جسده ضخمٌ و لكـنه منهك :
مــدّدوه على فراش أبيض ، زرعوا في ذراعيه ابرا معدنية كثيرة تضخ في جسده ، على مدار الساعة ، أدوية مختلفة و مغذيات ، ذراعاه الضخمتان الصلبتان القاسيتان ، ممدّدتان الى جانبيه ، يداه الغليظتان مقبوضتان ، بالكاد مقبوضتان ، بقوة الخوف و التوتر مقبوضتان .
أحنى رأسه بصعوبة الى الأسفل ، فتح كفه اليمنى ببطء شديد ، نظر اليها ، ازدحمت مخيلته بصور كثيرة ، رنت في أذنيه أصوات مختلفة ، امتلأت رئتاه بروائح حاده ؛ انها تفاصيل لوقائع قديمة جدا و لكنها عادت طازجة حية ؛ بدا له و كأنها حدثت للتو : أصوات رعب صـمـت اذنيه ، روائح دم زكمت أنفه ، وجـوه ضـحاياه سـيـطـرت على مخـيـلـته ...
أشـاح بـوجهـه عن يـده ، أعـاد رأسه الى الأعلى بصعوبة ، و حاول تحرير نفسه من طغيان هذه المشاهد .
جسده ضخم ، و لكنه ضعيف :
على صدره العريض الصقوا أسلاكا كثيرة ، الأسلاك مربوطة الى شاشة معلقة فوق رأسه ، الشاشة مزدحمة بأرقام و رسومات لم يفهم منها شيئا الا معنى صورة واحدة : صورة ترمز الى القلب ، انها تشير الآن الى حالة قلبه ، قلبه الذي وصف بالميت ! و كيف لا يوصف بصاحب القلب الميت من سمع العشرات يتضرعون اليه خوفا و رعبا دون أن يهزه ذلك ؟ .
آه يا قلبي - قال في نفسه - ثم شعر بأعياء شديد ، ارتخت يداه ، مال برأسه ، و أغمض عيناه ، سمع صوتا حادا كأصوات الانذار يصدر عن الشاشة المعلقة فوق رأسه ، أحس بحركات سريعة حوله ، فتح عيناه بصعوبة فشاهد عددا كبيرا من الاطباء و الممرضات يلتفون حوله ، ثم تلاشت الصور و اختفت الأصوات ...
جسده ضخم ، و لكنه عاجز :
بعد أيام أفاق من غـيـبـوبته ، انها المرة الثالثة التي يتوقف فيها قلبه ، في كل مرة كان يمكن أن يموت ، أرعبته الفكرة ، آه من هذه الصور و الهواجس و الظنون التي تلاحقه منذ شهر ، شهر كامل هي الفترة التي قضاها ممدا على هذا السرير اللعين ، ذي اللون الأبيض المقرف ، شهر واحد هو تاريخه المرضي كله ، لم يزر يوما طبيبا ، بل لم يأخذ طيلة حياته حبة دواء واحدة ، فما الذي جرى ؟
***
نظر من النافذة القريبة ، رفع رأسه الى السـماء ، و تذكّــر الله ، منذ عـقـود لم يذكُــر الله الا في المخاطبات الرسمية ! ، منذ سنوات لم يذَكَّــره به أحد ، الا أمه ، كانت تقول له دائما :
( اتق الله و احذر من دعوة المظلوم )
المظلوم ، ترى هل اشتكاني أحد أعدائي الى الله ؟
( لا شك في ذلك يا بني ، لذلك ليس لك الا الله ؛ استغفره و تب اليه )
امي ؟!
تلفت حواليه ، بحث في أرجاء الغرفة ، لا أحد ،
هل جـنـنـت ؟! لا شك أني جننت ! لقد ماتت أمي منذ سنوات ، آه يا أمي ، آه لو كنت حية لعلمتني ماذا أقول لله ؟
لم يجبه الا الصمت ، صمت مخيف مرعب !
نظر ثانية من النافذة ، رفع رأسه الى السماء ، و قال :
جيش من أكفأ المُـمَـرّضـيـن يـَسْـهَـرون على راحتي ، أعلم الأطباء في خدمتي ، عشرات الأدوية دخلت جسدي ، و كل ذلك بلا فائدة !
ما أعجزني ؛ أموالي طائلة و لكني فقير ، رجالي كثيرون و لكني بلا نصير ، ما أعجزني ،
يا رب : نحن الفقراء و انت الغني ، نحن الوضعاء و انت العلي ، نحن الجهلاء و انت السميع البصير الخبير العليم ،
يا رب : نحن العاجزون و انت القادر ، نحن الناقصون و انت الكامل ، نحن القساة العصاة و انت الغفور الرحيم ،
يا رب : اغفر لي و ارحمني ، و أكرمني بالشفاء ،
يا رب : لئن أنجيتني من هذه لأكونن من الصالحين الشاكرين .
***
بعد أسبوعين قالت الصحف :
أطباؤنا يمنحون الزعيم حياة جديدة
الأفراح تعم البلاد باستواء الزعيم على عرشه من جديد
الزعيم يأمر باعتقال المفسدين في الأرض ، و اعدام المتمردين على أمره ... !