كلمة المؤلف :

*يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين .

فقال له أنس ابن مالك رضي الله عنه ( يا رسول الله إنك لتكثر من هذا الدعاء ! .. قال يا أنس : إن رحمة الله لا تفارقهم طرفة عين )

وكان صلى الله عليه وسلم عندما خيُر له أن يكون له مثل جبل أُحد ذهباً فقال : لا يارب ، أجوع يوماً فأدعوك وأشبع يوماً فأحمدك .. 

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:قال رسول الله "تجتمعون يوم القيامة فيقال : أين فقراء هذه الأمة ومساكينها ؟ فيقومون ، فيقال لهم : ماذا عملتم ؟ فيقولون ربنا ابتليتنا فصبرنا ووليت الأموال والسلطان غيرنا ، فيقول الله جل وعلا : صدقتم . قال : فيدخلون الجنة قبل الناس وتبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان.سنتناول من منطلق هذه  الأحاديث قصة عجيبة لطفل لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره وكيف واجه هذا المسكين الصعاب منذ نشأته حتى نهاية الرواية ..                                           -                                                        الفقير إلى الله/ زياد رضا الحفناوي

وفي تلك  الساعة  من  ربيع  عام 2003 كانت  الأزهار قد مَلأت  الأراضين  وجابت  على  النخيل نضرةً  وبهاء ، واكتست  الأرض  بالزروع  ومُلئت  الأشجارُ  بالثمار ، كان هذا اليوم  هو  مشهد مولد الطفل ( علي ) وياله  من  طفلٍ  قد بكت  لأجله  السماء  وصاحت  لأجله  الأرض ..

ولد هذا الطفل  في  ضاحية  من  ضواحي  مدينة  أسيوط  لأبٍ  مسكين  وأمٍ  مسكينة ، فكان والده  يصارع  العيش  والعيش  يصارعه  من  أجل  كسب  قوت  يومه ، وكانت  أمه  تصارع  المرض والمرض  يصارعها ، كانت  قد أُصيبت  بمرضٍ  نادر قد طالها في  ريعان  شبابها ، فكانت  صابرةً محتسبةً  عند الله  أجرها ، فالطفل عليٌ  لا يملك  من حطام  هذه  الدنيا شيئاً إلا أبيه  وأمه .. فقط !!

فبعد أن نشأ نشأةً إيمانية  وروحانية  على  درجة  عاليه  من  الإيمان  والبساطة ، وبعد أن  بلغ الخامسة  من  عمره  توالت  عليه  المصائب  من  حيث  لا يدري ، فعندما  كان  أباه  يسعى للرزق ويصارع  العيش من أجل أن يسُد فراغ  بطون  أهل  بيته ، وليس لديه  مبتغى أو أمنية  سواها .. نعم سد فراغ  بطونهم !  فكان عمله اليومي هو محصلة  حياة  أفراد أسرته ، فهم يعيشون على هذا المصروف  اليومي  فقط..

وليس  هناك  أي مصدر للمال  غير هذا المصدر ولأجل  ماذا ؟؟ لأجل سد فراغ  البطن !

يالله !!

كان  يعمل  ليل  نهار لا يكل  ولا  يمل ولا يستميل إلى الملل  فهو عبارة عن  ألة  مسخرة  لدى  صاحب العمل  فقط ، وكانت  طبيعة  عمله  عند بعض العمال  هو شقاء يتبعه  بلاء وهو تكسير  الصخور  في  الصحراء لتكوين طرق   ممهده  تسري  بها العربات  والأمتعة.

وعندما كان  في  جذوة  العمل ، سقطت  على  رأسه  صخرة  ضخمة ! فهوى على الأرض من شدة  الصدمة ، وتلفظ أنفاسه  الأخيرة  وفي  نفسه  حسراتٌ  لاذعة  وألامٌ  قاتله ، فكانت  حسراته وآهاته تتجلى  في  زوجته  المسكينة  وطفله  علي ، ياتُرى من أين سيأكلون ! من أين سيحصلون على قوت  يومهم  الذي هو أملهم الوحيد على هذه  الدنيا ! - وليس لهم سواه  في هذه  الدنيا الفانية التي لطالما قست  على الناس  وأذاقتهم مُر العيش وألوان العذاب - ، فأغمض عينيه  الباليتين من أرق العمل والمثابرة  والمصابره على العيش والكفاح  طوال  سنين  عديدة … فيالله ! من لهاتين  النملتين  اللاتي تركهن هذا الوالد المسكين  في كنف  هذه الدنيا القاسية .. ياالله ! من لهم غيرك .. فأنت أرحم بهم من هذا المسكين ..

فأما بالنسبة لعلي  وأمه . فقد ضاقت عليهم الأرض  بما رحبت ، وتزاحمت  عليهم  السماء  بما حملت ، وهوت  بهم الجبال فلا معين  لهم ، وفاضت  بهم  البحار فلا منقذ لهم ...

ظلت هذه  الأم التعسة تغالب مرضها من أجل العمل والشقاء ولم  تمش  في  الطرقات تسأل  الناس فظلت تخدم  في بيت  هذا وذاك ..  ولله  في أوقات  الغداء .. فقد أتت  عليهم  مصيبة  أخرى أحسبها أفظع من سابقتها ، فقد ولد هذا الطفل المسكين وبه  مرض منذ الولادة  فهو مرض السكري .. وظهرت أثاره  عليه وعلى سحنته  ونموه ، فكان  في الثالثة  عشرة  من عمره  ولم يتجاوز طوله  ثمانين  سنتيمتراً ، فكان جسده  نحيفاً جداً لا تبينُ  عليه  أثارُ القوة  بل كان جسده هزيل وجسمه  نحيف  وقامته  قصيرة ، فيا الله  من لهذا المسكين! .. وبعد أن بلغ  هذا الطفل الثالثة  عشرة  وقد كان طالباً في المرحلة  الاعدادية  وقد أصرت أمه على تعليمه حتى  ولو  ابتاعت نفسها من أجله  ومن أجل تعليمه ، فقد تمكن المرض من أمه وفارقت الحياة  بعد صراع  مع  هذا المرض الخبيث  فاق  السبع سنوات ، وقبل  وفاتها بدقائق معدودة ، وقد وضعت علياً على فخذيها كما تفعل الأمهات مع صغارها عند النوم  وعندما كان  المرض قد تمكن منها وأحست بالمفارقة  ومابينهما إلا ثوانٍ  معدودة ، قالت  له بضع كلمات  لطالما أثرت  في الفاسدين أنفسهم ، قالت له : يابني  إن أباك  قد تركنا وحدنا وذهب  وأنت تدري ما ألمَّ بي من مرض ، وتعلم  أني  في  أي لحظةٍ مفارقةٌ  إياك  فخذ هذه النصائح  وضعها نصب عينيك  يكن  الله  تجاهك ، يابني لا تفرط  في صلاتك ، ولا يغرك حب  ذاتك ، ولا تتكبر على الدنيا فتسحقك  وتمحيك ، ولا تطلب  أحداً سؤالاً  وأنت  مقتدرٌ على أن  تأتيَ  به  من عرق  جبينك ، يا بني  ويا فلذة  كبدي .. لا أدري هل سأعيش معك  أياماً أخرى أم  لا ، فأنت مازلت  ابن الثالثة  عشرة ، لا تدري ما هي الدنيا وما تحتويه من مخاطر ومحاسن ، فأنت  مازلت  تجهل الطريق ، فقد أودعتك  في معية  الله  ورحمته  فلا أملك  سواه في هذه الدنيا فليس لك  قريب  ولا  صاحب ، ولا حبيب  ولا جاحد ، استودعك  الله الذي  لا تضيع  ودائعه ..  وأغمضت عينيها وأغمضت  الأرض عينيها على كل  جميل   في حياة  هذا الشاب المسكين  إن كان  له  جميلٌ فهو  في  تلك  الأم المسكينة  التي كافحت  وغالبت المرض من أجل لقيمة  تبيت  في  جوفه كل يوم .. يالله !!   فرحلت  هذه  الأم  المسكينة  وتركت علي ، فلم  يبق لعلي شئٌ إلا رحمة  الله ، فأخذ يعيش  في  البيت  وحيداً  لم  يقبل  العطايا من أحد ، فقد نشأ على الزهد والبساطة  والعزة  في كل شئ ، فرغم  قسوة  الفراق  وقسوة  المرض  وبهظ العلاج  فقبل أن يتكفل أهل الخير  بعلاجه  فقط ..  يالله!  

 فاضطر  عليُ  إلي  ترك  المدرسة  والسعي  وراء رزقه  تاركاً ورائه  هموم  لا يطيق علي تحملها جبلٌ ،  فأي عزيمة  و أي  نقاء و  أي  صفاء هذا يا رب !!

فوالله  ما رأيت  مثيله  في  الكفاح  قط ، طفل مريض  فقد أباه  وأمه ، و  رغم   ذلك  لم  يركنْ  و أبي أن يفقد روحه   و ذاته  و خرج  للعمل ، وشباب الأمة  في  سكرتها غافله ، ما يهمها هو الزي  الذي  سيرتديه  في مناسبة هذا أو ذاك  وأي  ألوان  الطعام  سيتناول اليوم أو غداً  ومتى ستعجب  به الفتيات  وأي هاتف   سيشتريه. فلله درك ياسيدي الصغير فأنت كما قالوا رجلٌ بأمه ..!

ماتت  فيك  ذكريات  الطفولة  وأي  طفولة ،  فوالله  إنها  لرجولة  بحق ، خرج  يبتغي سبيلاً  للرزق فخرج  يبتاع ( حلوى الشعر )  بجسد نحيف  وجسم ضئيل لا يهمه كيف  يكون  مظهره  فهو لايدري أي زي  يلبسه  وهل هو ملائمٌ   له  أم  لا!  خرج  يمشي  في  الإشارات  والمنافذ  يبتغي  رزقاً حلالاً ، لايقبل الصدقة  فهو  ذو عزة ٍ  عفيفةٍ  مسكينة .. يالله ! من لهذا الحي الميت !  فأنت أعلم  بحاله فهو لا يترك  لك فرضاً إلا وقد أداهُ  في  جماعة , و تعلَّم  و علَّم  الكثيرينَ عن  سنن  نبيك  الكريم  من  جلوسه  في حلقات  الذكر  في  المساجد بعد كل الفروض ، فهو يعيش  في  بيتٍ  صغير أو ماشابه البيت  فهو عبارة عن غرفة  معروشة  بالغاب  والقش !!

يقوم  في الثلث  الأخير من  الليل  يصلى  ركعتين ، فيدعو  لأمه  المتوفاة  لعلها كانت  أرحم  به  من أناسٍ آخرين ، يبقى  حتي  الفجر جالساً على حصيرة  بالية   اتخذها مضجعاً ومجلساً ومصلى ، يخرج لصلاة  الفجر ، فريثما ينتهي منها حتى  يجلس  لسماع  درس  مابعد الفجر لعله  يخرج  بطائل منه ، فلله  درك  يا سيدي  الصغير !  فلقد فعلت  مالم  يفعله شباب  الأمة  النائم ، ينتهي من سماع  الدرس ثم  يخرج  إلى  طلب  الرزق ، ثم  ينفق ما يكسبه من  قروش  في  شراء بعض  من  طعامه  القليل  الذي يكفي فقط  لسد فراغ  بطنه ، فوالله  منذ ولادته  لم يهنأ بالشبع قط ولا يعرفُ له  معني !  ورغم  هذه القروش  القليلة  التي  اكتسبها من كده  وعرق جبينه  وهو بحاجة إليها بل  في حاجة  إلى ما هو  أكثر منها ، فقد كان  له  طريقٌ  آخر ينفق  فيه  ، أيُ  طريقٍ  هذا ياتُرى !  فقد كان  يتصدق  ببعض القروش  التي كان  يكتسبها في اليوم  الواحد على  امرأةٍ  عجوزٍ قد تركها ابنها البكر  وكانت   لها ابنة مسافرة إلى الخارج  قد نستها ثم تناستها !

يالله ..!

أيُ  رحمةٍ  في  قلب  ذاك  الطفل  المسكين  يارب ! ياربي  إنَّ  قلبي  لم  يعد يحتمل مثل هذه التضحيات.

كان ينتهي من عمله  قُبيل صلاة  المغرب .. فيذهب  ويشتري  له  بعض  اللقيمات  فيتقاسمها  مع تلك  العجوز ، ويعطيها بعضاً من هذه  القروش  القليلة ، فيا لرحمة الله بعباده ، فقراء يساعدون فقراء ليصارعوا جيوش الفقر البربرية  وأي  فقرٍ  ذاك! إنه  فقرٌ  مميت  يأتي  علي  العباد كالطوفان فلا  يدع   في الأرض  أخضراً  ولا  يابساً!

لم  يكن  يعلم  هذا الطفل صافي  النية ، بعيد الطموح ، أن  هذه  العجوز ستكون  فرجاً له  يوماً ما . ففي يوم من الأيام  التي كانت  لم  تظهر له  أي  إحسانٍ  أبداً.. فقد كان  يومه  يتكرر كل يوم  ولا جديد فيه كما ذكرنا _ أعزنا و أعزكم  الله _ .. وعند قبيل  المغرب  ذهب  هذا المسكين  ببعض اللقميات  إلى  هذه  العجوز  ولكن  وجد الوضع مختلفاً بعض  الشئ ، فقد أتت  إليها ابنتها بعد غياب  طال  السنين  والسنين  وطلبت  منها العفو  والرضا و أن  تأتيَ معها لتعيش ما بقي لها من حياتها الضائعة -  بل  قل  المسلوبة  بيد أبنائها -   في قصر  زوجها  الذي  قد توفاه  الله ،  وقد كان لها طفل  في  سن  علي ، وهو  الوريث  الوحيد  لأبيه  وقد كان  زوجها رجلاً  ثرياً ، فوافقت  بعد جدال  ومماطلة  شديدة  استمرت لساعات وساعات  ووضعت شرطاً واحداً  وهو  قدوم  الفتي علي معها..  وبدون  تفكير  وافقت  هذه  الإبنه  علي  الفور ، ولكن كان  لطفلنا الصغير  رأيٌ  آخر وهو  أنه  لا يمكنه  الذهاب  بل  يفضل تلك  الحياة  التي عاشها ويعرفها جيداً ولا يرغب  في حياة القصور  وترفها ، أي عزة  هذه  يارب !

وبعد مماطلة  شديدة  وجد علي  أنه  يجب  أن  يذهب  للقصر  ويعيش  حياة  كريمة  ولكن هو الآخر وضع  شرطاً  .. تُري  أي  شرطٍ  هذا ؟! …  طلب منها تخصيص  ثلث  هذه  الثروة  من  أجل الفقراء والمساكين الذين لا تعلمهم هو  يعلمهم  جيداً ، فنظرت  له هذه  الإبنه  نظرة  إجلال  وتقدير وبدون  مقدمات  تذكر  وافقت  وأمرت  بإنشاء  جمعية  خيرية  يديرها من ؟! يديرها ذاك  الفتي ولكن بعد أن يبلغ  السن القانوني للعمل   .. وذهب  علي  إلي  القصر  وأمضى  حياته  هناك  وهو يدير جمعية  من  أكبر  الجمعيات  الخيرية  في مصر ...

فيا الله ...!

 كنت عوناً وسنداً لهذا الطفل المسكين حتى أصبح رجلاً يتحمل هموم بني أمته ..  ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                                                النهاية