لا أتحدث عادة في السياسة بتفاصيلها ، بل أفضل مقاربتها بالإجمال ، و لكننا كعرب وصلنا الى مرحلة حرجة جدا في تاريخنا تدفعني الى التعامل مع بعض التفاصيل ؛ إنني أظن أن العرب اليوم باتوا مهددين وجوديا ، و هذا ليس جديدا ، و لكن الجديد أن التهديد وصل الى مرحلة خطرة جدا ؛ فقد أصبحت الخطط لتدميرنا متسارعة ، و علنية ،  و وقحة ، أشير بذلك الى التصريحات و القرارات المتتابعة التي دنست أهم المقدسات العربية  : من نقل السفارة ، الى الاعتراف بسيادة اسرائيل على الجولان ، مرورا بحديث متواتر و ، متكرر ، عما عرف "بصفقة القرن" ،و ليس انتهاءا بتطبيع علني ، مجاني ، و مخز ، مع "اسرائيل" .

و هنا تكمن الخطورة ؛ فنحن أمام عبث ، و "تجارة" علنية وقحة ، بالأوطان و بالأمن القومي العربي ، في لحظة عربية تاريخية شديدة الهشاشة ، لحظة تاريخية أصبحت فيها حتى الدولة "القطرية" مهددة بالزوال ، الأمر الذي يؤدي الى تهديد وجودنا كعرب ، لا أتحدث عن وجودنا كأفراد و جماعات ؛ بل أتحدث عن وجودنا كأمة لها وزنها و أهميتها : تاريخيا ، و جغرافيا ، و حضاريا ، و سياسيا .

   ان هذا الاستهداف للوطن العربي بدأ منذ قرون ، و لا أبالغ ؛ فقديما تحارب فيه ،  و عليه - مستوحيا الاستاذ هيكل-  الفرس و الروم ، ثم ابتلعه الأتراك ، ثم الاستعمار الغربي الحديث . و كان الهدف من ذلك كله السيطرة على منطقة تجتمع فيها طرق التجارة و المواصلات ، ثم السيطرة على النفط، و الأهم من ذلك :

العمل على منع قيام كيان عربي فعال يهدد مصالح الدول الكبرى تهديدا حقيقيا ؛ فكان منع محمد علي من التوسع ، و الهجمة الشرسة على الزعيم الكبير "جمال عبدالناصر" و تراثه التحرري الوحدوي .Image title

   و كانت "اسرائيل" حلقة مفصلية مهمة في هذا الصراع على العالم العربي و ضده ؛ فما اسرائيل الا قاعدة استعمارية غربية ، تضمن عدم التواصل بين عرب آسيا ، و إخوانهم من عرب افريقيا ، و تضمن عدم نجاح أي مشروع تحرري نهضوي عربي . لذلك كانت الحرب الشرسة ضد الاتجاه القومي العربي ؛ ضده كمشروع و ضده كفكر ؛ و ضده كشخصيات تم تهميشها و مسحها من الذاكرة العربية ... كان هذا الاستهداف لان القوميين الوحدويين العرب ، ادركوا ، في وقت مبكر جدا ، خطورة اسرائيل على آمال العرب و طموحاتهم ، بل ، و على وجودهم كفاعلين مهمين و مؤثرين ؛ فكان تحرير فلسطين ، من وجهة النظر القومية ، دفاعا ضروريا عن العرب كلهم ، و كان التمسك بالعمق العربي هو الحل الوحيد ، فلسطينيا ، لتحرير فلسطين .ان تحرير فلسطين ، و تحرير العرب و نهضتهم ، وجهان لعملة واحدة ؛ فلا العرب سينهضون و فلسطين محتلة من قبل اسرائيل ، القاعدة الاستعمارية المقامة في قلب العالم العربي، و لا فلسطين ستتحرر و العرب ضعفاء ممزقين تابعين .

   و لما كان ذلك كذلك ، فقد كانت هناك محاولات مبكرة جدا ، لفصل "الفلسطينيين " عن إخوانهم العرب ، و فصل العرب ، و حرف بوصلتهم ، عن قضيتهم الأهم : محاربة الاستعمار ؟ بمحاربة وجوده الخطير في فلسطين ... و للأسف ، فقد نجحت محاولات الاستعمار و أذنابه الى حد كبير ، ببثهم لسموم فكرية ، و ضلالات ثقافية ، و باستعمالهم الخبيث للمال ، لشراء الذمم و بث الفرقة في صفوف الامة.

    و كان أخطر ما اجترحه الاستعمار و أعوانه ، الدعم الفعلي المبكر و المستمر - خاصة بعد الضربة التي تلقاها المشروع القومي في حرب حزيران عام 1967- لفكرة "الكيان الفلسطيني" و "الهوية الفلسطينية" ، فتم تعديل - بل تحريف - المباديء التي أجمع عليها العرب و أهمها : اعتبارهم لاسرائيل كجزء من الصراع الغربي على العالم العربي ، صراع لا يمكن مواجهته الا بوحدة العرب - بمن فيهم أهل فلسطين - في مواجهة الغرب و اسرائيل ، و اعتبارهم أن نضال أهل فلسطين جزء لا ينفصل عن النضال  العربي الأشمل ضد الاستعمار و أذنابه ... إن فكرة :الهوية الفلسطينية" و "الكيان الفلسطيني" فكرة ماكرة خبيثة خطيرة ، بما تعنيه  من تحرير الزعامات العربية الرجعية ، و خاصة الخليجية ، من مسؤولياتها القومية ، الأمر الذي يضمن " تقزيم " الصراع ، و تشويه حقيقته ، و حصره في دائرة التنازع بين الفلسطينيين و اسرائيل ، و بالتالي اذا قام هذا الكيان الفلسطيني - وقد قام - فقد انتهت المواجهة ، و انتهى الصراع بين العرب و اسرائيل ، الامر الذي يعني فتح أبواب العالم العربي لإسرائيل ، و للهيمنة الغربية ، فتحا "شرعيا" مبينا .. و هكذا يحكم الاستعمار الغربي قبضته القذرة على منطقة من أهم مناطق العالم ! .

   و لكن هذه القبضة الغربية كانت تعاني بعض الضعف بسبب ما تبقى من شعور قومي شعبي مختزن  ، ومن  أنظمة قومية كانت - رغم عيوبها - بقية الخير في أمة العرب ؛ فتم احتلال العراق و تدميره ،  و تم تدمير ليبيا ،  و السعي نحو تدمير سوريا . و قبل ذلك و بعده ، و اثنائه ، كان هناك تخريب ممنهج للعقول ، و شراء مستمر للضمائر ، لتوفير غطاء ايديولوجي يشرعن الصلح مع اسرائيل ، و يروج للكيان الفلسطيني ، و للهوية الفلسطينية ، ويحاول جاهدا تفريغ العقول و الضمائر من مخزونها القومي .

   أما فلسطين فقد أصبحت، خاصة بعد هذه الأحداث الدامية و المحزنة و الخطيرة ، كالقشة في مهب الريح ، و لسان حالها يقول :

"أكلت يوم أكل الثور الأبيض" : 

أكلت يوم تآمر العرب على المشروع الناصري.

أكلت يوم احتلت قوات التحالف بغداد ، و دمرت مقدرات العراق العلمية و العسكرية بعد حصار اجرامي طويل سقط ضحية له أعداد هائلة من البشر .

أكلت يوم فاض المال الخليجي "المسلم" على جماعات تدعي نصرة الإسلام ، و هي تستدعي الناتو لضرب "إخوانهم المسلمين" في ليبيا .

أكلت ، يوم تعاون "أدعياء" العمل للإسلام - و هم في الحقيقة مجرد مرتزقة - مع الغرب المستعمر ضد "إخوانهم المسلمين" في سوريا 

أكلت يوم فصل جنوب السودان عن شماله

أكلت لما دك زعماء الخليج - "خادم الحرمين" و أذنابه - اليمن دكا دكا ، حتى أصبحت جرحا داميا في قلوب كل الشرفاء .

أكلت ، يوم رضي بعض أهلي ، بإدارة ظهرهم لإخوانهم العرب .

أكلت يوم اعتبر بعض أهلي ، أنه يمكن أن يعيشوا بشكل طبيعي تحت الاحتلال الاسرائيلي .

أكلت يوم ظن بعض أهلي ، أن نزاعنا مع اسرائيل نزاع ، او صراع  "فلسطيني" - اسرائيلي متناسين خطور ة اسرائيل على كل العرب من المحيط الى الخليج.

بكلمة ، لسان حال فلسطين يقول :  أكلت يوم أكل المشروع العروبي ، التحرري ، النهضوي، لصالح مشروع قطري ، تجزيئي ، تابع للاستعمار .

   و ها هي تبعات "الانجرار" وراء الصلح المزعوم تتضح و تتجسد في فلسطين بالتزامن مع خراب عربي يكاد أن يكون شاملا  ، ها هي تبعات " السلام" تتجسد و قاحة ، و غطرسة ، و استعلاء ؛ "صفقة" ( لاحظوا المصطلح ) ؛ ينص "عقدها" على الآتي : 

بيعوا ما تبقى من أرضكم ، و عرضكم، و كرامتكم ، تخلوا عما تبقى من رموز قضيتكم ، عن القدس ، عن اللاجئين ... الخ و لكم منا جنة عرضها كعرض تنازلاتكم  !!!

هذا ليس خيال أدبي ،بل هو ما قيل بالنص ، تقريبا ، في مقابلات مع "سماسرة" هذه الصفقة ؛ لقد دعى "كوشنير " الفلسطينيين للضغط على قادتهم في الضفة و غزة (لاحظ التمييز الذي يرسخ الانقسام المشؤوم ) ليتخلى هؤلاء عن بقية المباديء ... لأن هذه المباديء غير واقعية ، و غير عملية!!! ... و المقابل -إذا تخلى القادة و سلموا ، و استسلموا - مال غزير يفيض على رؤوسنا ..!!! انه منطق السماسرة و رجال الأعمال ؛ منطق "البزنس" ... منطق حقير و وقح ، منطق سمحت به التطورات التاريخية التي أشرنا الى بعضها ، و شجع على الإصرار على فرضه ،  الواقع العربي الهش الى أقصى درجات الهشاشة ، بعد ما عرف ب "الربيع العربي" ... كما شجع عليه واقع فلسطيني كارثي ؛ اذ أننا في فلسطين - كما معظم العرب -  عشنا و كأننا مستقلون محررون ، عشنا نبحث عن المال و الرفاهية ، فتفشى فينا مرض الاستهلاك  ، و نقلنا ما في جيوبنا الى خزائن الشركات و المصارف ، شركات و مصارف لم تساهم في بناء اقتصاد وطني متين منتج ، بل روجت للرفاهية و شجعت على نشر ثقافة الاستهلاك ، ثقافة تستهلك مال الأفراد و تضخم أرباح الشركات و موجوداتها ، و بلعنا الطعم ؛ فازداد فقر الناس و ازداد غنى الشركات ، ان  موجودات بعض المؤسسات العاملة في فلسطين اليوم تقدر بالمليارات ، بالمليارات في بلد محتل !!!  .... بالمليارات و الناس في شدة !!! فلماذا لا يعرض كوشنير صفقته اذا ؟ لماذا لا يرمي طعمه و هو متأكد اننا سنبتلعه بسهولة ، بل بلهفة ، حتى ينقذنا من مآسينا و أزماتنا التي ساهمت سياسة مؤسساتنا الاقتصادية - في فلسطين و في كل العالم العربي -  في تعميقها ... و عجبي !!!

   لكن خاب كوشنير و خسر (هو و أمثاله من تجار الأزمات ، و سماسرة الأوطان ) فرجال الأعمال هؤلاء لا يفهمون أن هناك ما هو أغلى من المال و الرفاهية و السلطة ؛ فهنا و هناك ، هنا في فلسطين ، و هناك في عالمنا العربي ، بقية خير ؛ هنا في فلسطين ، و هناك في لبنان و سوريا و العراق و مصر ، وصولا الى المغرب "العربي" ، مقاومة عربية أصيلة ، أصيلة كأصالة المسجد الأموي في الشام ، كأصالة مسجد عمرو بن العاص في مصر ، كأصالة جامع القرويين في المغرب ، كأصالة الحضارة العربية في اسبانيا ... مقاومة أصيلة  تحارب الانقسام و التبعية و الذل ، و تنشر منطق الحق و التحرر و الكرامة . هذه البقية التي تدرك خطورة الترتيبات الاخيرة على كل العرب ؛ فالصفقة ( بل الصفعة ) المشؤمة لا تتعلق بفلسطين فقط ، بل إن لها جانبها العربي ، و هذا هو الجانب الأهم و الأخطر ، هنا "مربط الفرس" ، و يتجلى هذا الجانب بهرولة الرجعية العربية التابعة نحو اسرائيل علنا ؛ لقد سقطت الأقنعة ، و باتت الاصطفافات و المعسكرات واضحة :

معسكر مرتبط عضويا بالغرب ، يرسخ القطرية و التجزئة و التبعية ...

و معسكر آخر ، متناقض تناقضا تاما مع الأول ، لا يزال مؤمنا بالوحدة و التحرر . و المطلوب غربيا ( بتعاون عربي للأسف ) تدمير هذا المحور تماما ، و اخضاع العرب نهائيا ، و اسكات الاصوات الشريفة الى الأبد ، و ليس هناك أفضل من هذا الوقت العربي العصيب لذلك ، خاصة و ان الامبريالية الغربية الرأسمالية ، و على رأسها اميركا ، تمر بأزمة مالية عميقة قد تكون الاخطر في تاريخها ، مما خلخل بنيانها ، و خاصة مع بروز الدور الروسي عالميا ، الى درجة وصلت فيها روسيا الى مواقع متقدمة ، فأقامت قواعد لها في المنطقة ، و أصبحت رقما صعبا مما يدفع بأقطاب الامبريالية الى التحرك بشكل محموم ، وبوقاحة واضحة لفرض صفقة القرن ( أو صفعة القرن ) ، التي لا تمثل الا حلقة جديدة في الحرب ضد العرب ، و لكنها ربما تكون الحلقة الأخطر ... و لكن - رغم كل المصائب و المخاطر - هناك مؤشرات ، و معطيات ، تبشرنا بفشل مشروعهم الخبيث الخطير :

فالعراق الذي حوصر لسنوات ، و جوع أهله و قتل أطفاله  ، العراق الذي  احتلت أرضه و دمرت بنيته و جيشه  ، العراق الذي اجتاحته "عصابات" داعش  ، و باعت نفطه للغرب بثمن بخس !!!  هذا العراق يقف اليوم ( رغم كل تحفظاتنا على  سياسته و بنية الحكم فيه) يقف اليوم وقفة أصلب بعد تحرره من داعش.

و سوريا ، العربية الأبية ، التي رفضت الخضوع و خيانة المقاومة ، سوريا هذه قامت من وسط رماد الحرب كطير العنقاء الاسطوري ، و أثبتت أنها رقم عربي صعب في مواجهة أطماع الغرب و خططه...

و الشعوب العربية المطحونة ، المنهكة ، المهمشة ، التي خابت آمالها كثيرا ، و التي صودرت تضحياتها كثيرا ، لا تزال فيها روح المقاومة و النضال حية : النضال ضد اسرائيل ، و النضال ضد أنظمة الحكم المستبدة .

و حتى حكام العرب ، المرتمين في أحضان الغرب، رفضوا - علنا على الأقل - صفقة القرن ، و هذا له دلالته المهمة ، انه يدل على أن فلسطين ستظل الهم الاول عربيا ، و أنه ليس من السهل التفريط فيها ، خوفا من الشعوب ، لا حرصا على فلسطين .

و أخيرا - و ليس آخرا - هناك المتغيرات الدولية التي تتمثل في الدور الروسي الايجابي في سوريا ، و الذي أصبح يمثل - مع ادراكنا أنه يسعى لتأمين مصالحه - كابحا للسياسات الغربية في منطقتنا .

   لقد بدأت حديثي متشائما ، بحكم الواقع و الوقائع ، و ها أنا انهيه متفائلا ، بحكم الواقع و الوقائع أيضا ؛ فما تقدم من معطيات و مؤشرات  هي معطيات و مؤشرات واقعية أيضا ، وهي تجعل التفاؤل واقعيا أيضا . هذا للذين لا يؤمنون الا بالورقة و القلم ، و آلة الحساب ، أما ، المناضلين - فرغم أهمية حسهم التاريخي - الا أن الأهم عندهم هو ايمانهم بعدالة قضيتهم ، و الأهم عندهم هز ارادة يستطيعون بهما تطويع الواقع ، ولو بالتدريج ، لأحلامهم الانسانية النبيلة متذكرين تمييز "غرامشي" بين تشاؤم العقل ، و تفاؤل الارادة .