لا أنكر أن اليوم لم يكن يسترعي مني اهتماما من قبل، و أنه كان يمر علي و أمر عليه مرور الكرام، ليس جهلا مني بالمناسبة، بل ربما لم يكن زخم المواد العلمية و اللغات الأجنبية يسمح بأن تتسلل تلك "الدخيلة" و تتخذ لها مقعدا بينهم، و ليس اهتمامي بها اليوم إلا لأنها صادفت عطلة نهاية الأسبوع، فتمكنت من أن أفرغ لها مساحة أخالها ،مع ذلك، لا تتسع لحجمها، أو ربما تغير في إحساسي و نظرتي شيء ما اتجاهها، أتجاه لغتي، دعوني أقول اتجاه ذاتي.
أستبعد الاحتمال الأول، انشغالي بالعلوم ليس السبب، فقد اخترت أن يكون تخصصي الدراسي هو الرياضيات وأنا معاهدة نفسي بأن لا أقصي العربية من دائرة اهتماماتي و أولوياتي، و لا أزال رغم توجهي العلمي مواظبة على قراءة الأعمال الأدبية، و كل ما خط بحروف عربية، ثم إن اللغات الأجنبية لا تحظى لدى بقسط كبير من الاهتمام، حتى إن أمي تعيب علي ولعي بالكتب و الأدب العربي و إهمالي للفرنسية و الإنجليزية، تقول ان المفتقر لهما مفتقر لكل شيء.
سأرجح إذن الاحتمال الآخر، لأول مرة من بين المرات التي كان يمر يوم 18 ديسيمبر فيها و أنا غاضة بصري عن العروس التي زفت في هذا التاريخ و قد انتزعت لها عرشا من عروش اللغات المعتمدة لدى الأمم المتحدة بعد اقتراح تقدم به كل من المغرب و السعودية، لأول مرة يخالجني شعور ينطق بعبارتين: أنا العربية... و ليس لأن لساني يعزف نوتات الضاد و القاف و العين و الحاء و الخاء... بإتقان. لقد اكتشفت مؤخرا أن بيني و بين اللغة العربية تقاطعا يتيح لنا الاشتراك في قواسم كثيرة، بل إنها تكاد تكون مطابقة لشخصيتي تمام المطابقة، لولا أنها من جنس اللغات و أنا من جنس البشر.
في أي شيء تشبهني العربية؟
أنا الأنثى المتغنية بأنوثتي و هي كذلك، عربية هي، يزدحم في روحها الفخر بذلك، و أنا الأخرى يقال لي عربية. .
أحب لشخصيتي أن تتعرى من كل حجاب قد يسبغ عليها غموضا في جانب من جوانبها، أحبها أن تكون مفهومة جلية مفصحة عما فيها كفصاحة و وضوح العربية. . أحب أن أكون غنية المحتوى أنيقة المظهر تماما كالعربية. . أحب أن أسرق اهتمام الغير.. أكره النمطية و التقليد، أعشق التفرد و التميز. . أميل إلى العريق و أنفر من المستحدث، وأبحث لي عن أصل تضرب جذوره في أعماق التاريخ. . مقاومة ،أنا، ما قد يؤثر في طبيعتي، يمحو شخصيتي، و يبعثر هويتي كما يبعثر قطع "البازل" .. مقاومة ،أنا، للإساءة و الإهمال و الإخضاع. . عنيدة بشهادة من يعرفني، لا أقل في عنادي و مقاومتي شأنا عن العربية في مقاومتها للكلمات الأجنبية التي تخترقها و عنادها أمام "الكلمة المخترقة" و إصرارها على أن تتصرف وفق هواها و تذعن لإرادتها، فما تلبث أن تخضع للتعريب و لميزانها الصرفي. .. و أشياء أخرى تقاسمناها سويا إن ذكرتها كلها طال المقال و لم نجد له نهاية.
إن علاقتي باللغة العربية تجاوزت علاقة ناطق و منطوق به. . إن علاقتي بها تجعلني أحيانا لغة، و تجسدها بشرا أحيانا أخرى. .
علاقتي بها ولدت لدي إيمانا راسخا بقوتها و قدرتها على السطوع من جديد و استعادة عرشها في سماء اللغات. وإيماني هذا لا يعني بالضرورة أنني من كبار متقني اللغة، فإيماني بالعربية محله القلب لا اللسان.
إذ أنه على الرغم من أن العربية على لساني أحسن حالا مما أراها عليه من أحوال و هي تتلوى على ألسنة بعض أقراني ممن فضلوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، و ليس أدنى للمرء من أن ن يتنكر للسانه و أصله ، على الرغم من ذلك لست أرتقي إلى درجاتها العليا ، فلا تزال المعلقات السبع تعجزني، و لا تزال مؤلفات الجاحظ و أبيات المتنبي تحرجني... و لا يزال أسلوب طه حسين و المنفلوطي يدهشني للغاية..
أنا أتوسط درجات إتقان العربية و لكنني أعتلي درجات الإيمان بها.. أنا مؤمنة قوية سينطلق إيمانها من القلب ليشع على لسانها و قلمها، و يسطع نور حلمها في أن تكون أديبة عربية بين أنوار الواقع ، بعدما أنار عتمات خيالها...
و إنني لمدينة ل "سبيستون" ، أشعر أنني لولاها لما اندلعت في شرارة حب، لا سطع نور إيمان أو حلم...و اليوم تحاول أمي أن توجه اهتمام أخي الصغير نحو أفلام الرسوم المتحركة الناطقة شخصياتها بالفرنسية، بعدما أدركت تأثير هذه الأفلام على لغة الطفل و شخصيته و ميولاته و تطلعاته، عله بذلك يضمن حظا أوفر في حياته الدراسية و من ثم المهنية...
كما أدين لمعلمتي التي تلقيت قواعد النحو و الإعراب على يديها في المرحلة الابتدائية، لا تستطيع ذاكرتي الفصل بينها و بين صوتها الدقيق الحاد و وجهها المحتقن، و عبارتها المأثورة و هي توصينا : "اقرؤوا!!" ..و عصاها التي تهوي على كفي الصغيرة، إن أنا زللت في إعراب مفردة أو نسيت قاعدة من القواعد اللغوية..لا أظنها تكون راضية عني إن قابلتها اليوم ، فقد أضعت الكثير من قواعد الإعراب التي لقنتنيها... و لكنها على الأقل سترضى إن أخبرتها إنني لم أفارق الأدب و اللغة العربية رغم سلوكي مسلك العلوم.
فلتعش اللغة العربية في قلوب و على ألسن و أقلام أبنائها مجيدة ممجدة.. و لتغفر لي زلاتي و أخطائي التي اقترفتها في حقها، مذ نطقت بأول حرف من حروفها إلى آخر حرف من مقالي هذا.