ع

مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

مدة القراءة: 4 دقائق

تضرع طاغية


جسده ضخمٌ و لكـنه منهك :

    مــدّدوه على فراش أبيض ، زرعوا في ذراعيه ابرا معدنية كثيرة تضخ في جسده ، على مدار الساعة ، أدوية مختلفة و مغذيات ، ذراعاه الضخمتان الصلبتان القاسيتان ، ممدّدتان الى جانبيه ، يداه الغليظتان مقبوضتان ، بالكاد مقبوضتان ، بقوة الخوف و التوتر مقبوضتان .

   أحنى رأسه بصعوبة الى الأسفل ، فتح  كفه اليمنى ببطء شديد ، نظر اليها ، ازدحمت مخيلته بصور كثيرة ، رنت في أذنيه أصوات مختلفة ، امتلأت رئتاه بروائح  حاده ؛ انها تفاصيل لوقائع قديمة جدا و لكنها عادت طازجة حية ؛ بدا له و كأنها حدثت للتو : أصوات رعب صـمـت اذنيه ، روائح دم زكمت أنفه ، وجـوه ضـحاياه سـيـطـرت على مخـيـلـته ...

أشـاح بـوجهـه عن يـده ، أعـاد رأسه الى الأعلى بصعوبة ، و حاول تحرير نفسه من طغيان هذه المشاهد .

جسده ضخم ، و لكنه ضعيف :

   على صدره العريض الصقوا أسلاكا كثيرة ، الأسلاك مربوطة الى شاشة معلقة فوق رأسه ، الشاشة مزدحمة بأرقام و رسومات لم يفهم منها شيئا الا معنى صورة واحدة : صورة ترمز الى القلب ، انها تشير الآن الى حالة قلبه ، قلبه الذي وصف بالميت !  و كيف لا يوصف بصاحب القلب الميت من سمع العشرات يتضرعون اليه خوفا و رعبا دون أن يهزه ذلك ؟ .

آه يا قلبي - قال في نفسه - ثم شعر بأعياء شديد ، ارتخت يداه ، مال برأسه ، و أغمض عيناه ، سمع صوتا حادا كأصوات الانذار يصدر عن الشاشة المعلقة فوق رأسه ، أحس بحركات سريعة حوله ، فتح عيناه بصعوبة فشاهد عددا كبيرا من الاطباء و الممرضات يلتفون حوله ، ثم تلاشت الصور و اختفت الأصوات ...

جسده ضخم ، و  لكنه عاجز :

   بعد أيام أفاق من غـيـبـوبته ، انها المرة الثالثة التي يتوقف فيها قلبه ، في كل مرة كان يمكن أن يموت ، أرعبته الفكرة ، آه من هذه الصور و الهواجس و الظنون التي تلاحقه منذ شهر ، شهر كامل هي الفترة التي قضاها ممدا على هذا السرير اللعين ، ذي اللون الأبيض المقرف ، شهر واحد هو تاريخه المرضي كله ، لم يزر يوما طبيبا ، بل لم يأخذ طيلة حياته حبة دواء واحدة ، فما الذي جرى ؟

  • انقلوني الى الخارج
  • لا فائدة يا سيدي – ارجوكم سامحوني على صراحتي - و لكن وضعكم لا يسمح  
  • استدعوا اذن أفـضـل الأطباء ، أكثرهم علما و خبرة ، اسـتـوردوا آخر المستلزمات ، أنفقوا من ثروتي - علي - بلا حساب .
  • فعلنا ذلك يا سيدي فعلنا ، و لكن ، لكن لا بد من الانـتـظـار ...
  • انتظار ؟! ...  انتظار ماذا ؟ ... انتظار ... انتظار من ؟ من ؟ .
  •                                                                          ***

    نظر من النافذة القريبة ، رفع رأسه الى السـماء ، و تذكّــر الله ، منذ عـقـود لم يذكُــر الله الا في المخاطبات الرسمية ! ، منذ سنوات لم يذَكَّــره به أحد ، الا أمه ، كانت تقول له دائما :

    ( اتق الله و احذر من دعوة المظلوم )

    المظلوم ، ترى هل اشتكاني أحد أعدائي الى الله ؟

    ( لا شك في ذلك يا بني ، لذلك ليس لك الا الله ؛ استغفره و تب اليه )

    امي ؟!

    تلفت حواليه ، بحث في أرجاء الغرفة ، لا أحد ،

    هل جـنـنـت ؟!  لا شك أني جننت ! لقد ماتت أمي منذ سنوات ، آه يا أمي ، آه لو كنت حية لعلمتني ماذا أقول لله ؟

    لم يجبه الا الصمت ، صمت مخيف مرعب !

    نظر ثانية من النافذة ، رفع رأسه الى السماء ، و قال :

    جيش من أكفأ المُـمَـرّضـيـن يـَسْـهَـرون على راحتي  ، أعلم الأطباء في خدمتي ، عشرات الأدوية دخلت جسدي ، و كل ذلك بلا فائدة !

     ما أعجزني ؛ أموالي طائلة و لكني فقير ، رجالي كثيرون و لكني بلا نصير ، ما أعجزني ،

    يا رب : نحن الفقراء و انت الغني ، نحن الوضعاء و انت العلي ، نحن الجهلاء و انت السميع البصير الخبير العليم ،

    يا رب : نحن العاجزون و انت القادر ، نحن الناقصون و انت الكامل ، نحن القساة  العصاة و انت الغفور الرحيم ،

    يا رب : اغفر لي و ارحمني ، و أكرمني بالشفاء ،

    يا رب : لئن أنجيتني من هذه لأكونن من الصالحين الشاكرين .

                                                                           ***

    بعد أسبوعين قالت الصحف :

    أطباؤنا يمنحون الزعيم حياة جديدة

    الأفراح تعم البلاد باستواء الزعيم على عرشه من جديد

    الزعيم يأمر باعتقال المفسدين في الأرض ، و اعدام المتمردين على أمره ... !

    ع

    علاء حسام هلال

    مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

    أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

    انضم الى اكتب

    منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

    التعليقات