قد يمر على يافوخ الإنسان مالم يراه طيلة حياته، قد يتعجب من عقول لا تحاول إضاءة ظلام، قد يعيش شعورا مرا، مريرا، قاسيا، صعبا في لحظة ما وفي مكان ما، قد يغوص بعقله ما لم يغصه الأولون، قد يسافر بخياله إلى دُول اللامنطق، قد يتعرف هنالك على اللامعقول وعلى اللامسؤول، قد يعتصر دمه وفكره أمام هامش كبير من الحرية، قد يختنق هذا المرء بما رحبت الأرض ووسعها، قد يتنفس هواء فاسدا فساد المفاهيم الدنيوية، قد يلمس طيفا زائرا ليلا أو نهارا، قد يركض وراء سراب يظنه العطشان ماء، قد يمشي وراء موكب احتفاليا، ثم يخبره الأفق بأنه مشى خلف جنازة تتحرك، قد تنزل دموع التعاسة على خد الحزن، قد تنهمر مشاعر القهر على أراضي العجز، قد تخرّب أمطار الشتاء ما بناه الفلاح صباح صيف، قد تلوي الرياح أعناق أزهار يافعة، قد يقبر الرياء حصاد خير، قد يفران: السمن والعسل من مناخ يبرق ويرعد، قد تجري الرياح بما لا يشتهيه فاقد التفكير، قد يغرس زهرة في غير موضعها، قد تختفي مشاتل البهجة والسرور من حديقة الحق، قد تنعدم خراطيم المياه لسقي زهور الحب، قد تحدث الاستثناءات ثقوب الانتقام والعناد، فيغدو البستاني فقير الشوق والمبالاة.

قد تخون الكلمات اللسان الفصيح آحايينا، قد يفرغ السفيه المنطق من منطقه، قد يقزم الجاهل حجة البصيرة بقوانين التفاهة، قد يغدق مسرف اللغو العقل بنقود التزييف، قد يسحب المنطوق السخيف المكتوب الصادق إلى حضيرة البهائم، فالمال تاج كل جاهل يرصع كلامه ذهبا، وإن تكلم المهمش صدقا شنّعوا عليه ورموه بالخطأ، وإن تكلم صاحب الجاه خطأ حييوا فيه خصال الإنسان الذي ينسى، وعدلوا كلامه للطريق الذي يرنوه صحيحا، تتغيرت المفاهيم، وأضحت الأشياء معكوسة، وانقلبت موازين الرؤية، فالكل يشتري ويبيع الأخلاق في سوق المصلحة، القلة القليلة تفكر تفكيرا سليما، فالسواد الأعظم دخل مزاد الكذب، فهو فن لا يمتهنه إلا الحاذق والفاهم بأزقة الحياة وأنهجها.

 تغيرتْ، نعم تغيرنا؛ لأن طبول الخديعة طبطبة عروق عقولنا، لآن المصائب رقرقت ماء الحذر فينا؛ لأن الطيور المهاجرة زقزقت وداعا حارا لمبادئ الاحترام؛ لأن التقدير بقبق ضجرا من التزييف؛ لآن كثرة الكذب تقتق رأس الصدق بمطرقة النقمة؛ لأن الجبن شقشق طريق الشجاعة نحو الهوان الفكري ... .


تعاسة ما بعدها تعاسة ...

بلال تيقولمامين

تونس 06-08-2024