هاهي قد مضت اربعين سنة من عمري ، ها قد عمّرت اربعين سنة فوق هذه الارض ، مضى كل ذلك الزمان من عمري وانا لا أدري
كيف مضيت يا عمر، كيف مضيت واحرقت كينونتي والبعض مني؟
نعم، أنا عمري اربعين سنة وانا لا اصدق ، يا ترى: أهو حلم؟ ، هل أنا في حلم وجدت نفسي فجأة في منتصف العمر؟
اربعون عاما كاملا مضى ، وقد كنت بالامس فقط، طفلا يجري ويلعب وينادي امي امي
بالبارحة فقط، كنت في قسم المدرسة الابتدائية، يقصّ علينا الاستاذ حكاية ليلى والذئب
اتذكر تلك السيارات التي كنا نصنعها بالاسلاك ، تلك المغامرات التي كنا نقضيها خارج البيت في وقت المغرب وفي وقت العشاء
لا ادري ما ذلك الزمن الذي يحملني إلى التناهي ومغادرة هذه الحياة الدنيا
اين انت يا طفولتي ومراهقتي وشبابي وحزني وفرحي ، ما هو المكان الذي تعيشون فيه لاسترجعكم واحملكم في نفسي وجسدي
هل هناك آلة زمن تحملني الى الوراء لابقى في ذلك الزمن لأعيش لحظة دائمة في لحظة من لحظاتي الماضية
انا فعلا الطفل الصغير الذي كبرت، انا فعلا الشاب الذي كان في مقتبل العمر وكبر ، ولكن الطفل والشاب قد ماتا مني وها انا الآن في عمر الاربعين
يا للمفارقة ، أيمكن أن يحدث هذا؟ عندما كنت صغيرا ، واسمع أنّ شخص في الاربعين اخاله شيخا كبيرا او رجلا بالكاد سوف يفارق الحياة
كيف لنفسي ان اصل لهذا العمر؟
عندما كنت صغيرا لم ابالي بالزمن ، لم اكترث للعمر، لم يكن الزمان عندي يحمل لدي اي معنى ، اما اليوم فتأملي في الزمان يزداد بشدة
ماذا يعني هذا، هل يعني سن الاربعين الرحيل ، هل يعني ان الرحيل قد اقترب
ايتها الحياة لماذا تنزعين مني عمري، لماذا تسلبين مني حياتي، هل انتي حلم ايتها الحياة ، لماذا لا تعيدين لي عمري وشبابي
نعم انا اعترف باني في عمر الاربعين، واعترف ايضا اني استهلكت كل زماني ، ولكن كيف مضيت يا وقت، ما الذي يجعلك تمر دون ان ادري
اعرف شيئا واحد وهو ان الايام تتوالى ، يوما بعد يوم وعندما تتوالى لا نشعر بمرور السنين
يوم ياتي بعد يوم، وفي ذلك المرور تحرق مراحل من عمرك، الطفولة والمراهقة والشباب دون ان تدري
تكون طفلا ثم شابا ثم كهلا وانت لا تدري ، الفواصل الزمنية من عمر الانسان غير مرئية ولا نراها ، اننا ندخل من مرحلة الى اخرى دون ان ندري
ها انا الان في مرحلة الكهولة ، وفي بداياتها ولا ادري هل سوف اعيش نصف زماني الذي ابليت
عمري اربعين سنة، لم يبقى ربما من العمر اكثر مما مضى، والاكيد انه لن يكون مشابها للماضي ، لن يكون مشابها لطفولتي ، لمراهقتي
بالامس فقط كنت مع امي وكانت حية ترزق، اما اليوم فهي تحت الارض قد انقضى عمرها وانتهى
لم اعد اجد امي اليوم، لم اعد اسمع كلامها، ونصائحها، لم اعد ارى غضبها وحزنها وبشاشتها، وتخوفها على ابنائها، لم اعد ارى اهتمامها بي وبإخوتي
وكأنها قالت لي وهي في زمن الصمت: تصدّى للحياة فقد انهيت مهمتي، قد كانت في عمر الثلاثة والسبعين من العمر عندما ماتت في العام الماضي ، وهي الان ليست معي وليست في البيت انها في عالم آخر، عندما ماتت أخذت معها اربعين سنة من الذكريات
أهو الزمان قد اخذ امي بغير رجعة ، نعم إنه الزمان عندما انهى طريقه، وخطف امي
تلك الاماكن التي في البيت تتحدث من خلالها، امي ليست حاضرة لكي تتكلم، ولكن الجدران والاواني والاشجار تتحدث في مكانها، نعم لأول مرة يحضر المكان عندما ارى امي ولا يحضر حضورها ، نعم يتكلم المكان ويصمت زمانها الحاضر، ويتكلم فقط ذلك الزمان الماضي في ذاكرتي
مع الموت يتكلم المكان مع الماضي ، ويستدعي فقط اشباح الماضي ويخرص الحاضر
اربعين سنة مضت من عمري وكأنها حلم ، وانا اعرف تماما انها ليست حلم، ولكن الزمان مرّ حلما سريعا
فقط بالامس كنت انتظر بفارغ الصبر نجاحي في الشهادة الثانوية وحصولي على الشهادات العليا، وبالفعل حققتها، حينها لم اكن ابالي بالزمان ولا بالوقت ، لم اكن اهتم به، اما اليوم فعندما حصدت ونلت ما تعبت لاجله : ظهر لي زماني كرجل كهل اعياه الزمان
حتى ذاكرتي اصبحت تخونني، لم تعد تستجيب عندما اريد ان اتذكر، تنقلني فقط في الزمن الحاضر والمستقبل
لماذا ايتها الذاكرة تخونينين لماذا لا تأخذيني الى زمن طفولتي لا عيش بعض لحظاتها
هاو هو الشيب يملأ شعري وكأن الزمان يقول لي : قد أحرقتني حياة وأحرقك موتا