اقرت الحكومة العراقية عام 2023 الموازنة المالية للبلاد ولمدة 3 سنوات، الأمر الذي يحدث للمرة الأولى منذ عام 2003، حيث كانت الحكومات السابقة تقوم بإعداد الموازنة لمدة عام واحد وترسلها إلى البرلمان لتأخذ طريقها إلى التنفيذ بعد المصادقة عليها.
وقد اعترض البعض على هذا القرار ؛ وذلك بسبب عدم استقرار اسعار النفط ؛ لاسيما وان الإيرادات النفطيّة تشكل 96 في المائة من إجمالي إيرادات البلاد العامة ؛ وقد قال أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة نبيل المرسومي : أن «الموازنة ستدخل في المسار الحرج إذا انخفض سعر خام برنت إلى نحو 60 دولاراً للبرميل ؛ إذ ستكفي الإيرادات النفطية عندئذ لتغطية فقط فقرتي رواتب الموظفين والرعاية الاجتماعية اللتين تصلان إلى أكثر من87 ترليون دينار في موازنة 2023»... ؛ وبحسب البيانات الحكومية، فإن إجمالي الموازنة للعام 2023 يبلغ 197.828 تريليون دينار (نحو 140 مليار دولار) ، أمّا التشغيلية فهي 150.273 تريليون دينار، في حين تبلغ الاستثمارية 47.555 تريليون دينار ؛ أمّا العجز فهو 63.275 تريليون دينار ؛ واعتمدت الحكومة سعر 70 دولاراً لبرميل النفط ... ؛ وأشارت سومو إلى أن "معدل سعر البيع الشهري للنفط الخام لعام 2023 بلغ 78 دولاراً و310 سنتا للبرميل، مرتفعا بنسبة 3.09% عن عام 2022 الذي بلغ 75 دولاراً و965 سنتا للبرميل ... ؛ وبلغ سعر البرميل لهذا العام 2024 ؛ 82 دولار ؛ و يتوقع أن يتراوح سعر خام برنت بين 100 دولار و120 دولارًا في عام 2025 ... الخ .
ومما تقدم نلاحظ ان هنالك ارتفاعا ملحوظا بأسعار النفط خلال السنوات – 2023/2024/ 2025 – عن السعر المقرر في الموازنة , و إن هذه الفروقات من ارتفاع أسعار النفط ستكون كافية لسد العجز في الموازنة الحالية والحد من تفاقم المديونية الخارجية للعراق , وزيادة حصة الموازنة الاستثمارية .
الا ان الملاحظ في حركة السوق العراقية ومنذ اقرار الموازنة الثلاثية والى هذه اللحظة ؛ الركود والكساد وانعدام السيولة النقدية , فأغلب المواطنين يعتاشون على الرواتب او التقاعد او منح الرعاية الاجتماعية , والبقية تعاني الامرين بسبب البطالة والبطالة المقنعة وعدم توفر فرص العمل الكريمة , فضلا عن غياب النشاط الصناعي والزراعي والحيواني والتجاري والسياحي الفاعل او المدعوم من الحكومة , ناهيك عن غزو العمالة الاجنبية للأسواق العراقية والحقول النفطية وغيرها , واهمال الحكومة المتعمد للقطاعات الحيوية في البلاد , وكان واضحا لدى العراقيين ان الاسواق المحلية تنشط بعد اقرار الموازنة لاسيما في الحكومات ما قبل عام 2014 , اذ ترى اثر اقرار الموازنة واضحا على مجمل الحركة الاقتصادية , وبالتالي توفر السيولة النقدية في الاسواق المحلية , الا ان الامر قد اختلف منذ ذلك الوقت والى هذه اللحظة , والبعض يعزو الامر الى تهريب العملة الصعبة الى الخارج , بينما ذهب البعض الاخر الى تحويلات العمالة الاجنبية الخارجية , والملاحظ الان ان اغلب مشاريع الجسور والمجسرات وما شابهها ؛ بيد الشركات الاجنبية والعمالة الخارجية , لذلك لا نرى اي أثر اقتصادي ينعش الاوضاع الداخلية , بسبب خروج اموال العراق الى الخارج وبشتى العناوين والاعذار والشعارات والطرق ؛ بينما يحرم العراقيون من مقدرات بلادهم وخيرات وطنهم , تحت ذريعة ان العراقيين لا يعملون او يسرقون او ليست لديهم خبرات ومهارات ... الخ .
وعلى الرغم من ان الموازنة الثلاثية الحالية هي الأضخم في تاريخ البلاد، إذ تبلغ قيمتها قرابة 153 مليار دولار لكل عام ، اي 459 مليار دولار – وفقا للسعر المقرر 70 دولار للبرميل - ؛ نلاحظ ان الاخطاء السابقة تتكرر , والخروقات وشبهات الفساد تحوم حول بعض المشاريع والصفقات , و وفقا للأرقام الواردة في مشروع الموازنة ؛ ارتفعت تخصيصات الاوقاف الدينية من 1 - 912 تريليون دينار (103مليار دولار ) في موازنة عام 2023 الى 20564 ترليون دينار ( 1076 مليار دولار ) للعام الحالي 2024 ؛ وهو ما يعادل أكثر من ضعف تخصيصات وزارتي الصناعة والزراعة مجتمعتين ...!!
واخر الكوارث الاقتصادية تقليل نسبة المحافظات الجنوبية والوسطى لصالح اقليم كردستان , فقد انخفضت ميزانية بعض المحافظات وتخصيصاتها المالية الى اقل من 80 % عن العام الماضي , وهذا يعني حرمانها من مخصصاتها المقررة , بحجة انها لم تصرف كافة اموالها من موازنة العام الماضي ؛ علما ان الحكومة نفسها لم تزودهم بكامل تخصيصاتهم المالية , لعدم توفر السيولة النقدية او لغيرها ...!! ؛ منذ عام 2003 والى هده اللحظة ؛ يتقدم الاقليم وتنتعش المحافظات الغربية على حساب دمار وخراب الجنوب والوسط العراقي , بحيث وصل الامر بالحكومات المركزية الى اعطاء رواتب لقتلى داعش ولموظفي سكك حديدية فضائية في اربيل , واربيل لم ولن تزود خزينة الدولة بدينار واحد ...!!
ومن جانبه، يعتقد الباحث العراقي بمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن منقذ داغر أن النقطة الأكثر إيلاما للعراقيين في الموازنة تتمثل بالمادة 16 التي نصت على إبقاء السلف المالية الممنوحة للمسؤولين والوزارات الحكومية بين عامي 2004 و2023 والمقدرة بـ 100 مليار دولار، بما قد يعد شرعنة للفساد في البلاد، وفق قوله ... ؛ كما انتقد داغر إضافة البرلمان فقرة جديدة تتمثل بتخصيص مبلغ 350 مليون دولار سنويا مصاريف للبرلمان، بما يعادل 30 مليونا شهريا تقريبا دون المرتبات، وهو ما يكبد العراق خسائر كبيرة إذا ما أخذ بنظر الاعتبار أن عدد أعضاء مجلس النواب 329 نائبا فقط ...!!
ومن جانبه، قال الخبير المالي محمد الحمداني إن إضافة أكثر من 500 ألف درجة وظيفية للقطاع العام سيدخل العراق في مشكلة كبيرة لن تستطيع الحكومات القادمة معالجتها، لا سيما أن عدد الموظفين الحكوميين سيتجاوز 4.5 ملايين بما يعادل أكثر من 11% من سكان البلاد، وهو ما يعد بطالة مقنعة، وفق وصفه... ؛ ولا ادري لماذا تصر الحكومات المركزية على حشر الاف الموظفين في دوائر ضيقة و وزرات غير منتجة , مما تسبب بترهل الدولة وشيوع الفساد والبيروقراطية والروتين وتعارض الدوائر فيما بينها , وفي الوقت نفسه تغض الطرف - وعن عمد - ؛ عن القطاع الصناعي الحكومي وتفعيل الصناعات الثقيلة والاستراتيجية التي غابت أغلبها عن المشهد العراقي بعد أبريل (نيسان) 2003 ؛ ودعم القطاع الخاص بمختلف فعالياته الصناعية والزراعية والسياحية والتجارية وغيرها ؛ نعم اكد السيد السوداني على ضرورة النهوض بالقطاع الصناعي وحماية المنتج الوطني الا ان الامر والى هذه اللحظة يراوح في مكانه ولا يتعدى طور التنظير والشعارات والتمنيات , حتى المشاريع الصناعية و الزراعية والحيوانية والسياحية الكبرى في العراق مسيطر عليها من قبل الاجانب والغرباء والعمالة الاجنبية , بحجة رخص اليد العاملة الاجنبية وغيرها من الذرائع البائسة .
ولو فرضنا ان عدد الجسور والمجسرات التي انجزت والتي سوف تنجز – في حكومة السيد السوداني – 100 جسر ومجسر ,وكلنا يعرف ان تكلفة بناء الطرق والجسور تختلف بشكل كبير حسب عدة عوامل، بما في ذلك الموقع، والمساحة، والمواد المستخدمة، والتضاريس، والتكنولوجيا المستخدمة، وأعمال الحفر والتسوية المطلوبة، والتجهيزات الإضافية مثل الإنارة والتصريف والإشارات المرورية ... ؛ وبشكل عام، يمكن أن تتراوح تكلفة بناء الطرق الجديدة بين 1 إلى 10 ملايين دولار أمريكي للكيلومتر الواحد، وتكلفة بناء الجسور تتراوح عادة بين 1 إلى 50 مليون دولار أمريكي للجسر الواحد... ؛ ومع ذلك، يجب ملاحظة أن هذه الأرقام هي تقديرات عامة وقد تختلف تكلفة بناء الطرق والجسور بشكل كبير حسب العديد من العوامل المحددة لكل مشروع... ؛ ومع ذلك سنقول ان تكلفة انجاز المجسر او الجسر 50 مليون دولار ؛ علما ان اغلب الخبراء يقولون ان تكلفة هذه المجسرات لا تتجازو ال 3 مليون او 5 مليون دولار للمجسر الواحد , يعني ان تكلفة 100 جسر ومجسر ؛ 5 مليار دولار وفقا لأعلى تقدير , ولو فرضنا ان الحكومة قامت بتعبيد واصلاح اكثر من 200 طريق في البلاد وطول كل واحد منها 5 كيلو متر اي 1000 كيلو متر – وهذا التخمين من الخيال - ؛ لكان تكلفتها وفقا لأعلى تقدير 10 مليون دولار ؛ 10 مليار , وفي العادة، تكلفة بناء الطريق أو الجسر يتم حسابها بالمتر المربع أو المتر الطولي ؛ على سبيل المثال ، يمكن أن يكون تكلفة بناء طريق بعرض 10 أمتار وطول 5 كيلومترات حوالي 20-30 مليون دولار حسب بعض التخمينات الاقتصادية المختصة ... ؛ أما تكلفة بناء جسر يتم تحديدها بناءً على نوع الجسر وأبعاده، ومن الممكن أن تبلغ مئات الملايين من الدولارات احيانا اذا كان كبيرا وعملاقا ... ؛ يعني ان المجموع التقريبي 15 مليار دولار فقط ؛ بينما تم تقدير المبالغ اللازمة للجسور والمجسرات والطرق وبناء المدارس والمستشفيات في الموازنة الثلاثية ب 38 مليار دولار ...!!
اكثر من 38 مليار انفقت على المشاريع , فضلا عن مبالغ الميزانية التشغيلية ولم تنعكس بصورة ايجابية على حياة المواطنين او تنشط السوق او تغرق السوق بالسيولة النقدية ؛ بل اصابته بالركود والكساد وارتفاع معدلات الفقر ...!!
لابد للحكومة العراقية من مكاشفة الشعب و وضع النقاط على الحروف ؛ وتقديم كشوفات تفصيلية بأموال الاوقاف والضرائب والرسوم وباقي واردت مرافق الدولة كالمطارات والموانئ والترانزيت وغيرها , وكمية النفط المصدر و معرفة جولات التراخيص والشركات الاجنبية العاملة واسعار النفط , والاعلان عن المشاريع والجهة المنفذة ومدة الانجاز وتكلفة المشروع بكل شفافية وصدق ... ؛ لان الوضع العراقي لا يحتمل المجاملات والشعارات وصفقات الفساد او مشاريع الفشل بعد الان , والشارع العراقي كالبركان الهائج لا تنفع معه الترقيعات او انصاف الحلول .
والشيء بالشيء يذكر ؛ وقد تعرف الاشياء بأضدادها وأشباهها ايضا ؛ قامت بلدية مدينة مشهد هذا العام وبمفردها ؛ بتعبيد 200 كيلو متر بالأحجار الجميلة والملونة واحاطة الطرق بالأسيجة الحديدية القوية وبعضها في مناطق جبلية ؛ لممارسة الرياضة فقط ؛ بينما تعاقدت وزارة الكهرباء المصرية عام 2015 مع شركة سمينس الألمانية، تضمنت بناء 3 محطات دورة مركبة عملاقة تعتمد على الغاز الطبيعي ... ؛ وتضمّن الاتفاق إنشاء المحطات في كل من العاصمة الإدارية الجديدة، وبني سويف، والبرلس في كفر الشيخ، بقدرة إجمالية تصل إلى 14.4 غيغاواط، وبتكلفة استثمارية تصل إلى 6 مليارات يورو (6.48 مليار دولار)... ؛ وقد أمر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ببناء اكثر من مليون وحدة سكنية في مصر , والتي سيكلف بناؤها حوالي 280 مليار جنيه، أي ما يعادل 40 مليار دولار... ؛ وقد تصل فترات سداد ثمن الوحدة السكنية إلى 20 سنة، مع خصم من 30 إلى 40% من قيمتها كدعم للشباب، بجانب تقليص المُقدّم ليتراوح بين 10 و15 ألف جنيه ... ؛ ونسبة كبيرة من هذه الوحدات السكنية جاءت كحل بديل لقاطني المناطق العشوائية التي تم تطويرها ... الخ ... ؛ لفرط الحرمان اصبحنا نرى الحق حلما والسهل صعبا والانجاز البسيط عملاقا ...!!