لست من الذين يبحثون عن أنفسهم داخل الكتب، بالرغم من أني أصادف فيها الكثير من الملامح التي تشبهني.. القراءة في أوضح تجلياتها : نوع من الموسيقى.. عندما أقرأ كتابا جيداً فهذا - من ناحية الشعور - لا يختلف أبداً عن سماع معزوفة عظيمة ، كلاهما يعتصر قلبي فتقطر منه حسرات الأيام الخوالي، ذكريات اليتم و العزلة الطويلة ، تخرج عشرات الوجوه التي دفنتها في أعماق قلبي و تعود للحياة ، و تملأ صدري الحكايات التي لا أعلم لمن أرويها..
أقرأ أكثر ، أطرب للسطور .. يزداد الزحام في قلبي، و تمر السنوات تلو السنوات جاعلة مني دولة مكتظة بالأشباح و الاقتباسات الحكيمة و الأحزان المزمنة، حتى إنه لم يعد في داخلي متسع أضع فيه شخصاً أحبه، و لا شخصاً أكرهه.. بطبيعة الحال، لا أظن أن شخصاً مثلي يصلح لشيء سوى معايشة الحزن و تفاصيله ، ربما هم هكذا مواليد برج السرطان يميلون لرسم أبعاد درامية لحياتهم، و ربما أن حياتي كانت غنية بالدراما بلا تدخل منّي.. و لم أفعل شيئاً سوى الانتباه لهذه الكارثة التي أنا فيها منذ الصبا ، و أيا يكن فإن القراءة لم تعالج شيئاً من ذلك و إنما عرفتني على الكثير من إخوتي في الوجع، الذين جعلوا من القلم مشرطاً يمزقون به عروقهم ليطردوا ما يسكنها من أحداث الماضي البعيد..
لدي - بسبب القراءة - عائلة كبيرة من الفصاميين و المختلين و المزاجيين، لدي جيش عظيم من المهزومين الذين سحقتهم الحياة حتى أصغر عظمة فيهم.. إنهم أحبتي المنكوبين، الذين لم يسبق لي رؤيتهم و لا محادثتهم، و لكن عندما يحدث ذلك لا أحتاج للكثير من الوقت كي أدرك كم في عيونهم من استغاثات و صراخ اخمدوه بابتسامات لطيفة.. كالمريض الذي تزوره وهو على سرير الموت، يبتسم ، يخبرك أنه بخير و أنه ليس عليك أن تقلق بينما تتسلل روحه من فراغات أضلاعه ببطء لتهرب من جسده المتعب.. هؤلاء هم مرضى القراءة، رفاقي.. لهم محبتي الأبدية و عزائي الممتد إلى أقصى العالم حيث يسكن أبعد واحد منهم..