وفي ليلةٍ صافية قد فرغت لنفسي قليلاً،قد خلوت مع نفسي في مكانٍ هادئ، شرعتُ أُدقِّقُ النظر في السماء وأنا مستلقٍ على ظهري ....

رأيتُ في تلك الليلة سماءً صافية مليئة بالأنجُم المُلتهبة اللامعة، رأيتُ البدر مُكتملاً ويكانهُ قنبلةٌ بيضاء تنفجرُ في السماء بين الفينة والأخرى لتُشعّ نوراً وهّاجاً ينشرحُ الصدرُ عند التأمُل فيه !

رأيتُ جداول الماء تنبثقُ من بين الصخور المُلونة، وسمعتُ خَريرهُ وهو يتلاطم لُجّجاً على الصخور فيُنشئ في أذني سنفونيةً مُطربةً لمُوسيقيٍ بارع ، رأيتُ خيالها يروحُ ويجئ في الأفق أمام ناظريّ !

صورةٌ لم تُفارق عيني للحظة ! تبين ثم تختفي، فأتلهف شوقاً لرؤياها في تلك الوهلة التي تختفي فيها لبرهة، يراود عقلي شرودٌ عميق أسرحُ في خيالها ساعاتٍ وأيام، فأتأملُ في السماء فأراها في مُخيلتي قد ارتسمت على ثغرها بسمةٌ وأي بسمة !

إنها بسمةٌ طفولية بريئة تحمل في ثناياها مسافاتٌ وفراسخٌ ما بين الإعجابِ والعشق ضروباً وألوان .

وفي عينيها أرى ... أرى عالم آخر غير العالمْ ، عالمٌ ملئ بالأمنيات المرجوّة وتفاؤلٌ قد نشب فيه لوعة ونيران، ثمَّ ... ثُمَّ أرمُق في تلك الليلة بُراقاً يُعانقُ أطراف القمر بجناحية الأبيضيّن ! فيترُك على القمر أثرَهُ المتلألئ ... يترُك شقوقاً هلى سفح القمر .. شقوقٌ بيضاء تفيضُ بقطرات العسل الأبيض الممزوج باللون الوردي المُتقطِر، يَسري في هذه الشقوق كالأنهار المُنفجرة من باطن أرضٍ مُباركة تفيضُ بالحب والطمأنينة !

ليلةٌ هادئة أتحدث فيها لنفسي وأهمهمُ بكلمات لا أفهمُ لها معنى، رُبما كنت في حينها سعيداً بعض الشئ !

أتكلمُ فيها كلاماً طويلاً وأحاديث لا تنتهي، وتبقى لغتي في هذا الكلام هي الصمتُ العميق !

نعم .. الصمتُ العميق هو لُغتي المعبرة عن كل الشجن الذي يدور في داخلي، وأرى أيضاً في هذه الليلة المؤنسة طيوراً مُلونة لا تطير في وضح النهار .. بل تطيرُ في أعماق ليلٍ هادئ، تدورُ حول الخمائل والنخيل دوراتٍ مُتصلة وتُغني أعذب الأغاني وتُلحن أروع الألحان الشجيّة، تدورُ في فضاء السماء الشاسع ! تسيرُ خلف بعضها رويداً رويدا ....

فالسماءُ صافيةٌ مليئةٌ بالأنجُم والبدرُ مكتمل وخريرُ الماء يُلحن أجمل السمفونيات وخيالُها مازال يُداعب عيني في الأفق والبُراق لا يزالُ مُحتضناً القمرَ ويُفجّر فيه أنهار العسل الأبيض الوردي والطيورُ تدور حول الخمائل وعيني ... وعيني مازالت تُراقب كل هذا في صمت عميق !

فغالبني النومُ واستيقظت على أشعة الشمس الساطعة وقد أشرقتْ على أنداء الزهور ترسمُ على وجوه الخلق ابتسامة الربيع ... ومازال في قلبي حُلُمٌ عتيق !