Image title

ضمن الكتب التي قرأتها في مراهقتي وأعدت قراءته مرات ومرات ومنه عرفت شاعرًا اسمه (فاروق جويدة) كتاب لأنيس منصور عنوانه: (غرباء في كل عصر) عثرتُ عليه صدفة في بيتنا القروي ولا أعرف يعود لمن لكني استوليت عليه، وفقدته منذ سنين. ربما أكون قد أعرته لرفيقة من رفيقات الدراسة اللاتي طوت الأيام حضورهن... أتذكّر من الكتاب مقالة جميلة عن موهبة كتابة الرسائل الطويلة، الرسائل التي تقول كل شيء وتبدو وكأنها نبش في الروح، تنقيب في الأعماق... وقد كنتُ آنذاك شغوفة بكتابة الرسائل الطويلة، وأحب أن تصلني رسائل من صديقاتي... كُنّا نكتب كل شيء حتى أننا استخدمنا الدفاتر لتحتضن الكلام الطويل الذي نقوله في الإجازات الطويلة، وبعودة الدراسة نتبادل الدفاتر فنقرأها وكأننا عشنا العطلات سويًا. كان هذا قبل زمن الجوّال، في زمن مكالمات الهاتف الثابت التي يعترض الأهالي على طولها... كنت أتكلم هاتفيًا مع صديقاتي بشكل متقطع وخلسة إذعانًا لتوبيخ الأهل...
يقول أنيس منصور في الكتاب إنه حاول محاولات متكررة كتابة رسائل طويلة، لكنه ما أن ينتهي منها حتى يحذف البداية التي تقول: إلى فلان. وبهذا تتحول الرسالة إلى مقالة... فينشرها على الصحف بدلًا من إرسالها للشخص المعني.

أحيانًا أشعر بحاجة ماسة إلى كتابة رسالة طويلة، رسالة تقول كل شيء، رسالة أودعها أفكاري دون ترتيب فيساعدني هذا على ترتيب فوضاي، رسالة تُمكنني من البوح بما يحتشد فيّ... كما أشعر دائمًا بحاجة إلى تلقي رسالة طويلة بجُمل مطنبة وشروحات مُفصّلة وحكايات عابرة وأسرار صغيرة، أحلم برسالة تتضمن اسمي بين سطر وسطر، تعتمد حروف النداء وتتيقن من الإجابة... الرسائل أعذب ما امتلكت في عمري الذي مضى، وأكثر مافقدت في عمري الحالي، فقد فرض النت علينا أن نكون بشرًا بلا ذاكرة، أو بذاكرة قصيرة المدى، تتشتت في القفزات السريعة بين مواقع النت وبرامج التواصل التي يحل أحدها محل الآخر بسرعة فيمحوه...

ضمن مقالات هذا الكتاب أتذكر مقالة نسيتُ عنوانها ومضمونها وبقيَ في ذاكرتي منها فقرة عصية على النسيان يقول فيها أنيس منصور: "الحب الحقيقي مثل الورد الطبيعي، حي وقصير العمر" وأُضيف: كذلك الصداقات الجميلة التي خلّدتها الرسائل، ومحت الأيام وجوه أصحابها، فقد ظلّت على قيد الحياة رغم قصر عمرها، وكأنها ورد مجفف يحتفظ بذاكرة عمري الذي أفل.