ان الجماعة  او الامة التي تعيش صراعات فكرية وثقافية واجتماعية ودينية حادة ومتواصلة , وتحمل افكار ورؤى متناقضة ...  ؛ تساعد اعداءها على القضاء عليها او الامساك بزمام امورها ؛ وذلك لان هذه الحالة تولد التردد واتخاذ موقف اللاموقف وترك الحسم والابتعاد عن الواقعية والوعي السياسي والعيش في كهوف الطوباوية والميتافزيقية ؛ وهذه الصفات السلبية تنهش في جسد الجماعة او تلك الامة  وتنخرها من الداخل مما يسهل المهمة على اعداءها .

والجماعة التي لا تعي وجود مشكلة لا تسعى الى حلها وكذلك الجماعة التي لا تشعر بكونها مظلومة لا تعمل على رفع الظلم عنها ؛ فالوعي والمعرفة أهم من كل شيء فهما اولا وكل الامور تأتي بعدهما ... ؛ لذا يعد الشعور بالظلم أهم من وقوع الظلم ؛ لان الدنيا بطبيعة الحال دار مظالم , ولكن من الغريب والعجيب  في الامر عدم احساس المرء المظلوم بالظلم الواقع عليه ... ؛بل قد يتطور الامر ويؤيد المواطن الظلم والجور بسبب الجهل وانعدام الوعي ... ؛ بل الادهى  حين يكون تأييد  الظلم ناجما ليس عن جهل أو عدم فهم ، بل عن قيم معطوبة لا ترى فيه إثما ، فعندها لا تفيد الحجج العقلية والأدلة الحسية ... ؛  ويصبح النقاش السياسي مضيعة للوقت ... ؛ وعندها لا نستغرب من وقوف المظلوم مع الظالم ضد الاحرار الذين يسعون لتخليص المظلومين من براثن الظالمين ؛ نعم ان  المشكلة تكمن في بعض المجتمعات التي ترى الظلم وتقبله  ؛ بحيث اصبح الظلم مقبولا بل ومستساغا لدى الكثيرين و يمكن تبريره بجميع المبررات لأنه تجذر في العقلية المنكوسة  ...؛ ولعل القصة الشهيرة لاعتقال تشي جيفارا والتي انتهت بإعدامه ؛ تجسد هذه الظاهرة الخطيرة ؛ اذ  تقول القصة ، أنه بعد القبض على جيفارا في مخبأه الأخير ,  بوشاية من راعى أغنام ... ،  و وقتها سأل أحدهم الراعي الفقير: لماذا وشيت عن رجل قضى حياته في الدفاع عنكم و عن حقوقكم ؟! ؛  فأجاب : كانت حروبه مع الجنود تروع أغنامي  ... !!  ؛ ما اسهل القضاء على الجماعات الغبية والانانية والتي ينعدم التعصب بين ابناءها ,  ومجاميع الحمقى ومحدودي النظر وضيقي الافق .  

نعم قد تتلقى بعض الفئات والجماعات والشعوب كل انواع الضربات المهينة والمذلة , وتعيش في  اشد  الظروف قسوة , وسط الظلم والجور وانتهاكات حقوق الانسان وانعدام الحريات الشخصية والدينية والسياسية والثقافية ؛ والازمات والانتكاسات , وانتشار الفقر والمرض والجهل والتخلف والامية والبطالة والجريمة ... الخ ؛ بمزيد من الرضا والقبول والصمت ؛ ودس الرؤوس في الرمال ... ؛ ولعل البيت الشعري للشاعر العراقي الكبير المتنبي يوضح لنا الحالة المزرية التي يصل اليها البعض ؛ بحيث يستسهل الظلم والمذلة والاهانة :  

مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ *** ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ.

ومعنى هذا الشطر من البيت، اي ان الذي يقبل الذل والمهانة؛ يصبحان امرا معتادا عنده ما بقي من عمره، ثم شبه الذليل القابل للهوان بالميت في تتمة البيت فقال: وما لجرح بميت ايلام ... ؛ فكما ان الجرح الذي يؤلم الحي لا يؤلم الميت ؛ كذلك الهوان الذي يؤلم العزيز، فإنه لا يؤلم الذليل... ؛ بل قد يفرح البعض بالظلم ويسعد بالهوان ؛ وصدق المتنبي عندما قال : 

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم 

ولعل هنالك صورة التقطت لإحدى العوائل  المظلومة الغبية العراقية في كربلاء عقب انتفاضة 1991 والتي جاءت من اجل الزيارة ؛ وهم يفترشون الارض وسط الخرائب والدمار الهائل ورائحة الموت والموتى في كل مكان , وعيون وازلام وزبانية النظام منتشرون في ارجاء المراقد المقدسة ويمارسون فيها كل الموبقات ويهتكون حرماتها في الليل والنهار ؛ وعلى الرغم من كل ذلك تظهرهم الصورة الفوتوغرافية وهم مبتسمون فرحون كالبلهاء ؛ وكأنهم في كوكب اخر لا يعلمون بما جرى على اقربائهم وابناء جلدتهم و مراقدهم الدينية المقدسة التي جاءوا اليها للزيارة ...!   

فلو أن أحدًا أهانك في المرة الأولى وسكت على ذلك فحتمًا سيقل قدرك في نظره، ولو أهانك للمرة الثانية وسكت فسيستهين بك ، وعندما يهينك للمرة الثالثة وتسكت، حينها لن يقيم لوجودك وزن وسيرى أن خضوعك له من الواجبات وإلا سيواصل إهانته لك وسيطور من طرق إهانته لك ... ؛  هذا لو أنه أهانك ثلاث مرات فقط، فكيف لو أنه يهين كرامتك وعقيدتك ويستخف بوجودك كل يوم وأنت ساكت لا تحرك ساكنًا حينها تستحق كل أنواع الظلم والمذلة والقتل وغيره، واعلم هنا أنك أنت من أذنت له بإهانتك وصنعت بيديك كل الخراب والدمار الذي سيحصل في بلدك، ولو أنك وقفت في وجهه من أول مرةٍ حاول إهانتك فيها لهابك ولأعطى كل حقوقك رغمًا عن أنفه... . 

وعندما تحاول استعادة كرامتك بعد أن أصبحت في الحضيض حينها سيكون الثمن باهظا، وعندما تحاول استعادة حقوقك بعد إهمالك لها سنواتٌ من الزمن حينها لابد أن تكون التضحية كبيرة لذا لا تستغربوا على الشعوب العربية أنها الآن تضحي بآلاف القتلى وآلاف السجناء والملايين من المستعبَدين، لأنها سقطت كرامتهم منذ عقود وسُلبت حقوقهم من زمنٍ عتيق وما زالوا صامتين لا يجرؤون على فعل أي شيء... .  (1) 

ومن هنا تعرف  ان عمليات التغيير والاصلاح والتطوير والتنمية ومقارعة الظالمين والفاسدين والمخربين  ... ؛  ليس عمليات عشوائية او اعتباطية او سهلة ؛ بل هي عمليات فكرية وثقافية واضحة  الاهداف و المعالم ؛ تتبعها وسائل وطرق تنفيذ تشبهها ؛ بإرادات صلبة كالفولاذ . 

................................................

1-      لا تلوموا الحُكّام.. الشعوب هي التي تصنع الخراب! / عبد الرحمن الآنسي / بتصرف  .