قصة قصيرة (زانة)
بقلم : حسن غريب أحمد
_______________________
والدها يعمل في بلد آخر ليدخر شيئاً ،لبقاء هذه الأرض ، دفاتر تجار الحي الخاصة بالديون امتلأت باسم أسرتها ،وهي تقوم بكل شئ ، تنظف البيت ، تعمل في المزرعة ، تتعلم في المدرسة ، وتحب وتنتظر بملء شوقها لحظة سيتحطم السد الزمني الذي يفصلها ، عن بزوغ فجر السنة القادمة ، التي ستأخذها إلى المدينة ، فتكمل تعليمها ،وتراه كل يوم ، حملت الفأس ، غرسته في التراب ، ثمة شئ يحول بينها وبين قدرتها على تجميع قواها ، لكنها كانت تحس بالأمان ، وهي تمزح بينهما ، فحبيبها هو اللقمة التي ينتظرها أخواتها الصغار .
هكذا الحياة يا (زانة) ولا بد في النهاية أن نصل إلى ما نريد ، هو قال لها ذلك ، فاقتنعت بتلك الفكرة ، ثم طردت اليأس ، لم تدر لِمَ سيطر عليها شئ نحو المدينة التي حلمت طويلاً أن تسكنها ؟
تذكرت كلامه حين تحدثا بهذا الأمر ، في المدينة يا(زانة) ، يكاد الإنسان لا يعرف نفسه .
إن حينا أأمن وبفارق كبير ، لم توافقه وقتها رأيه ، ولكن الآن عندما نظرت إلى كفها ،ورأت بعض قطرات الدم ، تتسلل عبر شقوقه ، أدركت تماماً معناه ، إبتسمت عيناها ، قاسمتها إياه حبات العرق التي ولدت في جبينها ،وكبر حبها لأرضها ،وله في تلك الساعات الجميلة ، فصار الفأس يسري في أحشاء أرضها ، برتابة لم تعدها من قبل .
الطقس بدأ يحزن ،وكاد وجه السماء كتلة كبيرة من السحاب ، غطت القسم التي تعمل به ،أحست بالخوف ..كاد خوفها أن يتحول لبكاء ، لولا أن سمعت صوت أمها :" هيا يا (زانة) أحضرت لكِ الغداء" ، وعلى بساط من عشب بدأت الصفرة تشق عباب خضرته ، تتناول غداءها ، فتاة تعمل في المزرعة .
نظرت (زانة) إلى أمها ، خيل إليها أنها تلج داخل عينيها ،اللتين سرحتا تقلبان المزرعة لتلقى شجرة لم يشب خضارها ، لم تعرف ماهي تلك الشجرة ، لكنها أنشدت بكل ما تحمل من فضول إليها ، فتدلت منها ثمرة غريبة وكبيرة ،لكنها مثيرة ، مدت يديها ، أرادت أن تقطفها ،فتسلل من خلفها سنجاب صغير يضحك ،أحست بالأمان لرؤيته ، ابتسمت له ،قفز السنجاب إلى كتفها ،شعرت بغباره ، الذي لامس خدها بضحكها، قفز إلى الأرض ، نظر إليها ، وسار يثب متسلقاً الشجرة ، أيقنت أنه يريدها أن تتبعه ففعلت .
اختفت تلك الثمرة ،ولاح مكانها قصر كبير ، وقف السنجاب أمام بابه ، ونظر إليها وابتسم ، ثم دخل ، دخلت وراءه فرأت سنجاباً آخر يحمل في يده قلباً أخضراً، ويعلقه على الجدار الذي كاد أن يكون بياضه سحراً .
صوب السنجاب بيده ، لقد بدأت تعي ما يريد ، أنه يطلب منها أن تمشي لوحدها ،وكأنه أنتهت مهمته .
أطلقت رجليها بنشوة ، فتح باب آخر ، رأت من خلفه ظلاً يشبه ظله ، يحمل في يده قطرات الدم التي تسللت من كفيها قبل قليل ، ويناولها لأبيها المسافر ، ويده الثانية تحضن أخويها الصغيرين .
قالت بفرح انتظارها :" إنه هو ، أرادت أن تركض إليه تحضنه وتقبله ، وتقول له :" أني أحبك " ،لكن أمها أغمضت عينيها ،فتدحرجت على خدها دمعة أحستها كالزجاج ، هزت رأسها بحسرة ، تمنت لبرهة لو أن لأمها عينين كالبومة.
تناولت رغيفاً ،قسمته قسمين ،وقالت :"يبدو أن المطر يقترب يا أمي ، سنذهب إلى البيت ".
حسن غريب أحمد