الكتابة كمهرب وجودي من العدمية، الكتابة كمنقذ في عالم موحش خال من الظلال وليس فيه مكان آمن، الكتابة كملاذ من الخوف والتبعثر والضياع في التفاهة والبحث عن إشباع حاجات الحيوان في حياة قصيرة مشتتة وشديدة الإلحاح على حواسنا المرهقة والمنهكة، نهرب حينها إلى الكتابة باعتبارها توثيق لحاجة أساسية فينا، لحاجة للعودة إلى ماض مسجل ومحفوظ، الحاجة للاحتفاظ والثبات، الحاجة للضمانات والتأمين وضمان الحقوق وتسجيل العقود، الكتابة هي كل ذلك، هي تأريخ لحياتنا في لحظاتها المهمة وكلها من شهادة الميلاد وحتى أجمل قصائد الشعراء وأكثرها عشوائية وتحررا، كلها قسرية يشعر الإنسان أنه مجبور على على فعل الكتابة، وكأن يده مرتعشة بالقلم لاتسكن حتى تفرغ حمولتها من الكلمات في مستقر آمن يحميها من النسيان حين يستيقظ غداً من هذه الحمى والهلوسات والهذيان البالغ، كيف يمكن للمرء أن يحصل على قيمة واعتبار لأفكاره وكلماته إذا لم يكن لوجوده نفسه أي قيمة؟ بل كيف يمكن تحمل ذلك الشعور بالعجز والضآلة أمام ذلك الشعور البالغ الوطأة بالقهر والتجبر من ذوي السلطة والقادرين على تحقيق إرادتهم في عالم شديد التسارع والتلوث الضوضائي؟ ليس هناك إجابة، كيف تكتب وأنت تعرف مدى ضآلة تأثير ماتكتبه؟ كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعلم أنك لا تستطيع حمايتها! كم هو تافه هذا الفضاء الإلكتروني الذي يوهمنا بقدرتنا على صنع الأفكار ونشرها بينما أقصى قدرة لنا هي التسبب في إثارة اهتمام ضابط أمن وطني تافه يظن أنه سيحصل على ترقية ما باعتقال آخر من يسب الرئيس على الإنترنت.
عذرا لكآبة المقدمة، هذا المقال يحاول توضيح الواضحات وشرح تأثير العيش على الحرية وكيف أن السياسات الاقتصادية الليبرالية تؤدي بالفعل إلى أن تخلع النساء المسلمات المصريات الحجاب، لايخفى على أحد أن المجتمع المصري من أكثر المجتمعات المتدينة حول العالم ، من أبرز مظاهر هذا التدين هو النمط السائد للزي الإسلامي للنساء وهو يتمثل في تغطية سائر الجسم والأهم تغطية الشعر بقطعة قماش واعتبار هذا الحجاب فريضة دينية وبالتأكيد هو فريضة اجتماعية، وأحيانا يكون من صالح الحكومة المصرية اعتبار هذا الحجاب علامة على الهيمنة الكاملة على المصريين مثلما حدث في مناسبات متفرقة من القبض على فتيات التيكتوك أو تلك الفتاة التي التقطت بعض الصور أمام الأهرامات وتم القبض عليها ونشر صورتها بملابس منزلية وهي ترتدي الطرحة وبعدها تم الإفراج عنها، بينما أكتب هذه الكلمات التي أحب أن أسميها مقالا حتى أضفي عليها شيئا من الاحترام، أفكر في طريقة لنشر هذا المقال ليقرأه أكثر من مئة شخص، متوتر وخائف بالطبع أن يثير النوع الخاطيء من الاهتمام، فلا أريد أن يتم اعتقالي وعلى النقيض وإن كان بشكل أقل خطورة أخشى أن يتم اعتباري مرتدا عن الإسلام ويصدر حكم بإهدار دمي من بعض المخابيل على الإنترنت أيضاً.
الهوس بملابس النساء ليس محصورا على الجماعات الإسلامية المتطرفة ولكنه ملمح أصيل من ملامح غزو أمريكا لافغانستان أيضاً، فهو على النقيض هوس بجعل نمط الحياة الأمريكي هو السائد بالقوة ، وفي مصر الحبيبة فإن نمط الحياة الهوليودي ينتشر في الشركات المتوسطة والكبيرة التي تجبر النساء فعلا على خلع الحجاب أو من البداية ترفض توظيف المحجبات، وبالتالي فهي ليبرالية من التي تجعل أمك تخلع الحجاب، التماهي التام مع نمط الحياة الغربي يصل لدرجة أن بعض أماكن اللهو والنوادي ترفض دخول المحجبات وهذه المرة بدافع طبقي لأن الحجاب بالطبع هو زي الخادمات والطباخات، لأنك لاترى زوجة الرئيس وهي ترتدي طرحة سوداء أو عباية، لكنها محجبة بالطريقة التي تناسب وضعها الإجتماعي الجديد ، وكذلك زوجة ذلك اللاعب سيء الذكر، الليبرالية التي ترتبط في أذهان الناس بإجبار بناتهم على خلع الحجاب ليست بريئة تماما من التدخل في ثياب الناس وحتى قصات الشعر وبالتأكيد هناك إجماع أن من حق الدولة ممثلة في هيئاتها التعليمية على إجبار الطلاب والطالبات على ارتداء الثياب الموحدة وبالتأكيد لديهم كل الحق في في تغيير قصات شعرهم لإجبارهم على الانصياع التام لقواعد المجتمع وبالتالي يكون أي تعبير عن الاختلاف هو تهديد محتمل بالتمرد على النظام ويجب معاقبته بالمنع والإرهاب الجسدي والمعنوي، بالطبع الأمر يتحرك في كلا الاتجاهين فكما أن ثياب الأولاد والبنات يجب ألا تكون مخالفة لقواعد الزي المدرسي من أجل المحافظة على مظهر طالب العلم فهناك أيضا توجه من الدولة لمنع النقاب.
هناك قانون يرغب النظام الحاكم في مصر أن ينفذه وهو منع النقاب في المدارس والجامعات وهذه المرة ليس السبب الحفاظ على تقاليد المجتمع وقواعد الحشمة والسلوك القويم ، وإنما هذه المرة لإقصاء فئة من المتدينين من التعليم الحكومي أو الجامعي أو التنازل عن أي اختلاف لهم عن الحجاب "الرسمي" المحبوب لدى الدولة، إقصاء هذه الفئة من الملتزمين دينيا سيؤدي لاحقا إلى تقليل فرصهم العملية والأكاديمية وبالتالي تقليل نفوذهم الاجتماعي في المستقبل، مرة أخرى يكون زي النساء شديد التأثير في استراتيجيات الدولة وسياساتها في محاولة زيادة السيطرة وإن كان عن طريق القمع وشد الخناق على الناس "العاديين" فلا يهم ذلك على الإطلاق، الأغلبية من نساء مصر هن محجبات ولكن أنماط وأسباب ارتدائهن الحجاب يجعل من الأمر معضلة يصعب حقا فصل تشابكاتها وتعقيداتها باعتبار أن كلهن محجبات بنفس القدر أو أن كلهن محجبات بنفس الشكل أو أن كلهن يرغبن في ارتداء الحجاب بنفس الحرية، في الطبقات العليا يندر جدا وجود الحجاب، وفي الطبقات الاجتماعية الأقل حظا يكون شكل الحجاب بعيدا للغاية عن الهدف من ارتدائه، في الطبقات المتمدنة في القاهرة والإسكندرية وبنات المدارس والجامعات في مصر كلها يكون شكل الحجاب أقرب ما يمكن للثياب الغربية، بينما يكثر ارتداء النقاب والملابس المحتشمة والتقليدية في الأرياف والقطاعات المهمشة اقتصاديا في المدن، درجة التدين هي عامل مهم في التحليل الثقافي والسياقي لشكل الملابس التي يرتديها الناس عموما وبالنسبة للحجاب خصوصا يكون التدين مرتبط مباشرة بارتدائه وكذلك يكون مصدر المعلومات الدينية هو المحدد لشكل ذلك الحجاب، الميول المذهبية للعائلة مؤثرة للغاية في إذا كانت نساء هذه العائلة ترتدي الحجاب الصوفي أو الأزهري الأقرب للحجاب العادي الخاص بعامة الشعب، أو أنها عائلة سلفية يميل حجاب نسائها للنقاب وهناك حجاب قومجي دولجي يشبه حجاب زوجة الرئيس، وهناك بالطبع حجاب ليبرالي في النسخة من الليبرالية التي لا تجبر أمك على خلع الحجاب.