شكل الغزو البريطاني منعطفا خطيرا في تاريخ العراق وشعبه ؛ وذلك من خلال تطبيق سياسة ( فرق تسد ) التي ساهمت في اشعال نيران الفتنة الطائفية والقومية والعنصريات العرقية والمناطقية والنعرات القبلية والعشائرية ؛ فقد قام عبيد وصناع ومرتزقة الانكليز باداء الادوار المنكوسة على اكمل وجه ؛ اذ قاموا بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وطحن المطحون , ولازال العراق يعاني من ويلات تلك السياسة الخبيثة الى هذه اللحظة ... , و من تداعيات الاحتلال البريطاني الخبيث ؛ قرصنة الفئة الهجينة والاقلية السنية الكريمة للأنظمة السياسية الحاكمة المتتابعة في العراق , والتي تسلطت على رقاب الناس بالنار والحديد والارهاب والدعم الاستعماري , ومن غير شرعية انتخابية حقيقية , او دستورية برلمانية صادقة , او عدالة قانونية شاملة , وامتد شرار نيران تلك الانظمة الطائفية والعنصرية الحاقدة الى كافة مرافق الحياة العامة , ولف كابوسها العراق ككل ..., واستحوذت الفئة الهجينة والطغمة الحاكمة العميلة على ثروات البلاد وخيرات العراق وعاثت فسادا في الارض ؛ وكان السبب الرئيس وراء ذلك هو ثلاث مواقف مبدئية رئيسية خطيرة قام بها شيعة العراق حيال الغزو البريطاني وقتذاك .
وفي هذه المقالة والمقالات التي تليها – وهي اخر المقالات التي تخص الحلقة الخامسة (عائلة السويدي ) - ؛ سنسلط الاضواء على حياة وسيرة السياسي توفيق السويدي , والذي يعد من رجالات العهد العثماني , ومن الذين بدلوا جلودهم فيما بعد واعلنوا التعاون مع المحتل الانكليزي واداروا ظهورهم لولي نعمتهم التركي العثماني , واما علاقته بالأسرة الهاشمية فقد كانت منقطعة النظير , اذ يعد من الخدم الاوفياء للتاج الهاشمي والمرتبط بالتاج البريطاني , وقد مر عليكم في الحلقات السابقة , ان (توفيق السويدي) وقف مع الحكومة الملكية الهاشمية ضد اخيه السياسي ناجي السويدي , ولم يعترض على نفيه وسجنه و وفاته في المنفى ... ؛ فقد كان تابعا مطيعا وخادما ذليلا .
وتعد هذه الشخصية من ضمن الشخصيات الطائفية والعنصرية الفاعلة والتي اسست للجور والاقصاء والتهميش والطائفية والعنصرية والمناطقية في العراق ؛ فقد تسنم مناصب حكومية رفيعة وعسكرية في العراق ابان العهد العثماني والبريطاني ؛ لقاء خدماته الجليلة للمحتل الغازي التركي والانكليزي , وتواطئه مع باقي العملاء الطائفيين والعنصريين في تأسيس نظام سياسي منكوس لا يستند على اية اسس شرعية او وطنية عادلة .
لقد سعت السلطات البريطانية منذ البداية إلى إقناع الفئة الهجينة ورجال الطائفة السنّية الكريمة ، بأن الحكم والمناصب المتقدمة في الدولة بمرافقها المدنية والعسكرية، هي حق لهم وحدهم، وأن أية مشاركة للشيعة ستكون على حساب السنّة وبقايا العثمنة ومن لف لفهم من الغرباء والدخلاء ، وبذلك نجحت السلطات في العهدين الملكي والجمهوري في إضعاف التماسك الوطني أولا، وإضعاف دور الأكثرية الشيعية ثانياً؛ وعملت على محاصرة وطنية الشيعة بتهمة الطائفية رغم أنهم ضحايا الطائفية... ؛ في حين أضفت على الطائفية السنية السياسية لباس الوطنية...!
وكانت تجربة تشكيل الحكومة العراقية عام 1920 م بمثابة الصدمة الكبرى لشيعة العراق، والفاصل التاريخي في حياتهم السياسية، فقد تم تصميم نظام الحكم وفق منهج طائفي متعمد، استبعد الأكثرية الشيعية ورجالاتها من مواقع الدولة المتقدمة، وامتد هذا المنهج ليكون الفقرة الثابتة غير المدونة في الدستور العراقي، لكنها مقروءة ومستوعبة عند كل ساسة العراق الملكيين والجمهوريين على حد سواء... ؛ ولعل رفض الهجين احمد حسن بكر التكريتي لاقتراح احد البعثية بتنصيب رئيس وزراء شيعي ؛ اذ قال : ان هذا الاجراء خلاف المتعارف والمعتاد وخارج دائرة المألوف والمنهج السياسي المتبع ؛ يعكس هذه العقلية السائدة بين شراذم الفئة الهجينة والطائفة السنية الكريمة .
إن تطرف السلطات في هذه العقيدة الطائفية الخطيرة والرؤية السياسية المنكوسة وإصرارها على اضطهاد الشيعة واقصائهم عن الحكم وعن مواقع الدولة والوظائف المهمة فيها، ساهم ولا سيما في العصر الحديث في تحول الشيعة إلى كيان اجتماعي شبه معزول , و له خصوصياته في الساحة العراقية، أي أن الحالة الشيعية كانت نتاج الاضطهاد السلطوي أكثر من نتاج العامل المذهبي، وهذه الحالة الاجتماعية هي التي أصبحت تمثل التحديد الواقعي للشيعة العراقيين بصرف النظر عن المسألة العقيدية والالتزام الديني والتوجه السياسي.
إن سياسة الاضطهاد التي مورست بحق الشيعة، جعلت كل شيعي يشعر بأنه مستهدف نتيجة انتمائه للتشيع، وليس لسبب آخر ؛ ومما يروى في هذا الجانب ان احد الاشخاص من الاغلبية العراقية الاصيلة جيء به معتقلا الى مديرية امن صدام سيئة الصيت فصاح المعتقل البريء الذي لا يعلم لماذا جيء به او ما هي تهمته : (( والله اني رجل فقير بحالي من البيت للشغل ومن الشغل للبيت )) ؛ فرد عليه احد الحرس المجرمين البعثيين الصداميين : ولك انت شيعي لو سني فقال له انا شيعي , فقال الحرس :( اسكت لك هذه تهمتك) ...!! ؛ بينما كان ابناء الطائفة السنية يسرحون ويمرحون ولا يعترض طريقهم احد ؛ وفي احدى المرات : احدهم - وكان شيعيا - مازح صديق له من الطائفة السنية ؛ قائلا : انه اذا سجن في الامن سيبلغ عنه كي يأتي معه للسجن ليخفف عنه ؛ فأجابه صديقه السني وهو يضحك : (انا سني اطلع مو بس من السجن حتى من الاعدام ) ...!! .
اذ كان المواطن العراقي الاصيل يعامل كمواطن من الدرجة الثانية ، ويبعد عن المواقع المهمة والمسؤوليات الكبيرة عن قصد وعمد، ويقدم عليه غيره حتى وإن كان أقل منه كفاءة واستحقاقا للموقع والوظيفة والمسؤولية... , وقد تم اعتماد هذا المنهج الطائفي في العراق على امتداد الحقب التاريخية، حيث كان الشيعة عرضة لانتقام الحكم واضطهاده بدوافع طائفية صرفة... ؛ وقد مرت الممارسات الطائفية بحالات مد وجزر واستفحلت في العقود الأخيرة.(1)
ولد سليمان توفيق بن يوسف بن نعمان السويدي في بغداد , في جانب الكرخ محلة خضر الياس , عام 1892 ... ؛ وتخرج من مدارس بغداد الابتدائية والاعدادية في بغداد 1908م , ثم ذهب عام 1908 الى اسطنبول لإكمال دراسته , الا انه لا يوجد تفصيل حول دراسته الاعدادية , وتوهم من قال انه : خريج الاعدادية الملكية في بغداد ؛ اذ لا توجد مدرسة تحمل هذا الاسم قبل العام 1908 , وكذلك توهم من قال : انه درس الحقوق في بغداد ؛ لان الاتراك فتحوا مدرسة (كلية) للحقوق في ايلول عام 1908 بعد أن شعرت السلطات بحاجتها إلى حقوقيين واداريين مؤهلين علميا... , وبعد الانقلاب الدستوري 28 تموز 1908م، شهد العراق حركة محدودة النطاق على الصعيدين الرسمي والشعبي لإنشاء المدارس الحديثة . (2)
ودخل كلية الحقوق في استانبول وتخرج منها عام 1912 , واكمل دراسته الاكاديمية في فرنسا , وتخرج من كلية الحقوق الفرنسية عام 1914 .
..........................................
- 1-الطائفية سلطة ام مجتمع ؟ / جهاد هادي ابو صبع / بتصرف .
- 2-المؤسسات التعليمية الحديثة في العراق في العهد العثماني / ايناس سعدي عبدالله .