منذ القدم والعراق يعاني من ظاهرة وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب ؛ والمسؤول الحقير في المنصب الكبير , وتصدي الجبان الذليل بدلا من الشجاع النبيل ؛ وتزعم السفيه اللئيم واستبعاد الحليم الحكيم ... الخ ؛ وقد تسببت هذه الظاهرة السلبية بحدوث الازمات والانتكاسات ؛ والهزائم ,والخسائر الفادحة , والتأخر في مختلف الاصعدة والمجالات ؛ وظهور الشخصيات الفاشلة والقشرية وبروز السلوكيات المرضية والسلبيات , وتوالي التداعيات المدمرة والخطيرة والتي طالت كل مفاصل الدولة والمجتمع ؛ وضياع الثروات الوطنية وخسارة الخيرات والموارد والطاقات العراقية ... .
ودأبت الحكومات الهجينة والعميلة والطائفية ومنذ العام 1921 والى عام 2003 ؛ على تقريب الشخصيات الموالية والغريبة والاجنبية وبغض النظر عن الكفاءات والخبرات ؛ فشعارهم ولسان حالهم : (( الولاء للسلطة والعمالة للأجنبي , ونفذ ولا تناقش )) ... ؛ واستبعاد وتهميش ومطاردة احرار العراق والشخصيات الوطنية النزيهة ... ؛ حتى شاعت بين العراقيين ظاهرة اطلاق الالقاب السيئة على ساسة الدولة ومسؤولي الحكومات ؛ امثال : (( ابو فرهود – وكواد بغداد – و حرامي بغداد – وعزت ابو الثلج ... الخ )) والتي تكشف عن شيوع ظاهرة : وضع الرجل الصغير في المنصب الكبير .
إن وضع الرجل الغير مناسب في المكان المناسب يرفع من مقام الدخيل والوضيع والسفيه والحرامي ، و ينقص من مقام الاصيل و المحترم والحكيم والنزيه فعندما يدير الشخص غير المناسب أي قطاع أو منظومة او دائرة او يستلم اية مسؤوليات عامة ؛ فإنه يحارب الكفاءات ويستبعد الخبرات ... ؛ حتى لا يظهر أحد بجواره يخطف منه الاضواء , ويعرف الناس حجمه مقارنة بغيره من الخبراء والمختصين ، فيحاربه بالتهميش تارة , وبالإقصاء تارة , و بالكذب و الافتراء و الكيد تارة أخرى ... ؛ ويقرب الامعات واشباه الرجال وانصاف المتعلمين والمختصين ؛ كي يكون انجح الفاشلين وانظف الوسخين .
إن عدم إسناد الوظائف والمناصب إلى مستحقيها بالفعل وإسنادها إلى البعض طبقا للواسطات والمحسوبيات والأيدولوجيات والتحزبات ، هو السبب الرئيس في خسارة الوقت والأموال، والتخلف والرجوع إلى الوراء خطوات وسنوات، وهو السبب الرئيس في انهيار الاقتصاد وزيادة العجز والمديونية في معظم دول العالم الثالث وهو السبب الرئيس في انتشار الفساد المالي والإداري والسياسي، وانعدام العدالة، وعدم المساواة في الحقوق بين الناس ،لأن الشخص الغير مناسب يأتي بأشخاص غير مناسبين من حوله ويعينهم وهكذا،… حتى تصبح كل الدائرة مليئة بالأشخاص الغير مناسبين فقط .(1)
ومن الواضح إن البشرية ترتقي بمواهبها، ونتاجاتها التعليمية والعلمية، فحين تدفن هذه المواهب والعقول والقدرات فإنما تدفن الأوطان وتدفن الإنسانية، فهي تدفن بطريقة وضع الرجل الناقص في المكان الكامل، ومما لا شكّ فيه , أن ساستنا المنكوسين يمارسون كلّ شيء من مبدأ العاطفة والهِوَاية والتحزب والمحسوبيات والمصالح الشخصية والفئوية الضيقة ، والغريب أن كلّ مبادئنا ومكارم اخلاقنا و مآثر تاريخنا ونتاجاتنا الفكرية تؤكّد ليل نهار على مقولة “الرجل المناسب في المكان المناسب” الشهيرة، والتي حفظناها على ظهر قلب وعقل ولسان، كأسمائنا أو شعارات أحزابنا المناضلة وتواريخ ميلاد قادتنا الأفذاذ، والسؤال أين هو الرجل المناسب الذي يقود السفن المجتمعية نحو شواطئ الأمن والاستقرار والتقدّم؟
واليكم هذه القصة الشهيرة والمتداولة في الصحف والمواقع الالكترونية ؛ والتي تكشف لكم خطر ظاهرة وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب ؛ فهذه الظاهرة من الخطورة والضرر بمكان ؛ اذ قد تؤدي الى انهيار الحكومات والدول والإمبراطوريات ؛ وهلاك الناس ودمار المجتمعات ... ؛ فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي ، كرّمت المخابرات الأميركية عميلها الروسي ، و الذي كان يشغل منصب وزير الخدمة المدنية في موسكو ... ؛ فسأله ضابط في المخابرات الروسية : “أنا كنت مسؤولاً عن مراقبتك ، لم أجد لك علاقة مع المخابرات الأميركية ، ولا تواصلاً، ولا مراسلة ، فماذا عملت لها ؟
فقال : كنت أعيّن كلّ خريج في غير تخصّصه وفي غير مجاله، وأشجّع على ترقية الأغبياء إلى الأعلى، مع دعاية إعلامية لهم ، وأحول دون صعود الكفاءات باختراع نقص الشروط ، حتى بقي في رأس الهرم الحكومي و الدولة الطاعنون في السنّ والأغبياء الجدد، فأصيب الاتحاد السوفيتي بالإفلاس الفكري والتعليمي وسقط ... !
وهذه نتيجة طبيعية ؛فعندما يوكل الأمر إلى غير أهله يكون الانهيار وشيكاً وحتميّاً ... ؛ وهذا ما نشاهده في الواقع العراقي دائما ؛ وعندما تسأل عن اسباب الدمار والخراب والفساد والتخلف ... ؛ الكل يجيب بالجواب التقليدي المعروف - وفقا لنظرية المؤامرة - : الاستعمار والاستكبار والمخابرات الدولية ... هم السبب في ذلك ... ؛ نعم هؤلاء الاشرار والاعداء يعملون على ذلك الا انهم لا يستطيعون اجبار النخب والشخصيات وكل المواطنين على هذا السلوك السلبي والفكر المنحرف ؛ فلو رفض المعلم التعيين في وزارة الداخلية , ورفض المهندس الزراعي التوظيف في وزارة الدفاع , واعرض المحامي عن قبول وظيفة صحية في احدى المستشفيات ... الخ ؛ لاستقامت الحياة وازدهرت الدولة وتطورت الحكومة وتقدم البلد ... ؛ فوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، هي أول خطوة نحو الإصلاح و التغيير والتطور ، ومن العار ان نعمل مع عدونا على تدمير بلدنا ؛ فالكثير منا يشبه هذا الوزير الروسي الخائن .
إن نموذج وزير الخدمة المدنية الروسي نموذج طاغي في المجتمعات و التجمعات والدوائر والمؤسسات والمنظمات العراقية ، إذ يقوم البعض على ترقية الأغبياء والادعياء وأشباه الموظفين و انصاف المتعلمين ، فقط لنسبهم ومالهم وصيت أهلهم او تحزبهم وتملقهم ... الخ ، ويبتعدون عن توظيف الكفاءات والخبرات، ممّا جعل هذه الكفاءات إما تحاول المشي مع التيار ... ، أو تتراجع إلى الخلف ... ، او تهاجر من وطنها ، للبحث عن فرص في البلاد الاجنبية ؛ فتذهب كلّ خدماته وطاقاته لتلك البلاد الاجنبية , ويحرم العراق من هذه الطاقات والكفاءات والخبرات الوطنية , والسبب في هجرة العقول تفشي هذه الظاهرة اللعينة , والتي تسبب الاحباط واليأس والشعور بالغبن والظلم ؛ للمتعلمين والمثقفين والمختصين ... ؛ فمن الحيف ان يأتي شخص لا يتجاوز عمره ( ال 20 سنة ) ؛ لأنه ابن المسؤول الفلاني او من الجهة الكذائية ... ؛ ولا يمتلك اية خبرة او معرفة او اطلاع نظري او ميداني ؛ يترأس العمل في دائرة ؛ فيها موظف يبلغ من العمر ( 57 عام ) ويمتلك خبرة ( 30 سنة ) في الوظيفة , بالإضافة الى شهادته الاكاديمية التخصصية ؛ ولعل حديث الامام علي الاتي ؛ يكشف لنا التداعيات النفسية والضرر الذي يترتب على ترأس الجاهل وخدمة العالم للجاهل ؛ اذ قال ما معناه على ما اذكر : (( اكثر الناس هما من كان افهم من رئيسه )) .
لذلك ابتعد الاحرار واصحاب الكفاءات والخبرات واهل الكرامة عن هذه الاجواء الموبوءة ؛ وهذه القصة الطريفة من الادب التشيكي ؛ تبين لنا تداعيات ظاهرة وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب ؛ ففي إحدى الغابات أعُلِن عن وظيفة شاغرة لوظيفة أرنب ... ؛ ولم يتقدم أحد للوظيفة غير دب عاطل عن العمل، و تم قبوله وصدر له أمر بتعيينه... ؛ وبعد مدة لاحظ الدب أنّ في الغابة أرنبًا معيّناً بدرجة وظيفية هي (دب) ويحصل على راتب ومخصصات وعلاوة دب، أما هو فكل ما يحصل عليه مخصصات أرنب ... !
وتقدم الدب بشكوى إلى مدير الإدارة وحُوِّلت الشكوى إلى الإدارة العامة، وتشكلت لجنة من الفهود للنظر في الشكوى، وتمّ استدعاء الدب والأرنب للنظر في القضية.
طلبت اللجنة من الأرنب أن يقدم أوراقه ووثائقه الثبوتية، إلا أن جميع الوثائق تؤكد أنّ الأرنب دب.
ثمّ طلبت اللجنة من الدب أن يقدم أوراقه ووثائقه الثبوتية، فكانت كل الوثائق تؤكد أنّ الدب أرنب ... !
فجاء قرار اللجنة بعدم إحداث أي تغيير، لأن الأرنب دب والدب أرنب بكل المقاييس والدلائل... ؛ ولم يستأنف الدب قرار اللجنة ولم يعترض عليه، وعندما سألوه عن سبب موافقته على القرار أجاب : كيف أعترض على قرار لجنة "الفهود" والتي هي أصلاً مجموعة من "الحمير" وكل أوراقهم تقول أنهم فهود ...!!
.............................................................
- الرجل غير المناسب في المكان المناسب / عادل بن الحبيب / بتصرف .