يحول الحول حوله، وتنتشر الأحداث وفق منطق كوني محدد، تنطلق الأزمنة والأمكنة إلى اللاّعالم، يخطان معا رسما يجهله الماضي، ويعلمه الحاضر، ويغيّب عن المستقبل. فكذا الشأن للموت، لطالما كان الهاجس الأبدي للإنسان، فمنذ بزوغ فجر الابتكارات، عكف بنو البشر في دراسة الردى وجوانبه المختلفة، ماذا يحدث للإنسان بعد مماته!

لن نتحدث عن الحياة البرزخية ههنا، فلها أهلها وعلماؤها هم أجدر منا في التفصيل وتبيان الأشياء، ولكن ننطلق من فرضية أن إنسانا مات وما مات ! وكأنه حيّ يرزق يرى ويسمع ولا يتكلم، مثل واش يتلصص أحاديث الحياة.

شاءت الأقدار لذاك الرجل الميت فيما بعد الزواج من بنت ما، فأعلنا سخطهما على التقاليد وما كنزته من قوة جذب، سارا معا نحو تكوين أسرة ما، خططا معا لمجابهة العوائق، وضعا معا الحلول الممكنة لردع مشكلة ما، دققا معا في تفاصيل لبّ الحياة، تسابقا في إرضاء بعضهما البعض، تحابا حبا منطقيا عقليا شعوريا قلبيا، فإحداهما تعرض إلى مظلمة حياتية، جعلت أحدهما عنيفا حادا صارما في قراراته، حتما كانت فرحة تعم كلا الطرفين.

فتوّج هذا المسار بزواج تحت رقم «مليار بليون وتسع مليارات»، فذاك هو رقم عقد الزواج في الحياة... واندفع العقل مهللا، والقلب راقصا، والفكر مستبشرا، والعين دامعة، توزع دموعها على سواقي الخدّ، والفم مزغردا، واللسان صارخا، اشهدوا يا حماة اللحظة، لحظتنا، اشهدوا ووثقوا هذه الفرحة، يا معالي السرور، انشدي واطربِ على خفقان قلْبينا، وارقصِ مزعزعة فقاقيع آلامنا الماضية، انتعلِ الكعب العالي، وزلزلِ جنود الألم، واخرجهم من قلوبنا. ثم ماذا ؟ ...

عاد الناس إلى مشاغلهم الحياتية، وانهمكوا فيها غير مبالين بآخرين، وظل رقم عقد الزواج مدفونا بين حبره وكلماته، لم تتح له صلاحيات التكلم، فكان عقدا مؤجلا؛ لظروف منطقية مقبولة، رقم -حتما- سيطويه الزمن طيا، ويرميه كما رمى الناسون أرقامهم، فهل ثمة ناسون ومتذكرون ؟

يا أحباب الكلمات، إن رقم الزواج ينمو في حضرة « الفعل »؛ ليمد أغصانه؛ ليثمر ثمارا ناضجة، فالفعل بهذا المفهوم كالقلب الذي يزود بقية الأعضاء بالدم، ولمّا نحاول البحث عن قلب العش الزوجي، هل ترانا نجده في المطبخ! في غرفة النوم! في القاعة الرئيسية! في بيت الخلاء! في المقهى! في الشغل! من المؤكد أن فعل الأوليات سيرتب الأول بالأول والثان بالثان، الفعل في حدّ ذاته طاقة تحرك الأشياء، الفعل مفعم بالنشاط والحيوية... وإن ارتمينا في أحضان الامتناع، فسنولّد أيضا طاقة جامدة، لا تنفع، ستأسس لقوانين الجفاء والبعد. هكذا هو قانون الحياة، هكذا هو سجل المصاعب...

وشاءت الأقدار مرة أخرى عن موت رقم عقد الزواج، ظاهره اتفاقيات معينة ما، وباطنه الانقياد إلى ما لا يرضي الآخر، فكيف سيتصرف الطرف الآخر! وإن تزوج مرة أخرى، فسيتهم بالخيانة والغزي والعار، فكيف سيثبت أنه تزوج ولم يتزوج في الآن نفسه! كيف سيثبت للعالم بعد رحيل ذاك الميت أنه أعلن عن عقد زواج ثم تزوج فعلا ، ثم يبين للناس أنه لم يتزوج!  كيف سيبين من بعد رحيل ذلك الميت انه كان متعففا! كيف سيثبت للحي الجديد أنه كان مجرد عقد زواج على حبر وهو الذي حبّره بالفعل؟ كيف سيقنع الحي الجديد بأنه جديد في مشاعره وفي صدقه وفي وفائه! حتما إنها مهمة صعبة.

يا أصدقاء الكلمات، خذوا المواقف من فم الفعل، فهو أصدق وأنبل ما يمكن ان تعتمده في تحليل النماذج الحياتية التي تراها أو لا تراها، فالدنيا تتغير بالأفعال وليس بالأقوال، فالفعل أصدق مرآة عما يخالج صدر الإنسان.


صدقوا الفعل ولا اكفروا بالكلام .

بلال تيقولمامين