تراسل المدركات ...وشفافية اللغة
في مجموعة "" أحزان لا تجد من يكتبها "" القصصية
للقاص / جمال فتحي
بقلم / حسن غريب أحمد
كاتب وناقد
==========================================
يعرض لنا القاص " جمال فتحي" في مجموعته القصصية " أحزان لا تجد من يكتبها" "... وقصص أخرى ، قضايا إنسانية قديمة ومعاصرة، يغوص بنا في مكنونات النفس البشرية حتى العمق، فهو يفلسف الحدث ويتدخل في تفاصيله. ومن الملاحظ في بعض قصص المجموعة الستة عشر أن الراوي هو الكاتب المتحدث تارة بضمير الغائب وتارة أخري بضمير المتكلم .
:"وجدته مكوما علي الرصيف وقد دفن رأسه بين رجليه ، كلما مر عليه أحد يستجديه قائلا :
" ضاعت مني نقودي ، إذا لم آت لأبي بالخبز سيضربني " تنهمر دموعه .. الجميع يقولون :" ده شغل شحاته " .
أقبلت عليه .. أطلقت تنهيدة اجتزت معها ذكرى ماض أليم ......" ينصرف الجميع ، وهو مازال يكرر حكايته .
من قصة (أحزان امرأة) ص 11
تبدو لنا المجموعة أحيانا وكأنها مذكرات أو خواطر ذاتية لكننا لو تعمقنا قليلاً فسنجد أن هذه الخواطر أو المذكرات تأخذ منحًى غريباً ولغة فائقة، ففي قصته الأولى "ثلاثة جنيهات تكفي " يسرد الموقف وينهيه، ثم ينتقل بنا إلى موقف أو رأي بقضية أخرى مختلفة تماماً عن سابقتها، فبعد انتهائه من سرد قصة سيد ورؤيته لمنظر القتيل أمامه وهو يجلب الماء له من الكولدير بسبب معرفة الضابط له تركه يمضي لملء الكوب ماء ثم يعرج بنا إلى التفاؤل ومن ثم الزمان والمكان ومن ثم النقد السلبي من واقع الحياة اليومية، وحسب عنوان القصة فهي" ثلاثة جنيهات " والجنيهات هي لشراء متطلبات الحياة والقصة مليئة بالأخبار المتناقضة أي لا يوجد علاقة بين موقف وآخر، فمقتل الرجل لا علاقة له بسيد و لا علاقة له بالتاريخ والزمن ، والنقد لا علاقة له بالانتظار وهكذا على بقية المواقف.
إلا أن اللافت للنظر طريقة المؤلف بفلسفة الموقف أو الحدث، وهو وإن كان رأياً ذاتياً إلا أنه مثير ويدفع بك إلى لذة الكشف، فتعيد القراءة مرة ومرة حتى تخرج بنتيجة منطقية. الملامح الفلسفية في هذه المجموعة مثَّلت إبداع كاتبنا "جمال فتحي" ، فكانت المجموعة مجزأة إلى وحدات منفصلة، وتساؤلات دنيوية تنتظر إجابة لن تأتي أبداً.
وقد شكلت القضايا والتساؤلات والتنقل المفاجئ بين الأحداث عنصراً أساسياً عند المؤلف، وبعثت فيها الحركة والنشاط، كما برع الكاتب في تحريك شخوصه ببراعة ومرونة فائقة، في قصة عنوانها "البداية كانت رؤيا ص17" يعتمد الكاتب على تقنية الحوار، إلا أنه نسي نفسه فأسهب كثيراً، وتداخلت الأحداث فكانت الإطالة مضطربة ومشتتة أحياناً، والتنقل بين قضايا وآراء فرعية كان بالإمكان الاستغناء عنها:
توقفت الأمطار ..خرج ومن حوله الخفافيش ، وقد تحولت إلي طيور ذات ألوان بديعة .... رأي في السماء قوس قزح من تحته القمر ، ومن فوقه الشمس وعند بدايته زهور لم ير مثلها من قبل ......ص 17
ومهما يكن من أمر فالإطالة لم تؤثر على شفافية اللغة وحسن انتقاء الألفاظ، فللكاتب في حواره مع النص بشكل عام له وجهة نظر فلسفية مرتبطة برؤيا شاملة في الكون والحياة، فلديه موقف يحدده طريقة تصوره لهذا الكون وارتباطاته وطريقة تفاعله مع الأحداث.
في قصة "بائع أكياس الأحلام ص 35 "" يتحدث المؤلف عن عائلة تواجه اصابة الزوجة بارتفاع في درجة الحرارة وصفها الطبيب بالحمى ، فيصف لنا بدقة حياة الأم والأب ، والقضايا التي تؤرقهما لكنه لم يكن غارقا بالتفاصيل كسابقتها، وكانت أقل فلسفة وأكثر منطقية، وما يميز قصته هنا أنها حيادية نوعاً ما وتدافع عن قضية الرجل ومأساته عند مرض زوجته ، بكل جرأة وبكل صدق:
"أمسك الحقيبة المنزلية وذهب إلي السوق ..أشفق علي زوجته التي تحمل عنه كل هذه المتاعب ، هو فقط يعطيها النقود وهي تدبر كل شئ تعد الطعام وتكنس وتغسل ... ولكن ما العمل – هي مريضة ولابد من أن أقوم بمهامها ....(ص 35).
كان على المؤلف التخفيف من حدة لغته فالقصص موجهة في النهاية للقارئ العادي وعامة الناس وليس لعلماء النفس والفلاسفة ولا حتى النقاد وهذا ينطبق على بقية قصص المجموعة المتبقية، فاستمرارية استعمال اللغة الشاعرية على هذا النحو أعطاها صفة الغرائبية والألغاز، مما يصعب من مهمة استيعاب القارئ.
وقبل أن نخرج في دهاليز هذه المجموعة القصصية، كان لزاماً علينا مصافحة العنوان قبل مصافحة المبوَّب، حتى نستطيع القبض على دلالاته الفلسفية المعقدة لإعادة إنتاجه مجدَّدا. هذا العنوان الجديد والذي لم نعتد عليه في المجموعات القصصية المختلفة والتي يكون فيها العنوان لإحدى قصص المجموعة المسهبة ، ويبدو أنَّ الكاتب جمال فتحي بوضعه عنوان "أحزان لا تجد من يكتبها " وتعتبر أصغر قصة لأكبر عنوان لها فهو يريد بذلك (القصص).. ألا يعطي أهمية لقصة واحدة ويضعها عنواناَ لمجموعته، فكل قصصه تصلح عنواناً لهذه المجموعة، وفي النهاية يستطيع القارئ أن يضع ما يشاء عنواناً للمجموعة.
ولا شك أن القارئ يلمس متغيرات على مستوى اللغة والوظيفة والرؤية والأداة، وهو تغير يمثل درجة من التطور الفني التقني في عالم القصة القصيرة. مجموعة جمال فتحي تستحق القراءة، وإعادة القراءة مرات ومرات، وتستحق أن نستكشف كنوزها ومغزاها.
إلا أنني سأقف اليوم عند قصة أثارت شجون الحرف لديّ ، فعل تقنيات فنية جعل من المتلقي مطاوعا لحرفه وحركة أحداثه؛ تلك القصة المسماة (أحزان لا تجد من يكتبها ) وهي التي تحمل عنوان المجموعة القصصية ذاتها .
ولعلّ الذي لامس شغف المتلقي بدايةً، تلك التي تسمّى "تراسل المدركات" حيث يقوم العمل الأدبي على تراكم كبير للصور بحيث يطغى على الوجود الفني بصورة يصبح عنان النص في يده، وبهذا يطرأ اضطراب على حالة الزمن يدفع بواسطته إلى تبني تيار الوعي ليتم التفريغ الوقتي فيه. وبهذا تتضح الرؤى وتنجلي أحاسيس الأديب لدى المتلقي الواعي.
ففي القصة موقف اجتماعي مبني على واقع مكرر في القصة العربية، واقع يرمي إلى محاولات لسد الهوة بين الحلم والحدث الآني، إلا أن تلك المحاولات باتت مكررة أيضا؛ لما يوجد فيها من ضمور في المعالجة، وتفتيت في نسج الرؤى على الأغلب؛ ولذلك كانت تجربة جمال فتحي متقدمة هنا، ليس بدافع الخيال والحس فقط، إنما بدافع المغامرة في رصد التشابهات في العمل القصصيّ واستبداله بتقنية مبنية على الاسترجاع لتتطوّر فتدخل في عالم تيار الوعي، ثم لازم هذه التقنية نسج فعلي اتكأ على الفعل المضارع اتكاء كاد أن يغالب في عدده وأثره كل ما تبعه من أسماء وحروف؛ وتلك ميزة ربطت العمل القصصي الظاهري بألفاظه وعباراته بجوانية العمل وقصدية تقديمه.
ولا أجد نفسي مغالياً هنا عندما أتحدث عن كاتب استطاع أن يرسم لنا ما يجري كالنهر في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس للمرأة التي تحتاج لعلاقة حلال مع زوجها ففي حديثه الأوليّ وجدنا أن العلاقة كانت تجري بصورة رتيبة جداً، حتى وصل بنا الحال لساعة المعركة لكنه فشل مع زوجته ، عندها انكسر الزمن وأصبح مضطرباً خاصة عندما رآها توشوش جارتها ..مؤكد هي تتحدث عنه، فاضطراب الزمن بين الآني الذي أحدث المفاجأة، وبين زمن ماض جمع فيها الزوجة بالزوج على مقاعد الزمن الكئيب .
ولم يستطع القاص أن يتابع هذا الحدث طويلا، حتى سقطت هي الأخرى في اضطرابه، فما هي إلا دقائق معدودة حتى تدخل خالها المحامي العقر رفع لها دعوة شقاق بحجة خوفها علي نفسها ،وليتخلص الكاتب من لحظة التأزيم، وينتقل إلى تيار الوعي الذي لم أجد فيه شيئاً من تكلّفٍ في العمل الأدبي، إنما جاء فاعلاً ومحرّكاً لدرجة التأزيم (الحبكة) بصورة تدفع المتلقي للقراءة النهمة بغية الوصول إلى ذروة الحدث، فجاء في لحظته الزمنية المطلوبة على مستوى القصّ؛ وكأني به لم يتقدم أو يتأخّر على مستوى زمن القصة وحدثها.
ومن هنا فقد بادرنا القاصّ بتشكيل حاذق لنهاية القصة "سيارة الإسعاف تخترق الشارع ..يوقظه زعيقها من هذيانه ، يتبعها تتوقف أمام منزل حامد وينزل نعش تصرخ النسوة ويولولن... الرجال في حالة صمت ، يرتمي علي الصندوق ويقهقه في هستيرية ... يمر من أمامه الحمار وينهق "(ص13)
فقد أزاح الواقع عن مشهد اللقاء؛ وفي هذا إشارة خفية أنه لقاء سينتهي بالجدب والخراب، ثم توالت الصور التي تندمج في حركة تيار الوعي، " فأمانيه تسربت منه بعد فشله في مع علاقته بزوجته ثم فضيحته والذي تحول الي جنون ،وهي صور تنتهي بالسلب المحقق المدروس من قبل الكاتب ،صور متفرد تتقابل مع سرد واقعيّ، وإن اعتمد فيه القاص على تيار الوعي، سرد مكرر لا جدة فيه:
""أنت مرهق من العمل ..استرح وغدا سوف يكون اللقاء ، ترسبت الكلمات في أعماقه ، قضت مضجعه ، يذهب الي عمله ويعود منكسر الخاطر"(ص11).
غير أن القاص كان بوعي كتابي كبير عندما قابل الصور المتخيلة المتفردة بتلك العبارات المكررة على صفحات القصص المنشورة أو حتى بالأحرى مبثوثة على ألسنة السرّاد في المجتمعات البسيطة.
وقد خالط هذا الاسترجاع الموجع صور فنية أصيلة وجارحة في آن، طوّرت من المفهوم العام للدلالة، وبنت على قناطرها تماسكاً قصصياً فريداً بدت أنها من عجينة النص وليست طارئة عليه بأي صورة من الصور؛ فما قولنا نحن المتلقين في قوله:
"يعود معه حمار الشيخ سعيد ، في الحظيرة ، تضع له زوجة الشيخ العلف والبرسيم ، ينام بلا أنيس ، ينهق كالعادة ..ولا أحد يسمع صوت أنينه ، ينظر الي زوجته بغيظ وهي توشوش جارتها ..مؤكدة هي تتحدث عنه ، الاكل كما يوضع علي الطبلية يرفع ..حتى طعم الماء مرا، امتلأ البيت بأعقاب السجائر ،صوته الذي كان بالأمس يهز جدران البيت يخفت كما حل الليل"(ص11 ) ".
ولم تكن حركة الفعل المضارع مخفية عن عين المتلقي، فقد بلغت حداً لافتاً، بدءاً من لحظات القصة الأولى، إلا أن التكثيف بلغ أوجه في استدعاء مشهد التردد في العلاقة حتى الوصول إلى مرحلة الحسم؛ عندما قرّرخال المرأة في طلاقها منه .
ومن الملاحظ أن ما وضِعَ تحته خط هي أفعال مضارعة كادت أن تسيطر على حركة الفعل كلياً لولا وجود الفعل الماضي (كانت _يكون )؛ ويدلل هذا على ديمومة هذا الفعل العربي في سلوك طريق الفشل الذي ذهب في دربه أعداد كبيرة من الضحايا من شرب المخدرات ، وكأني بالقاص يقول كانت هذه الحوادث مكررة فما زالت موجودةً. ويتوقع أن يستمر فعلها إن لم يكن هناك إصلاح اجتماعي يميز بين قداسة الوالدين من جهة والقلوب المتفطرة المنكسرة من جهة أخرى.
وعندما نوغل في تتبع الحدث من خلال سرده للحدث الفائت نواجه تأكيداً غريباً على استخدام الفعل المضارع، وللقارئ أن يتخيل ذلك بالنظر للأفعال التي في النصين الآتيين:
"وتهادت الزوجة بالملابس الشفافة والعطور الزكية ، يحس بالهلع والفزع ، يعرف جيدا أنه سوف يكون الخاسر ، رويدا ..رويدا يزحف الي حافة السريرخوفا من المواجهة ، تتلقف الأرض الباردة جسده ، تنظر اليه من فوق السرير..تمصمص شفتيها ، تعرف أن كلماتها لن تجدي ..تنام مقهورة ، يخرج إلي الشارع الخالي إلا من "سيد العبيط" الذي يرتدي قميصا خفيفا على جسده في عزشتاء قارص ، يلمس جسد "سيد" يشعر بالحرارة والسخونة وهو الجالس في العراء..يبدو أنه أصبح مبروكا ..تذكر قصته ، سيد المدرس الذي كلما عبر شارعا به تلاميذ يرتعدون خوفا ورعبا منه ويلوذون بالفرار". (ص12 ). ".
وعلى هذا ففي مجموعة (أحزان لا تجد من يكتبها) ، للقاص البارع جمال فتحي ، مساحات كبيرة من النجاحات التي لا نستطيع أن نلجها بسبب
. فالأمر الآن متروك لمن يعاود النظرة، أو يستجلى الفكرة من جديد.
= = = = =
من مراجع التّنظير النّقديّ:
=1= إبراهيم الخطيب (ترجمة)، نظرية المنهج الشكلي "نصوص الشكلانيين الروس". الشركة العربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية لبنان 1982. رشاد رشدي، "فن القصة القصيرة". دراسة تحليلية لفن كتابة القصة"، مكتبة الأنجلو المصرية ط 1، د.ت.
=2= صبري حافظ، خصائص الأقصوصة البنائية وجمالياتها، فصول ع 4، م 2، 1982 .
=3= على شلش، عالم القصة، مطبوعات الشعب، القاهرة، 1978م.
=4= فاروق خورشيد، "فن الرواية العربية، عصر التجميع"، دار العودة، بيروت 1979، ط 3.