عالم الذات 

Image title


من عادة الكتابة في المقالات أن يذهب الكاتب إلى تعريف ما يكتب عنه ابتداء. وإن كان الحديث هنا يسقط على (الذات) فأكثر ما حيرني هو اختيار تعريف مناسب من تعريفات متعددة يصوغ الفكرة التي أريد إيصالها في قالب مفهوم واضح. والسبب في تعدد التعريفات لذات الموضوع هو نوع حقله الذي ينتمي إليه. فالذات هنا تنتمي إلى العلوم الإنسانية، ويقابل العلوم الإنسانية العلوم الطبيعية أو المادية. فالعلوم الإنسانية علوم تتصف بالغموض والتداخل والتقاطع، والإنسان كائن ذو قصد كما يقول وليام ديلتاي فسلوكه تحدده دوافع إنسانية داخلية (معنى – ضمير – إحساس بالذنب – رموز – ذكريات طفولة – تأمل في  العقل)، لذلك لا تستطيع أن تمسك طرفا محددا وتقول بأنه هو الوحيد ومنه البدء كما نجد في العلوم الطبيعية. ومن هنا ظهر على المستوى الفلسفي الذاتية التي يقابلها  الموضوعية وهذا مبحث يطول أمره و ليس من شأننا الآن.


سأكتب هنا عن الذات عينها وليس عن تقدير الذات أو الثقة في الذات أو تطوير الذات أو ما إلى ذلك ، فكل هذه المعاني ليست إلا تبعا لمعرفة الذات.


يُنسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أن ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، وتعبر عما به من شعور وتفكير، والفاعل الإنساني هو المفكر وصاحب الإرادة الحرة . يُدرك العالم الخارجي ويتعاطى معه. ويعرِّف آخر مفهوم الذاتية بأنه مختلف الميول والانفعالات والرغبات والأهواء، ومختلف الاعتقادات والآراء الشخصية التي يتبناها الإنسان.

إذن كأننا نقول بأن الذات كُل. بأن الذات هي الإنسان. الذات هي الصورة الشاملة الداخلية لهذا الكائن الذي يتعاطى مع العالم الخارجي من خلالها، والعالم الخارجي ليس إلا ذات أخرى فذاتي تقابل ذاتك أنت وذات فلان وذاتا هناك.

 الذات لا تعيش لوحدها منفصلة بل  في تفاعل مستمر مع الذوات المقابلة، مع الأصدقاء، مع زملاء العمل، مع المجتمع كله. وهناك عبارة تقول بأن (إثبات الذات ومعرفتها يكون عن طريق الآخر) فلا يكون أمام المرآة. هذه العلاقة الجدلية والتكاملية مع الذات الأخرى ينشأ عنها كل مقابلات الذات من إثبات و نفي وتناقض وضعف و تنمية وانفصال. ولكن لا يعني هذا المفهوم بأن الذات جزء من الآخر بل هي كُل.. منفصل مستقل. فالذات فردية لها ما تمتاز به وإنما يُعنى بأن مرآتها العاكسة هو الآخر. فمثلا من عوامل ضعف الذات الافتخار بالنسب والسبب هنا أن الذات تفتقد خصوصيتها وتسمح لعامل خارجي وهو النسب أن يدخل فيها ويشكلها بل ويجذبها للافتخار به، فليس الفتى من قال أبي وإنما من قال (أنا).

الأنا في هذا الموضوع تأخذ مبحث وحيز. فالأنا ليست هي الذات وإن كنا نعبر عن ذواتنا بأنا. الأنا في الفلسفة الشرقية سوء, يرون أن كل سبب الشرور الذي ينبعث من الإنسان بسبب أناه. بينما فرويد يرى أن الأنا هي عملية (وزن) بين إرادة الهوى الغريزية وإرادة الأنا العليا المثالية. نفي الذات تولد من الفلسفة الشرقية بربطهم الذات بالأنا ولكن من المتجلي أن بينهما فرق، وكما سبق وذكرت بأن الذات هي الإنسان فمن المستحيل أن الإنسان سوء وهو المسؤول الأول عن إعمار الأرض بل هو خليفة الله. 
الذات رقيُُّ وبحث عن الكمال، تنمو بالعلم وتتطور بالوعي، تفهم أن عليها مسؤولية توجب منها فعلا. بينما الأنا وإن كان فيها نزعة لحب التقدم إلا أنها نزعة محملة بالكبر والغرور، تنكسر عند أول موقف. إن كانت الذات تواضع فالأنا كبر. الذات جمال والأنا فتنة. الذات شكر والأنا افتخار. وكان الفيلسوف الشاعر محمد إقبال يعيب كثيرا على شيء من الفلسفة الشرقية توجهها هذا، فانطلق هو نحو الذات وربطها بالعمل والإنتاجية، واستحق أن يوصف بفيلسوف الذاتية.


وبحكم أن الإنسان كائن اجتماعي، فله حقوق وعليه، وهذه تقع على عاتق الذات. فكيف لنا أن نصف هذه العلاقة؟


لنقل بأن هناك عالمين للإنسان.. عالم داخلي وعالم خارجي.


العالم الداخلي هو ما يكوّن الإنسان من معتقدات ومفاهيم ورؤى وتصورات، وكيفية طريقته في التفكير والتعاطي مع المشكلات. يتواجد في هذا العالم أيضا الحب والعشق والكره والبغض وكل أشكال العاطفة. 
 بينما العالم الخارجي يبدأ بصورته التي يراها كل يوم أمام المرآة مرورا مع التعامل مع الآخرين. العالم الخارجي هو البيئة المحيطة به.

(هذه العلاقة بينهما علاقة متداخلة وشائكة وأبسط مثال هذا السؤال.. الكلمة التي تقولها ردا على من أمامك.. هذه الكلمة إلى أي عالم تنتمي؟!)


يظهر سؤال جوهري في هذه العلاقة وهو كيف تتعاطى الذات مع هذين العالمين؟ هل هي على توافق دائم بينهما أم أن هناك تناقض..


اعتقد أن الصدق مثال على التوافق بينما الكذب مثال على التناقض، فالذات تتوافق وتتناقض. ولأوضح أكثر.. أجد أن السلوك الإنساني هو الرابط بين العالم الداخلي والخارجي، وهذا السلوك يُنفِّذ من يمتلك السلطة والقوة بناء على اللحظة والموقف الذي يتواجد فيه. فالذي يشعر بحزن شديد من داخله، تقابله في السوق يبتسم لك، مع أن الابتسامة دليل فرح والحزن نقيضه الفرح. وما يفسر هذا (السلوك) هو أنك لا تعني له شيئا بالنسبة لحزنه ، في المقابل ابتسمامة سلوكية عارضة قد تكفيه عناء الإجابة عن سؤالك ما سبب حزنه؟!. فعامل الضغط هنا كان من نصيب البيئة التي وجهت السلوك وإلا ذات الشخص هذا الحزينة لم تتأثر. وإن كنت أجزم إن وقف هذا الشخص بين يدي الله ليشكو له همه وسبب حزنه فإن الابتسامة تكون دمعة- دليل توافق-.


مثال آخر .. حينما رفض سقراط الهرب من السجن بعدما تقرر إعدامه وذلك تقديرا لمكانته وأن في هروبه دليل ضعف مثلما أنه دليل بالرضوخ لقوانين يرفضها. إنها ذات سقراط التي تكفلت مفاهيمه بأن تضغط على سلوكه بالبقاء في السجن حتى وإن كان السم له شراب.


ويتضح لنا هنا قاعدة هامة :

أن السلوك وإن خالف ما نضمره إلا أنه يمثلنا بالدرجة الأولى، ولنا كامل الأحقية أن تكون تصرفات الآخرين معيارا للحكم. 

هذا شيء من عالم الذات.. عالمنا الخاص.. الفردي.. الذي لنا كامل الحق في تشكيله..


همسه ،،

يقول بعض من يتحدث عن الذات بمقولة (تغيير الذات) .. عفوا الذات لا تتغير وإنما تتطور وتنمو ...

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

عادل عواض..