في هذه الحلقة من سلسلة مقولة وتعليق ؛ سنتطرق لموضوع الخيانة , ونستهل هذه المقالة بمقولة سياسية تنسب للقائد الالماني الشهير هتلر ؛ اذ قال : (( أحقر الأشخاص الذين قابلتهم هم أؤلئك الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم )) ولو اضاف : (( ... هم الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم , وقتل اهاليهم وشعبهم , ونهب ثروات وخيرات اوطانهم , ورهن مقدراتهم وطاقاتهم بالأجانب والغرباء وتفضيلهم على ابناء وطنهم الاصلاء , وتسليط القوى الخارجية على البلاد بحجة الاستثمارات الاقتصادية او التعاون المشترك او الاتفاقيات السياسية , وتشويه سمعة بلادهم وتغييب هويتهم الوطنية, والاهتمام بالقضايا الخارجية واهمال الشؤون الداخلية , ونصرة الغريب والاجنبي على حساب المواطن ... الخ )) لأفاد وأجاد .
نعم قد تعتري الحياة الزوجية الكثير من المشاكل والمنغصات والتي قد تصل الى الانفصال والطلاق بسبب الخيانة الزوجية او غيرها ؛ الا ان الزواج يبقى زواج ولا يتحول الى سفاح ؛ ما دام المرء متلبسا بالزواج ومؤمنا بعقد الزوجية ولم يفسخه , وكذلك الحلال يبقى حلال , والحرام يبقى حرام , وكذلك الخيانة تبقى خيانة وان غلفها الخائن بالشعارات الوطنية او الادعاءات والمقامات الدينية او السمات الاخلاقية او الاعمال الخيرية والشمائل الانسانية , او اوجد لها العملاء مبررات سياسية ومسوغات ثقافية وفكرية , ولعل تحسين القبيح وتقبيح الحسن وتجميل صورة الخيانة القبيحة اشد ضررا من الخيانة نفسها ؛ فالخائن عندما يعرف ان الخيانة خيانة وانها مرفوضة من قبل الشرائع والاعراف كافة ومستهجنة من كل بني البشر , ويعترف بقبحها وضررها وسوء عاقبتها ؛ فانه ينطق بالحق ويصدح بالصدق ؛ وينفر الاخرين منها ويحذر المواطنين من مغبتها ؛ على خلاف الخائن الذي يروج لخيانته من خلال خلط الاوراق والضحك على الذقون ورفع الشعارات والاختفاء خلف الحركات السياسية والدعوات الدينية والفعاليات الشعبية والشعارات الوطنية ؛ فأمثال هؤلاء ضررهم لا يقتصر على انفسهم فحسب بل يشمل مجتمعاتهم واوطانهم ؛ لذلك يعتبر خطرهم أكبر وتأثيرهم أكثر , فالخطورة تكمن في اعتبار الخيانة مجرد وجهة نظر او رؤية سياسية , او في تقبل المواطن للعمل مع الخونة والاخلاص لهم , اذ ان هذه الافكار الهدامة والرؤى المنكوسة تهيء الارضية للالتحاق بركب الخونة والعمل مع اعداء الوطن والامة والاغلبية العراقية .
فالخيانة تقع ما ان تصبح فكرة مقبولة وثقافة مستساغة ؛ فكأنما تلك الافكار الهدامة مقدمات لحصول الخيانة وتحققها على ارض الواقع , فلا شيء أسوأ من خيانة القلم ، فالرصاص الغادر قد يقتل أفراداً، بينما القلم الخائن قد يقتل أمماً ؛ وعليه تعتبر الخيانة النظرية – ان جاز التعبير – اشد فتكا بالوطن والمواطن من الخيانة العملية .
فالبعض يسوغ الخيانة بحجة تعارض الدعوة الدينية والمصلحة المذهبية مع مبدأ حب الوطن , والبعض الاخر يبرر التبعية والذيلية بذريعة القومية ؛ لأنه يرى ان الدعوة الوطنية تتعارض مع الفكرة القومية , فهم يعتقدون بتعارض الرؤية الوطنية مع الدعوة الدينية والمذهبية والقومية , ويزرعون في عقول الناس فكرة التعارض بين الرؤيتين وعدم انسجامهما معا , بينما قد تكمن الحقيقة في عدم تعارض الولاء للوطن مع الولاء للدين وللعرق والقومية والمكون الاجتماعي ... ؛ لذلك يعمل الخونة وتحت شعار الاواصر الدينية او المذهبية التي تربطنا بهذه الدولة او تلك , او بحجة الانسانية والتواصل مع الاشقاء القوميين وابراز المشتركات الثقافية او تحت ذريعة العولمة والمصالح السياسية مع القوى الاستعمارية ؛ على اضعاف الوطنية في نفوس الناس واستبعاد الهوية العراقية والانسلاخ من تاريخنا وحضاراتنا والتبرؤ من عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا ؛ لصالح ثقافات ومخططات الاخرين من الاجانب والغرباء والدخلاء ؛ ويعد هذا الامر من مظاهر الحرب الناعمة والغزو الثقافي الذي هو اشد فتكا واكثر ضررا من الحرب العسكرية والاحتلال المباشر ؛ فالأعداء والغرباء والدخلاء يريدون خلط الاوراق , ومزج الحق بالباطل والصدق بالكذب واليقين بالوهم والحقيقة بالخيال والتاريخ بالتدليس والتزوير ؛ مما يتسبب بغسيل الادمغة وتغيير القناعات , وعندها نعمل على توضيح الواضحات وتعريف المعرّف , ويصبح بين الوطنية والخيانة خيطا رفيعا يكاد لا يرى , وهذا ما يريده الاعداء .
وحقيقة الخائن تكمن في امرين ؛ الاول الاستعانة والتنسيق مع الاجانب والغرباء , والثاني تقديم مساعدته للأجانب والغرباء مقابل منفعة مادية او سطوة او نفوذ او غيرها من المكاسب , وقد يساوم الاعداء الخائن على بيع شرفه ودينه وشعبه و وطنه وقومه ؛ لذلك ينظر الناس الى الخائن نظرة احتقار وازدراء ودونية , فالذي يبيع وطنه واهله وشرفه لا يؤتمن على شيء , ولا يوثق به مطلقا , فمن باع شرفه لا يصعب عليه بيع بني جلدته او التفريط بوطنه , وحتى الاعداء ينظرون الى الخائن نظرة احتقار وعدم احترام , اذ ان مثل الذي خان وطنه وباع بلاده مثل الذي يسرق من مال أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه ؛ فالوطنية من شمائل الكرام والخيانة من صفات اللئام .
البعض يحاول تمرير خيانته من خلال التشبث بالدعوات الدينية والقومية والسياسية ؛ فلا تستغرب من هؤلاء عندما يخبروك بأن حب الوطن بدعة ما انزل الله بها من سلطان , وان الهوية الوطنية تقليد للغرب , لذلك تراهم يعملون جاهدين على كتم انفاس كل مظهر يتنفس حبا بالوطن , والالتفاف على كل دعوة وطنية وتسفيهها , وخنق الاصوات الوطنية الحرة والتضييق عليها , والمشكلة تكمن في تمرير مخططات هؤلاء على السذج والحمقى والبسطاء ؛ بينما يستطيع المواطن الواعي وبكل بساطة ؛ كشف تناقضاتهم وابطال ادعاءاتهم وشعاراتهم , واسقاط ورقة التوت التي تستر خيانة البعض منهم .
فهؤلاء ستجدهم صامتين وكأن على رؤوسهم الطير في كل ملحمة داخلية او مصلحة وطنية او مطلب شعبي ؛ اذ تخمد تغريداتهم وتختفي تعليقاتهم وتصريحاتهم , ويلتزمون الحياد وكأنهم مواطني دولة أخرى , ومن الواضح ان التخاذل عن نصرة الوطن والتزام الحياد في القضايا المصيرية ؛ يعد من ابرز صور الخيانة ؛ فهم لا يشاركون ابناء الشعب امالهم وقضاياهم وطموحاتهم ومطالبهم ؛ لانهم مرتبطون بالخارج ولا شأن لهم بالداخل الا بمقدار تنفيذ الاوامر الخارجية وتحقيق المصالح والمكاسب الدولية , وهم يعلمون مغبة التماهي مع الدعوات الوطنية الصادقة ؛ فعندها سيتعرضون لعقوبات الاعداء والغرباء وتتضرر مصالحهم الشخصية والعائلية والفئوية الضيقة ؛ لذلك كانوا ولا زالوا اداة طيعة بيد الاجانب والغرباء والاعداء , وخنجرا مسموما في خاصرة الاغلبية والامة العراقية .