حدثت قصة مع احد المعارف والاصحاب تشبه الى حد ما قصة سلطان الاباريق الشهيرة -والتي سنأتي على ذكرها لاحقا - ؛ في العاصمة بغداد , فقد كان صاحبنا الشاب الصغير محمد يعمل في احدى محلات بيع الملابس , ويبدأ دوامه من الساعة الثامنة صباحا والى الساعة الخامسة مساءا , مما يضطره الى الذهاب يوميا الى احدى الحمامات العمومية القريبة من محل عمله ... ؛ وعندما ذهب الى الحمام العمومي لأول مرة , رأى ثلاثة ابواب مفتوحة ؛ واراد ان يدخل في الحمام الاول ؛ الا ان ابو جاسم مسؤول ( عامل ) الحمام العمومي , زجره , قائلا : لا تدخل في هذا الحمام , وادخل في غيره ... ؛ ودخل محمد الى الحمام الثاني ولم يعترض ... ؛ وفي اليوم التالي , تكررت نفس القصة معه ؛ فأنفعل محمد قائلا : لم تمنعني من دخول هذا الحمام وما فرقه عن باقي الحمامات ؛ فأجابه ابو جاسم والذي يبلغ من العمر عتيا , قائلا : اريد ان انظف هذا الحمام دون غيره ... , وصدقه محمد ومضى الى حاله ولم يعترض ... , وفي اليوم الثالث , اعاد نفس السيناريو ؛ الا ان محمد هذه المرة ؛ راقب عامل الحمام من بعيد , واراد التأكد من صدق قوله , على الرغم من ان الحمامات كلها نظيفة ولا تحتاج الى تنظيف كما يتحجج بذلك ابو جاسم ... ؛ وصدق ظنه , ولم يقم ابو جاسم بتنظيف الحمام الاول الذي منع محمد من دخوله ... , وفي اليوم الرابع , وبعد خروج محمد من الحمام , صاح ابو جاسم بوجه محمد ؛ قائلا : لماذا لم تكسب الماء بعد الانتهاء , فرد محمد قائلا : قد فعلت ... ؛ ولم يأبه ابو جاسم برد محمد واستمر بتقريع وتوبيخ محمد ... , وكظم محمد غيظه واحترم عامل الحمام ولم يتجاوز حدود الادب معه , وذلك لفارق العمر الكبير بينهما ... , وجاء في اليوم الخامس , وقبل ان يدخل الى الحمام , صرخ ابو جاسم قائلا : اعطني الاجرة قبل الدخول ؛ على غير المعتاد , ومع ذلك امتثل محمد لأمر العامل , ودفع له الاجرة قبل الدخول ... , وفي اليوم السادس , عندما دفع محمد له الاجرة ؛ اعترض ابو جاسم على نوعية العملة الورقية , وردها على محمد , لأنها عتيقة وممزقة كما ادعى ... ؛ واستبدلها محمد بغيرها ودفع الاجرة , وذهب الى سبيله كالعادة ... , واستمرار مسلسل الازعاج هذا .
وبعد ان ضاق ذرعا محمد به ؛ سأل العمال وسكنة المنطقة عن العامل ابي جاسم , فقالوا له : هذا سلوكه المعتاد مع البعض ؛ فهو يتعامل مع بعض الناس وفقا لمزاجه ... ؛ وتصرفاته اليومية هذه ناتجة عن ظروف اجتماعية وتجارب نفسية مر بها ابو جاسم , فهو يبلغ من العمر 69 عاما , وتوفت زوجته قبل 20 عاما , ولم يرزق بالذرية , وعاش في فقر مدقع , ولم يمتلك بيتا , ويعيش وحيدا , ومصاب ببعض الامراض المزمنة ... ؛ وحالته هذه تؤثر على سلوكه اليومي سلبا , بالعامية : (( يطلع ضيمه وضوجته بالآخرين )) والناس تعرف ذلك عنه , وعاملوه بالإحسان وغض الطرف عن تجاوزته ... , فالظاهر ان عامل الحمام العمومي يرى نفسه بتصرفاته هذه , ويشعر بقيمته الاجتماعية من خلال اصدار الاوامر على الداخلين الى هذا الحمام العمومي ... .
والشيء بالشيء يذكر : يحكى أن رجلاً كانت وظيفته ومسؤوليته هي الاشراف على الأباريق لحمام عمومي، والتأكد من أنها مليئة بالماء بحيث يأتي الشخص ويأخذ أحد الأباريق ويقضي حاجته ثم يرجع الابريق الى صاحبنا، الذي يقوم بإعادة ملئها للشخص التالي وهكذا.
في إحدى المرات جاء شخص وكان مستعجلا فخطف أحد هذه الأباريق بصورة سريعة وانطلق نحو دورة المياه، فصرخ به مسؤول الأباريق بقوة وأمره بالعودة اليه فرجع الرجل على مضض، وأمره مسؤول الأباريق بأن يترك الابريق الذي في يده ويأخذ آخر بجانبه، فأخذه الشخص ثم مضى لقضاء حاجته، وحين عاد لكي يسلم الابريق سأل مسؤول الأباريق : لماذا أمرتني بالعودة وأخذ ابريق آخر مع أنه لا فرق بين الأباريق، فقال مسؤول الأباريق بتعجب : اذن ما عملي هنا ؟!
ان مسؤول الأباريق هذا يريد أن يشعر بأهميته وبأنه يستطيع أن يتحكم وأن يأمر وأن ينهى مع أن طبيعة عمله لا تستلزم كل هذا ولا تحتاج الى كل هذا التعقيد، ولكنه يريد أن يصبح سلطان الأباريق!
ان سلطان الأباريق موجود بيننا وتجده أحياناً في الوزارات أو في المؤسسات أو في الجامعات أو المدارس أو في المطارات او في المكاتب ، بل لعلك تجده في كل مكان تحتك فيه مع الناس ... .
ألم يحدث معك، وأنت تقوم بإنهاء معاملة تخصك ، أن تتعطل معاملتك لا لسبب الا لأنك واجهت سلطان الأباريق الذي يقول لك : اترك معاملتك عندي وارجع بعد ساعتين ، ثم يضعها على الرف وأنت تنظر ... ، مع أنها لا تحتاج الا لمراجعة سريعة منه ؛ ثم يحيلك الى الشخص الآخر، لانه لا يشعر بأهميته الا اذا تكدست عنده المعاملات وتجمع حوله المراجعون ... انه سلطان الأباريق يبعث من جديد ... !
انها عقدة الشعور بالأهمية ومركب النقص و الشعور بالقوة والتحكم بخلق الله ... .