"يقال ان اكتشاف الإنسان للأداه كان سر تقدمه وانهياره في آن واحد"

.

في وسط هذا الفراغ والخراب كان القصر ذو الأسوار العالية والمساحة الشاسعة والبناء المهيب، محتفظًا بشكل العالم القديم الذي عرفناه قبل الانقطاع الأول، يعيش فيه قرابة الألف شخص .. يحمونه من هجمات الخارج بكل ما استطاعوا من قوة، فهم يعرفون .. ماعاد من بالخارج بشرا مثلهم.

لا يذكر محمود شيئا عن الإنقطاع الأول لكنه يذكر عندما اتي إلي هذا القصر صبيا هاربا من هذا العالم الموحش، وكم من ليلة وقف هو وصديقه اشرف علي اسوار القصر متمنيا ان يفوز برضا حاكميه ليبدأ فيه حياة جديدة.

محمود -كما روي عنه صديقه اشرف- شخص جامد الملامح، لا يبتسم إلا نادرا، كثير التفكير ولكن لم يعرف احدا حوله فيما يفكر لكن كان كل سكان القصر يثقون في ارائه والتي انقذتهم اكثر من مرة من هجمات الخارج، عرفه اشرف بمحض الصدفة عندما أتوا الي القصر في نفس التوقيت وفي نفس السن تقريبا طالبين الحماية من العالم الخارجي.

.

خمسة عشر عاما قضيناها معًا في هذا القصر حتي اصبحنا شبابًا اشداء، نعرف بعضنا بعضا، ونتجمع احيانا في البهو الفسيح نستمع لبعض الكلمات التي تبث فينا الأمل وتذكرنا في نفس الوقت بوحشية العالم الخارجي.

كان  القصر ينقسم إلي جناح شرقي وجناح غربي، عاش محمود مع اشرف في الجناح الشرقي وعرف كل من فيه وحازوا علي ثقته جميعًا، لم يكن يتوجه الي الجناح الغربي إلا لتأدية بعض مهام تأمين القصر، في جناحنا الشرقي هذا نُكثر الكلام عن شعب الغرب -كما نسميهم تندرًا- لأننا شبه منعزلين عن بعضنا البعض وهذا ليس إلا لمساحة القصر الشاسعة ولأن لديهم من يقوم بأمورهم ويحوز علي ثقتهم.

لم يكن محمود يري احدًا من الجناح الغربي إلا في يوم التجمع في البهو، كانت معاملاتهم رسمية ومتحفظة إلي حد ما نظرا لإنعزالهم عن بعضهم.

يوم التجمع بالبهو؟ وما ادراك بهذا اليوم، كل من في القصر يقفون ليستمعوا إلي كلمات حاكمي القصر أو لنكون اكثر دقة مندوبًا عنهم، حيث اننا طوال مدة بقائنا في هذا المكان لم نري من يحكمه ابدًا لكن لم يكن هذا ما يشغل بالنا علي أية حال فلم نكن نريد إلا ان تنتهي تلك الكلمات المكررة ونعود كلٌ إلي جناحه إلا محمود الذي كان يتابع تلك الكلمات بنفس حماسة وشغف أول مرة سمعها حيث كان يخاف ان يُنسينا تكرار الكلام حقيقته، وحقيقة اننا نعيش في جنة بالنسبة إلي ما تبقي في الخارج.

اخر يوم تجمعنا فيه بالبهو اتذكره جيدا، وذلك لأن اشرف كان قد سأم كلمات البهو المكررة تلك، فعرض علي محمود عدم النزول، لكن ما أدراك بعناد محمود؟ وفي النهاية ابي ان يترك محمود وحيدًا ونزل معه ووقفا واستمعا لنفس الكلمات، وفي تلك الليلة رآها محمود .. ومن عينيها عرفها.