام بوضع الخطة اللازمة. وما أن باشر بتنفيذ خطته حتى علم انه جاء متأخرا لان العام الدراسي قد انتهى.

خرجت هانية من مدرستها بصحبة زميلتها وكانت سعيدة لحملها لشهادة تفوقها بعد انتهاء دراستها للصف الرابع وانتقالها للصف الخامس. كانت تقفز فرحة حتى وصلت إلى حارة بيتها. فمرت على العم حسن وما أن رأته حتى بادرت قائلة: عم حسن لقد نجحت وكنت الأولى على زميلات صفي.

ضمها عم حسن إليه: آه يا ابنتي كم أنا فخورا وسعيدا بك. مؤكدا أن جدتك ستسعد بذلك. خذي هذه الفواكه إلى البيت. واخرج من جيبه نقودا ما أن رأتها هانية حتى طارت فرحة قائلة: هذا كثيرا يا عم

-      لا ليس كثيرا عليك أنت تستحقين أكثر من ذلك. اشتري ما ترغبين به بهذه النقود. ثوبا جديدا أو حذاء أو بعض ما تضعيه في شعرك من أشرطة وزينة.

ابتسمت هانية قائلة: شكرا لك يا عمي.

قبلته مرة أخرى وذهبت مباشرة إلى بيت جدتها. وصلت ووجدت جدتها تتناول إفطارها مع أخويها محمد وعايدة. فقفزت إليهم وحضنت جدتها وأعطتها شهادتها.

ضمتها جدتها إليها قائلة: آه يا ابنتي. وبكت فاقتربت منها هانية قائلة: لماذا تبكين يا جدتي هل نجاحي يحزنك؟

-      لا عفوا يا ابنتي ولكنني تذكرت والدتك رحمها، ووالدك الذي مازال في المشفى.

نظرت إليها هانية قائلة: أتمنى أن يخرج قريبا لقد اشتقت إليه أتمنى أن تكون قد عفوت عنه.

-      نعم لقد جرحني كثيرا ولكنني أعذره، فهو لم يكن في وعيه أبدا. كما ترين لقد تحسنت حالته تدرجيا حتى في أخر زيارة. كان هادئ الطباع ولم ينفعل.

-      حسنا يا جدتي هل تسمحين لي بزيارته. سأخبر عمي حسن ليأخذني إليه مع إخوتي.

-      حسنا افعلي ما شئت صغيرتي فاليوم هو يومك.

فوضعت عنها ملابسها وارتدت ملابس البيت ولعبت مع أخوتها، وبعد ذلك قامت بمساعدة جدتها. فنظر لها محمد قائلا: هل سألتحق بالمدرسة مثلك السنة القادمة؟

-      أكيد، وستكون متفوقا مثلي وتأخذ أكبر العلامات

-      وهل سيعطيني عم حسن نقودا كما أعطاك؟

-      مؤكد سيمنحك نقودا وأكثر مني أيضا

-      ولماذا سآخذ أكثر منك؟

-      لأنه يحبك

-      عم حسن يحبني كأبي وأمي؟

-      نعم يحبك وجدتي أيضا تحبك

-      اعلم أنها تحبني ولكن عم حسن؟

-      انه يحبك وستعلم ذلك عند التحاقك بالمدرسة لأنه لن يقصر معك حسن

-      أريد أكون متفوقا مثلك. أريد أن تعلميني الكثير.

-      جيد سأقضي إجازتي في تعليمك حتى تتجاوز أي صعوبة تواجهها في المدرسة.

ابتسم محمد من حديث أخته وشعر أن هناك من يهتم به بعد غياب والديه. كان كثيرا ما ينزوي وحيدا خوفا أن يتكرر ما حدث يوم وفاة أمه. ويوم ما جن والده. فلم يقو على تحمل تلك الماسي دفعة واحدة على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تلك الأحداث إلا انه مازال يكلم نفسه كثيرا خاصة أثناء نومه وأحيانا أخرى يتبول على فراشه.

أما عايدة فقد كانت كثيرة السؤال عن أمها، فهي كلما ترى الباب يفتح تذهب إليه تظن أن أمها ستدخل إليها، حتى أصابها اليأس، فاقتنعت كليا بأن أمها لن تعود من الموت أبدا. فنظرت في ذات ليلة إلى هانية وكأنها تريد أن تسألها سؤالا، ولكن لغتها لم تسعفها لتتمكن من التعبير عما تحس به، فشعرت هانية بها، وهما مستلقيتان على فراش واحد وضوء القمر يضئ الغرفة من الظلمة الحالكة.

ضمتها إليها هانية، وقالت: عائدة حبيبتي اعرف أنك اشتقت لماما ولبابا. ماما تعرفين أنها في السماء مع الله تعالى. وبابا في المشفى وهو مريض ويتعالج وإن شاء الله يخرج ويعود مجددا لنا.

هزت عايدة رأسها واقتربت من هانية أكثر فشعرت هانية باحتياج أختها ذات العامين والنصف لحنان أمها فهي طفلة ذكية تشعر بما يجري حولها وتستوعبه جيدا لذلك كانت هانية وجدتها تتعامل معها بطريقة تناسب ذكاءها ومدى استيعابها لكل المشاكل التي تحيط بها.

***

مضى أسبوع على انتهاء المدرسة واخذ عم حسن الأولاد لزيارة أبيهم. كان أحيانا يتعرف عليهم من الوهلة الأولى وأحيانا ينكرهم ويذهب عنهم بعيدا ويرجعون من حيث أتوا خاليين الوفاض.مما يشعر هانية بالحزن لشوقها إليه.

وصلوا وسألوا عنه. أخبرهم الطبيب قائلا: جيدا أنكم حضرتم، لقد كان يسال عنكم فحالته الصحية ليست جيدة.

اضطرب قلب هانية الصغيرة اسرعت مع وأخوتها وعم حسن إلى أبيها الراقد على فراشه. اقتربت منه ومسكت يده. أحس بها ففتح عينيه، ولأول مرة منذ مدة تراها واعيا ليس ذاك المختل الذي عرفته مؤخرا. نظر إليها وبدا بالبكاء واخذ بتقبيلها وتقبيل أخوتها قائلا: اعذروني، سامحوني، اطلبي يا هانية من جدتك أن تسامحني على ما فعلته بها وبابنتها.

شعرت بأن والدها يتعافى تدريجيا طالما بدء يحس ويدرك الآخرين ويشعر بتأنيب بالضمير. أغمض عينيه مرتاحا فدخلت الممرضة قائلة انه نائم. فابتسمت هانية برضى وخرجت سعيدة بتحسن والدها الطفيف. ولم يمض يوم على تلك الزيارة اتصلت عليهم إدارة المشفى بان مرتضى القيسي قد توفي أثناء نومه بكل هدوء.

حزنت هانية على فقدانها لوالدها بعد والدتها في سنة واحدة تقريبا، ولكن حمدت الله كثيرا على وجود جدتها وعم حسن. حتى أنها أرادت يوما أمرا غريبا وسالت به عم حسن قائلة: عم حسن لماذا لا تتزوج جدتي؟

ضحك عم حسن من هذه الفكرة التي خطرت على تفكير فتاة في عمرها فقال لها: لا يا ابنتي لقد كبرنا لا أنا أقوى على الزواج ولا جدتك أيضا.

تعجبت هانية من رد جدها فسألته: لماذا هل الزواج متعب وكيف؟

-      عندما تكبرين عزيزتي ستعلمين ذلك.

أدركت انه لا يريد إطالة الحديث معها بخصوص هذا الموضوع. فتركته عائدة إلى بيتها. وأخذ يتأملها ولاحظ نضوج مفاتنها كامرأة بدأت بالبروز وهذه علامة البلوغ عند الإناث فلابد أن جدتها لاحظت ذلك. عليها أن تنتبه عليها وتجعلها ترتدي ملابس أكثر احتشام.

وقبل الدخول في العام الدراسي الجديد حتى بلغت هانية. لم تتفاجأ فقد أخبرتها جدتها بما سيحصل معها. كانت تشعر بالمغص كثيرا ولم تكن متعودة بعد على تلك الأعراض حتى الفتها مع الأيام.

****

وبدا العام الدراسي وفي أول يوم من أيامه وقف جميل كايد أمام سور المدرسة يتحدث مع الحارس بعدما أعطاه نقودا حول مشاكل الفتيات الفقيرات. واخذ جابر الطيب الكثير الكلام يرد عليه بأي سؤال. قدم إليه في بادئ الأمر. قائلا: السلام عليكم يا عم.

-      وعليكم السلام فنظر إليه نظرة المتسائل.

-      لا أريد منك شيء ولكن ألتقي بك وأنا اريض نفسي كل صباح فأراك يوميا تجلس وحيدا. فأردت الحديث معك.

-      أهلا بك

-      أتفطر معي؟

-      شكرا نحمد الله

-      سأجلب معي صحن من الفول والفلافل وسآتي إليك بواحد. ومن قبل أن يعترض جابر الطيب حتى قام جميل وذهب إلى مطعم شعبي قرب المدرسة وابتاع منهم وعاد مجددا ومعه بعض الشاي قائلا: تفضل يا عم

نظر جابر إلى هذه الوليمة حتى سال لعابه وبدا بالأكل والشكر.

اخذ جميل يحدث جابر يسأله بعض الأسئلة قائلا: يبدو أن هذه المدرسة فقيرة

-      أنها مدرسة حكومية وأغلبية فتياتها من الفقيرات

-      أسف حقا أن يوجد فقر في هذا العالم ولكن ماذا نفعل هذه حال الدنيا

-      صحيح هذه حال الدنيا

-      صراحة فكرت أن أقدم مساعدة مالية لأسرة فتاة فمن ترى تكون مناسبة منهن

أجابه جابر وبشكل سريع قائلا: وهل يوجد أمر من هانية ومأساتها.

نظر إليه بتعجب قائلا: ومن هي هانية؟

-      هانية مرتضى القيسي. فقدت والدتها، ومن ثم والدها من بعدما ادخل مشفى الأمراض العقلية.

-      وكيف فقدتهما؟

قص عليه جابر الطيب قصة هانية حتى أنهى قائلا: جميلة هذه الفتاة لا تستحق كل ذلك.

فكر جميلة قد تكون هذه الفتاة المقصودة فسأله: ما شكلها؟

-      بيضاء سوداء الشعر رمادية العينين طويلة القوام قوية البنية

هنا ابتسم جميل وكأن الحظ يساعده فقال له: هل تدلني عليها عند خروجها من المدرسة استدعيها حتى أكلمها وأقدم لها المعونة.

فنظر إليه جابر الطيب. فعرف جميل سر هذه النظر فاخرج حافظة نقوده فانقده خمسين ألف ليرة ثم قال له: ولك ضعفها بعدما تعرفني على هانية.

ابتسم عم جابر قائلا: مؤكد لازال هناك أربع ساعات على انتهاء الدوام المدرسي تستطيع العودة على الثانية عشر ظهرا.

فابتسم جميل كايد له قائلا: حسنا سآتي في الساعة. السلام عليكم الآن.

-      وعليكم السلام.

قدم جميل الكايد في الموعد إلى المدرسة وحيي الحارس، وجلس بجانبه وبدء بالحديث حتى دق جرس المدرسة على الثانية عشر ظهرا وما لبثت دقائق حتى بدئن الطالبات بالاندفاع خارجا،وما أن لمح عم جابر هانية حتى ناداها.

فسمعت هانية صوت الحارس يناديها فتقدمت إليه، فابتسم جميل ابتسامة النصر في داخله دون أن يثير ريبة وكأنها ابتسامة عطف لا غير.

-      نعم يا عم جابر هل أردتني بشيء؟

-      يا ابنتي هذا الرجل الصالح يرغب بالحديث معك

نظرت له هانية فتوجست منه خفية. لكنه ابتسم لها قائلا: أنا يا صغيرتي ادعى محمود العربي وأنا ابحث عن عمك حسن هل تدليني عليه.

-      هل تريد جدي حسن.

هز رأسه: نعم أريد هل تأخذيني إليه

-      حسنا الحق بي

ومشيا معا واختفيا عن أنظار الحارس وبدا بالدخول إلى الحارات الضيقة، وسيارة جميل بسائقها تتبعهم حتى وصلت إلى مرحلة لا يمكنها التقدم. و اخرج جميل منديلا  من جيبه  ليخذر هانية ليغمي عليها مباشرة.  ليحملها السائق مسرعا في داخل كيس كبير من الخش  ليضعها الجهة الخلفية. وخرجا سريعا من الحي. خاصة كان ذلك وقت صلاة الظهر فكانت الحركة خفيفة فلم يشعر بهما أحد.

نظر حسن القيسي إلى ساعته التي أصبحت الواحدة والربع فتعجب انه لم ير هانية وهي تمر عليه أثناء عودتها من المدرسة. وحدث نفسه ربما كان في المسجد عندما عادت. ومضت نصف ساعة أخرى. حتى جاءت إليه أم ياسين وهي جزعة.

-      حسن هل رأيت هانية؟

وقع قلبه عندما سمع أم ياسين تسأله هذا السؤال فجابها قائلا: لا لم أراها حيث أنني متعجبا أنني لم أرها تعود.

-      هذا يعني أنها لم تعد من المدرسة. ويلي أين ذهبت هانية.

-      حسنا لنذهب إلى مدرستها ونسأل. وصلا إلى المدرسة الخالية من أي بشر. دقا على باب عم جابر الحارس الذي خرج إليها وهو نصف نائم. فسائلهما ماذا تريدان؟

فسأله حسن: هانية هل تعلم أين هي؟

-      من هي هانية. نعم تذكرت الم تعد إلى منزلها بصحبة الرجل؟

بصوت واحد صرخ حسن القيسي وأم ياسين: الرجل!!

-      نعم رجل سأل عنك وهو رجل محسن ويريد مساعدتكم ماليا

-      لم تأت هانية ولم تعد. من هذا الرجل وما اسمه؟

فكر جابر قليلا: يدعى محمود العربي

-      لا اعرف شخص بهذا الاسم أرجوك قص على كل شيء

فقص عليه جابر الطيب ما جرى معه حتى ذهاب هانية. فهنا أدرك حسن القيسي أن هانية قد اختطفت وأن عليه التصرف سريعا ولكن لم يبد شيئا لام ياسين لكيلا تفزع أكثر فنظر إليها: عودي إلى بيتك أم ياسين وأنا سأبحث عنها.

-      لا.