عندما كنت صغيرة...
كنت أكتب لك الرسائل يا أمي..
و كنت تخبئينها في كيس مهترئ.. في قلب مثقل و ذاكرة منهكة
ذات يوم.. ذات كئابة.. مزقت كل ما حواه الكيس عدا رسائلي.. وضعتها على صدرك و أطبقت عليها ساعديك..و ذاك كان موطنها الآخر و الأخير.
رسائلي لم تغترب أبدا .. سجينة الكيس كانت.. حبيسة القلب .. قعيدة الذاكرة ..أو مرتمية على مروج أحضانك المزهرة..
كبرت يا أمي .. و قرأت رسائلي.. فطاف بي الخجل في أروقته..
لقد كانت يدي تسابقني لأكتب لك .. تسابق نفسها.. تسابق إتقانها فن الخط .... و حفظها ،عن ظهر قلب، قواعد الإملاء و الصرف..و إجادتها التنميق و احترافها التشدق..
أذكر أنني أضفت حرف الياء إلى كلمة "أحبك" في أول رسالة كتبتها لك..
أذوب وسط خجلي، وأتساءل: أكان يحق لي أن أزل زللا كهذا في حضرتك؟
أم كانت زلاتي تضفي على رسائلي نوعا من العفوية التي تعشقين..
لقد سبق أن أخبرتني أن أكثر ما يفرحك في رسائلي الصغيرة ذوات الكليمة أو الكليمتين،بساطتها و ثراؤها بأخطاء اللغة، التي تحمل الكثير من الصدق... في اعتقادك أن اللغة كذابة .. كل اللذين يحترفون اللغة ،في نظرك،كذابون حتى تزل كلماتهم..حتى تتواضع حروفهم..حتى تنبس شفاههم بكليمة أو كليمتين فقط.. حتى تحمل ألسنهم ما حملت رسائلي من الأخطاء..
أذكر أنني حاولت ذات مرة السخرية من رسائلي فغضبت و نهيتني أن أسخر من رسائل أحطتها بهالة قداسة و نهلت منها لسعادتك..
لم تكن رسائلي سوى خطوطا متموجة تحمل قدرا من البشاعة التي لم تشفع لها زركشات الألوان و القلوب و الرسمات التي أضفتها إليها، و لا صور الأزهار التي ألصقتها بها.. غرقى في الأخطاء و الزلات.. و كنت تلفين فيها جمالا و طهرا كثيرا...
من سواك سيقرأ رسائلي و يثني عليها؟ من غير عينيك تبصر زللي طهرا.. و اعوجاج خطي حسنا.. و "الياء" المبتدعة صدقا..
أذكر يا امي.. أنهم طلبوا مني في اختبار للتعبير الكتابي أن أكتب رسالة لأمي.. كانت نتيجة الاختبار سيئة.. لم يغضوا الطرف عن أصغر خطإ ارتكبته.. شطبوا على الياء اللاحقة ب "أحبك" بقلم أحمر.. و كان ذلك آخر عهدي بالخطأ.. تلقيت التوبيخ الشديد من معلمتي .. مزقت ورقتي على مرأى من زملائي.. كانت بي رغبة شديدة أن أخبرهم بأنني أكتب لك الرسائل فتخبئينها.. تبكين فرحا لها.. تضمينها.. تشتمينها و إن كانت بلا عطر.. تقرئينها مثنى و ثلاث دون أن تنبئيني أن بها أخطاء.. لأثبت لهم أني أجيد كتابة الرسائل لك فأخفف عني بذلك وطأة ازدرائهم .. الدهشة أخرستني..
كبرت يا أمي و ما عدت أكتب لك.. حروفي اليوم يعوزها صدق الرسائل القديمة ... أخشى إن كتبت أن تنال رسائلي حظا من حملات التمزيق التي تشنها يداك على محتويات الكيس.. في يوم ما.. في كئابة ما.. في نوبة من نوبات السخط علي..
كبرت و ما عادت يدي تزل إلا سهوا أو عمدا .. غدوت الآن في زمرة الكذابين!!
كبرت و أصبحت أجسر على السخرية من أقدس ما تملكين
هل لي أن اعتذر؟
انا آسفة جدا..
آسفة لأني سخرت من الرسائل المقدسة
آسفة لأني ما عدت أكتب لك ..
آسفة لأني لم أعد أخطأ.. لأنني تعلمت أن أكتب "أحبك" بدون ياء..
و آسفة -أخرى- نيابة عن اختبارات التعبير الكتابي و المعلمة و القلم الأحمر الذين أفقدوا رسائلي الصدق و الحب و الطهر و الجمال و.... و أفقروا ترسانتك المعدة تحسبا لاعتداءات الكئابات و الاحزان..