حين تتسع مساحة الحرية يتمدد عليها الإبداع ويتنامى مُتحررًا من الجمود وضيق المساحة، يعتقد كثيرون أنّ العلاقة بين الإبداع والحرية علاقة لزوم واطّراد، وهذا يعني أنّ تزايد القمع والتضييق يصيبان الإبداع في مقتل، فيجفف الخوف منابع الإلهام ويضع الشوك والعراقيل والقيود في طريق الإبداع.

كُتب كثيرة تم تأليفها في أزمنة الاضطراب والفتن تشهد بغير هذا، إذ يُخاتل فيها الإبداع كل قيد ويصطفي لذاته أقنعة يتحدث من ورائها، فيُنطِق الحيوانات ويستدني التاريخ من حيّز الماضي ويُعيد روايته وفقًا لمعطيات الحاضر. استنطاق ابن المقفع لحيوانات (كليلة ودمنة) واستدعاءات ابن ظفر الصقلي لحوادث التاريخ في (سلوان المطاع) وتأطير الحكايات وتوليدها في (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) واختلاق أخوان الصفا لوقائع محاكمة تدور بين الإنس والحيوان ويقضي فيها بينهما ملك الجان، والتحليق في فضاء الكلام مع سرب من الطيور كما فعل ابن سينا في رسالته (الطير). كل هذا يشهد على قدرة المبدعين على أن يملأوا مساحات السكوت والتوجس بكتابات تقول ولا تقول، تعترض دون أن تُفصح، تُحذّر دون أن تختنق، وتحكم دون أن ترتقي مقعد السلطان.

هذه المؤلفات وإن شهدت بأن للإبداع قدرة على المخاتلة ويعرف طرقًا متعددة للوصول، إلا أنّها تطرح سؤالًا عن صوت الإنسان المُغيّب خلف ما لا يعقل وما لا ينطق، صوته المتواري خلف أموات يستدعيهم من التاريخ لينطقوا نيابةً عنه.

في مقابل هذا الإبداع المُخاتل، ثمة إبداع مُنقاد، لا يُمكن أن نقول إنّ انقياده كان وبالًا عليه، فقد خلدت قصائد كثيرة نمت في حضن السلطة ومجّدت الطُغاة. لكنّها كانت إبداعات طيّعة لا تقول إلا ما ينبغي أن يُقال، ولا تنطق بصوت أصحابها بل تستعير صوت السلطة لترده إليها وتُسمعها إياه في قوالب جديدة.

في هذا السياق أستدعي العدو الأبدي للحرية، أستدعي السجن، هذا المكان الذي يحتشد غالبًا بمن نادوا الحريّة وهتفوا لها.

في السجن، في هذا القفص الخانق ألّف الشاعر الأندلسي هارون الرمادي كتابًا سمّاه (الطير) وصفَ فيه من سجن الزهراء كل الطيور التي رآها من قبل تُحلّق بحريّة خارج القضبان.

والمساحة هُنا لا تكفي للحديث عن أدب السجون لأنه أدب اتسع على ضيق الزنازين، وهتف في وجه الطغيان لصالح الإبداع الحقيقي الذي لا يخرس، ولا ينضب، ولا يموت. الإبداع القادر على النمو في ظل أي سلطة، لأنه سلطة مضادة بحد ذاته.