"جزيرة النساء: وهي جزيرة عظيمة وليس بها رجل أصلاً. ذكروا أنهن يلقحن ويحملن من الريح ويلدن نساء مثلهن. وقيل إن بأرض تلك الجزيرة نوعاً من الشجر فيأكلن منه فيحملن وإن الذهب في أرضها عروق كعروق الخيزران، وترابها كله ذهب ولا التفات للنساء إلى ذلك. وذكر بعضهم أن رجلاً ساقه الله إلى تلك الجزيرة فأردن قتله فرحمته امرأة منهن وحملته على خشبة وسيبته في البحر فلعبت به الأمواج فرمته في بعض بلاد الصين فأخبر ملك تلك الجزيرة بما رأى من النساء وكثرة الذهب، فوجه مراكب ورجالاً معه فأقاموا زمناً طويلاً في البحر يطوفون على تلك الجزيرة فلم يقعوا لها على أثر."

جاء ذكر هذه الجزيرة العجائبية عند القزويني وعند ابن الوردي، وقراءتي لهذه الأسطورة سترتكز على كونها تفتقت عن مخيلة ذكورية، فكشفت عن حلم الإنسان بالعيش في عالمٍ متكامل إلى درجة أنّ الثمين فيه مبذول ومبتذل، والمرغوب مكتفٍ بذاته بعيد عن النوال. .

فالجزيرة تضم عددًا لا ينضب من النساء القادرات على الإنجاب في استغناء تام عن الرجل، وهذا لا يضمن الاستغناء فحسب بل يضمن الاستمرارية والشباب أيضا... وتراب الجزيرة من ذهب، فيجتمع هنا المال والنساء، ولكن المال مبذول ومبتذل لوفرته، والنساء رغم وفرتهن قصيات نائيات عن النوال مكتفيات بالطبيعة ويتكاثرن على أرض جزيرتهن البكر دون حاجة إلى أحد.

عالم طاهر ومثالي تعيش فيه النساء بلا دنس وبلا أطماع، وحين يدخل رجل إلى هذه الجزيرة وينتهك عالم النساء يكون دخوله مدعاة لقتله، لكن الحنان الأنثوي ينقذه، ويلقيه بعيدًا عن هذا العالم الغرائبي، ولا يصمت الرجل بعد نجاته بل يكشف عن ما لاقاه في هذه الجزيرة، ولا يحاول على الأقل حماية المرأة التي حمته بل يفضح أمرها وأمر باقي النساء ويبوح بسرّ هذه الجزيرة إلى السلطة، لكن السلطة والفضول الذكوري يفشلان في العثور عليهن.

هناك أربع دوال أساسية يمكن من خلالها قراءة صورة هذه الجزيرة النائية والنساء العذراوات القادرات على التكاثر المكتفيات عن الذكور القاطنات على أرض أرخص مافيها (التراب) هو أغلى ماعندنا في الواقع (الذهب).

هذه الدوال الرئيسية (النأي، الطبيعة، النساء، المال) تتفق كلها وتتعاضد لتنتج معنى (الاستغناء) النسائي، في مقابل (النهم) الذكوري.

الدالة الأولى (النأي) فالجزيرة نائية ولم يسبق أن دخلها أحد، وهذا النأي يجسّد صورة المكان/الحلم،  وعالم المثال.

أمّا الدالة الثانية (الطبيعة) تتمثل في الريح التي تلقح النساء والشجر الذي يأكلن من ثماره ويحملن، وهذا الشجر يستدعي في الذهن قصة الوجود الأول في الجنة والمكوّن من ثنائية ذكر وأنثى أغواهما الشيطان بأكل الثمرة المحرمة فطُرِدا من النعيم. ويضع شجرة الجنة المحرمة في مقابل أشجار النساء التي لا تتسبب في طردهن بل في تكاثرهن بعيدًا تمامًا عن الرجل، أي بعيدًا عن احتمال الغواية والطرد. أمّا الريح فتستدعي في الذهن دلالات الخفة والانطلاق والتحرر من التجسد المادي والأهم من هذا كله تتسم بالهبوب العابر، وهذا قد يكون ترميزًا لعلاقات لا تستمر ولا تمتلك أحدًا، على عكس مايكون في العالم الطبيعي. فاستبدال الشجر والريح بدور الرجل في الإنجاب حالة اكتفاء وإقصاء تتبع الدالة الأولى (النأي).

الدالة الأساسية هي (النساء) ولا تُذكر أدوارهن الاجتماعية، هن نساء فحسب، ليس بينهن زوجة لكن بلا شك بينهن الأم والأخت والخالة والجدة، لكن الأدوار المرتبطة بحضور الرجل كالزوجة والعمة ليس لها حضور، وهذا إقصاء آخر ودالّة تدعم دالة (النأي)

أمّا (المال) فيحضر بصورة مبتذلة تمامًا، فتراب الجزيرة من الذهب تطأه النساء بأقدامهن ولا يلتفتن إليه، وهذه الصورة تعزز فكرة غياب رغبة التملك على الجزيرة، فكما تغيب في هذه الأسطورة صورة الرجل المتملك تغيب أيضا صورة المرأة التي تسعى للامتلاك. فالجزيرة عالم مثالي يستغني بذاته عن كل شيء، فينأى عن الطمع والنزاع..

والمشترك بين هذه الدوال الأربعة هو (الاستغناء) فمكان الحزيرة النائي يدل على استغنائها عن الجوار، وعملية التكاثر تتم باستغناء تام عن الرجل، والطبيعة تستغني عن يد الإنسان في تطويعها فهي قادرة على الانتاج دون تدخل منه، والنساء يستغنين عن الذهب ولا يلتفتن إليه.

وكأن هذا المكان النائي والمُنتِج والبكر في طبيعته والثري بتراب أرضه والمحتشد بالنساء صورة عن جنة أرضية، اقتحمها رجل وحيد وكاد يُقتل، ولأن القتل يتنافى مع عالم الجزيرة المثالي فقد طُرِد الرجل من الجزيرة، كما طُرِد في بدء الخلق من الجنة.

وكل معطيات الاستغناء والمثالية حاضرة في الجزيرة لكنها مستحيلة الحضور في الواقع، وكأنها انعكاس لأحلام الذكور التي يرفضون في سبيلها معطيات واقعهم ليركضوا خلف الخطر والضياع، ونهاية القصة تُشير إلى النهم الذكوري فلم يقتنع الرجل بأنه كسب حياته ونجا من القتل، أراد أن يكسب أكثر، فتآزر مع السلطة بحثًا عن جزيرة النساء، ولم يجدوها، فهل كانت الجزيرة حلمًا ليس له وجود؟ هل استطاعت النساء إخفاء جزيرتهن والنأي بها أكثر؟ أم كانت موجودة ولكن الذكور العميان لم يروها لأنهم لا يمكن أن يروا مكانًا يستغني عنهم... 

أخيرًا بقي التنويه بأن موضوع (الجزيرة المفقودة) والارتحال إليها يعدّ من الموضوعات التي تعيش في أساطير أخرى منذ القدم...