سُبحان من جعل من دماء مخلوقٍ عطرا ، ومن رحيقِ الزهور غذاءَ ، ندعوك بأفئدة عرفَتْك حين كذَّب غيرها فأقرَّت، وآمنت بك فزُلزل غيرها واستقرت ،واعصمنا أن تكون آراؤنا في الحق البيِّن مكان الليل من نهاره، أو تنزل ظنوننا من اليقين النيِّر منزلة الدخان من ناره، نسألك بوجهك، ونتوسل إليك بحمدك، باسمك نبدا وبه ننتهي ، فوفقنا فيما قد كتبنا وأرشد به أفئدة قد ضلت وأحيي بهِ نفوساً قد إنطوت وذهبتْ ، إليكمْ وإلى كل من طالته سحائب الغي والضلال ، إلى من قالْ إن الطريق مُظلم ، إلى كُل من إنغلق قلبه على الترهيب والترغيب في الأوبة والتوبة ،،،،


كان صاحبنا منشغل إلى الدنيا غارقا فيها ، فكأنما وجد فيها ضالته ومبتغاه الفريد ، قد نسى الآخره وآلامها ونفَّر عنها وتناساها ، قد بلغ من العمر العشرين أو يزيد ، وأصبح منغمساً في الدنيا الغرور ، لا يهمه ما ترك من الصلاة وما قرأ من ورد من القرآن وما فعل من أمور العباده الميسورة ، فراقبتُه عن بعد وتأملت إنغماسه في هذه الدنيا ولم يتسنى لي الأمر بعد حتى أًفاتحه في هذا الأمر ، تركته يمشى على ضلاله القديم مع أنه من أقرب الاصدقاء لي ، تركته للدنيا حتى تعلمه شيئا من دروسها الأليمه ، وبالفعل قد حال عليه الحول وأتته الدنيا بحاذافيرها تطلب رضاه بكل مايشتهي ، فما زاده غير تثبيت على الإنشغال بها والتفكير المزمن بها ، ولم يعلم ذاك المسكين أنها تؤهله إلى معركة قاسية وصراعٍ ملتهب ، أتته الدنيا راضية وستبوح له بكل سرٍ دفين بها .


وفي ذات يوم قد خرج هذا الفتى على غير ميعاد وذهب بسيارته إلى إحدى دور الخمر والمجون ، وبينما وهو سائر إلى وجهته إنهوت به سيارته في أحد الأنهار على مُفترق طريق نتيجة الإرتطام بأحد حواجز الرصيف ، وغاص هو وسيارته في هذا النهر العميق !


وبينما كان الموت يدق أبوابه إلى ذلك المسكين المغرور ، تذكر الآخره حق التذكرة ،وسمع أنيناً يهمس في أذنيه : يامسكين ألم تعلم ان هذه الدنيا فانيه لا محال ، قد أتتك تسعى بكل ماتملك من قوام زائف ، ومن فضاء شاسع إلى بوتقه زجاجه ، يامسكين تذكر قدرة الله !


وتجلت أعماله التي قد إقترفها في أيامه النكراء ، تجلت هذه الأعمال أمام عينيه وهو في قعر النهر ، ويكأنه لا يتذكر إلا غيرها من الأعمال ، وقد فاحت منه رائحة الحسره والندامه ، ولسان حاله ينادي ويصرخ : يالله من لي غيرك والله ولو يوماً واحداً أدعوك وأتعبد به لتغفر لي ما مضى من ذلات وآثام ، يالله إرجعني اعمل صالحاً غير الذي كنت أعمل ، وفي تلك اللحظه وهو في سكرات الموت إذ كانت الرحمه الإلهيه قد أحاطت به ببعض المنقذين الذين أنقذوه من الموت المحقق وأخرجوه من النهر ، ومكث في المشفى قرابة الشهرين وهو في غيبوبة تامة ، قد عرف الله فيها حق المعرفه إذ تمثلت أمامه أعماله الفاسده بوحش رابض يلتقي هو وهذا الوحش في معارك ، تدور بينهم جولات وصولات ، ينتصر حينا ويُهزم حينا ، ويخطط كيف يتفادى هذه الاثام وهو في غيبوبته كجثة هامده مستلقية على الفراش ولكنها في عالمٍ آخر تخطط لما بعد الغيبوبه وكيف الانتصار على هذ الآثام والاوبال ، قد لازمته مذ عرفت بحادثته الأليمه ولسان حالي يقول : واهاً لك أيتها الدنيا !! لم تنالي منه فحسب بل أقسمتِ ألا تفنيه جسداً بل أفنيته عقلاً ، فسبحانك اللهم !! تمهل ولا تهمل

وقد أتاني الطبيبُ في اليوم العاشر من دخول هذا الصديق في غيبوبته، فوصف له ماوصف وأمر الممرض بتنفيذ التعليمات كما يفعلُ كل يوم ويكأنه روتين يومي، ولكن في هذا اليوم لم أتمالك نفسي وجرى في عقلي شكٌ مريب بعد ملاحظتي تعابير وجه الطبيب، فسألته ماهي حالته الآن ؟ هل هناك أمل ؟!
رد علي بصوتٍ فاتر وقال : لم تعدْ باليد حيلة أخرى ! فلتدعوا له .


وبعدها تيقنت أن هذا الصديق لن يُكمل بضع أيام حتى ينتهي كلياً، فدعوت الله أن يفيقَ ولو ليومٍ واحدٍ فقط حتى يقضي دينه مع الله، فلا أعلم ولا هو يعلم هل يغفر الله له أم لا، كلها أمور غيبيه لا نعلم لها جواباً، وتبقى الدعواتُ هي ملاذُنا الوحيد ورجاؤنا البعيدْ.

أما عن صديقي هذا فصار جُندياً في غيبوبته يُصارع الوحشَ الرابض في معاركَ عده، تتجلى آثامه نصب عينيه فيُهزم، فصارت معيشتَهُ كأنها حياةٌ غير الحياة وعالمٌ غير العالم، قد رافقته طيلة هذا اليوم كاملاً أدعوا له ولا أتوقف إلا لبرهةٍ قصيرة أتناول فيها بعض اللقيمات لكي تمنحني القدرة على الدعاء وتلاوة الآيات، وعندما جاءَ وقتُ السحر وقد نام جميع من في المشفى وبقيت وحيداً جالساً على سجادتي بجوار سريره، وقد بدأت في صلاتي التي قد وهبتُ ثوابها لهُ، مرت الدقائق والساعات ومازلت أصلي وأدعو، ففي هذه الليلة الطيبه كانت أبواب السماء قد فُتحتْ، وإذا بهالةٍ من نور تزور عيناي المغلقتان من أثر الخشوع فتطرقها وتعبُر، فسمعتُ صوت أنين خافت يقوى ويضعف شيئاً فشئ فإذا بصديقى قد فاق من غيبوبته، وعندها قطعتُ صلاتي وهرولت نحوه فرحاً مسروراً ولساني يُلعثم بكلامٍ لم أفهم له معنى حتى الآن، فإذا به يُزيل الأجهزة الطبيه التي قد أحاطت به من مكان، وفجأة وبدون مقدمات سجد الفتى !

سجد الفتى لربه وناجاه بكل ما يكن به صدره ، وبكى من شدة الخشية ونقاء القلب وصفاء الروح ، وأخذ يبكي ثم يبكي والدموع تتساقط على بلاط الغرفة كهطل المطر المنهمر على أرض جدباء قد إرتوت به ، وارتاعت له نفسه وجرى به شعور الرجفه والرعشة ، وباح بكل ما يملك من شِكاة وآناه ، وأقبل على الدنيا بلسان حالٍ يقول : تباً لكِ زائفة فانية .

( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )

فقد كان هذا الفتى جاهلا أحمقا مخدوعا ، قد صار على عماه حتى أضله عن السبيل ولم يعلم هذا المسكين أن القدر وإن كان في السماء ، كانت هناك محابر كُتب منها تاريخ الإنسان لا تزال كما كانتْ من قبل أن تُشرق بالدماء والدموع ، ولا يزال الدهر يستمِدُ منها ولا يزال يكتب من هذا المِداد ، ولم يعلم أنه ما علم الحكماء والأطباء غذاءً تُسمِنُ عليه المصائب والأحزان إلا الحرصَ على الشهواتْ .

سجدْ سجودأً والله مارأتْ عيني سجوداً مثله حتى أنني حسبته قد فارق الحياة من شدة إجهاشه بالبكاء وفي تلك اللحظه قد حضر الأطباء وبعض الممرضين على صوتِ إنذار الأجهزه التي أزالها صديقى من على جسده، فرفعناه ووضعناه على السرير وقام الأطباءُ بعملهم وأسعفوه، فحمدتُ الله كثيراً ورأيته وهو مبتسم إبتسامة لقلما رايتها قد ارتسمت على ثغره من قبل، وهو يتحدث بصوتٍ متقطع ويقول : الحمد لله! الحمد لله! الحمد لله!

قضى ليلته هذه في ذهول، لا يتكلمُ مع أحد ولا يتطلع إلى أحد، قد أمر الطبيبُ بمكوثه يومين إضافيين في المشفى حتى يسترد كامل قواه النفسية والبدنية، لازمته خلال هذين اليومين وفي نهاية يومه الأخير أخيراً قد تكلم معي ! وكانت أول كلمة قالها لي : ما أحلى التوبة !
ليتني لم أخُض في هذا الطريق الشائك، هل سيُسامحني ربي ؟!
قلت له : يا صاحبي و يا رفيقي دربي ! لا تيأس ولا تجزع فإن الله لطيف بعباده، قد وضعك في موضع اختبار ولكنك لم تنجح فأراد سبحانه أن يرُدّك إلى وعيك ورشدك، وابتلاك على تقصيرك الفائض، والحمد لله أنه أمهلك حياةً أخرى فاغتنم الفرصة ياصديقي وكن من الأوابين التوابين، ومع كلْ كلمة أقولها له فإذا بسيلٍ من الدموع يفيض من عينيه الباليتين من الأرق والتعب، حاولت تهدئته لكني لم أستطع ومضيتُ في نُصحي له وأذكره بأفعاله الأثمه وأُردد له بعضاً من مواقفه التي قد ندم أشد الندم على اقترافها، فخرج من المشفى وقد تغير تماماً وأصبحَ رجلاً من رجالِ الدعوه يُرشدُ الضالين ويطوف البُلدان والقارات ليأمر بالمعروف وينهى عن المُنكر.

هذه هي الدُنيا يا أحبتي لطالما ألمتنا حيناً فهي قادرة على أن تُحيي في نفوسنا اشياءً قد قتلناها بأيدينا، نتعلمُ منها أشياءً لو اجتهدنا في دراستها أعواماً لما فهمناها إلا بالتجربة والإختبار، والدنيا دار ابتلاء وماهي إلى طريقٌ عابر يؤهلنا إلى مابعد حياة البرزخ، فارجعوا إلى الله فوالله الذي لا إله غيره لو أننا رجعنا إلى الله لملكنا الدُنيا وفتحنا أبوابها المستعصية، وسرنا في الدروبِ بعزة الإسلام .

أسألُ الله العظيم رب العرشِ الكريم أن أكون قد وفقتُ في إيصال المعنى المُراد وأن ينفعنا وينفع بنا، وأن يُجنبنا دروب الشيطانْ، وأختم بهذه الآية الكريمة :

( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ )