عندما وصلني نبأ وفاة الشيخ قاسم الطائي ؛ انتابني شعور غامض ؛ الا انه كان شعور مرددا بين الاس والحزن والكآبة والحسرة والتأمل والقلق الوجودي ... ؛ ولعلي بهذه الكلمات انعى نفسي قبل ان انعاه , فالإنسان عبارة عن لحظات وذكريات ؛ وكلما انقضت لحظة وامست ذكرى ؛ كلما ذهب منك جزء لا يعوض ابدا , الى ان تنقضي اللحظات وتذهب السنين والايام والساعات وتمضي الذكريات بلا رجعة ؛ فيأتيك الاجل مسرعا كالبرق .
فمهما حاولنا النسيان ، إلا أنّ الذكريات تبقى محفورةً داخلنا و منقوشة في وجداننا ، تُذهِبُ بنا لماض لا يمضي , لاسيما لو كانت مؤلمة ومحفوفة بظروف قاهرة ؛ اذ يبقى لها رونق خاص في سويداء القلب ، فقد تجمعنا الدنيا بأشخاص أو قد نمر بأماكن لم نعتبرها في بداية الأمر مهمّةً ؛ او قد نعتبرها مهمة ، ولكن عند الابتعاد نشعر بقيمتها ؛ او لا نعيرها اهمية كأول مرة .
إنَّ العلاقة التي تربطني مع صديقي واستاذي المرحوم الشيخ قاسم الطائي ؛ ليست وليدة اللحظة وإنما تعود إلى أيام الزمن الاغبر وسنوات الجمر وحكم الحديد والنار ، إلى ما يزيد عن ثمانٍ وعشرين عاماً ونيّفاً ؛ حيث عشنا أيامها بحلوها ومرها ، وتزامن ذلك عندما كنا ندرس سوية في حوزة النجف الاشرف في عقد التسعينيات من القرن المنصرم , وقد سبقني بالالتحاق بعدة سنوات ... ؛ وانا كنت وقتها احضر درس الشهيد الشيخ علي محمد الرحيماوي الخاص في جامع الهدى وبالتحديد في منزله , وبعد اعتقال الشيخ عام 1991 , حضرت عدة حلقات في بغداد , وبعدها ذهبت الى النجف الاشرف وبالتحديد عام 1995 ولكن بصورة متقطعة وليست منتظمة ...؛ وهناك تعرفت على الشيخ قاسم الطائي .
خبر انتقال أخي وصديقي واستاذي الشيخ الطائي إلى الرفيق الأعلى كان وقعه علي كالصاعقة ، فأنا الذي عرفت طبعه الودود وقلبه الطيب وسيرته النضالية العطرة ؛ فقد نشأ في عائلة ملتزمة دينيا وتحمل الهم الوطني في بغداد ؛ وقد اعتقلت اخته واخاه من قبل الاجهزة القمعية الاجرامية الصدامية في عقد الثمانينات من القرن المنصرم ؛ بتهمة الانتماء لحزب الدعوة , و اعدما فيما بعد ولم يعثر على جثمانيهما , وقد التحق الشيخ قاسم الطائي بهذه المسيرة الجهادية من اجل الدفاع عن الاغلبية العراقية الاصيلة ؛ وقد عرف بالتزامه الديني وحسه الوطني والاخلاقي ونضاله الجهادي ضد الطغمة الهجينة , وشارك في الانتفاضة العراقية الخالدة عام 1991 ونفذ عدة عمليات جهادية ضد جلادي النظام الدموي الهجين وكان من ضمن الداخلين إلى مديرية أمن النجف أثناء أحداثها ... , و بعد الانتفاضة ذهب سرًا إلى إيران للالتقاء بقادة المعارضة العراقية للتباحث معهم عن سبب فشل الانتفاضة ، وقد التقى بالشهيد عز الدين سليم ، وعند عودته إلى العراق أُلقي القبض عليه من قبل المخابرات العراقية وأودع في سجن الحاكمية لسنة كاملة وتعرض خلالها لشتى صنوف التعذيب الوحشي .
والتحق بعدها بالحوزة العلمية في النجف الاشرف , وهو من الاشخاص القلائل الذين جمعوا بين الدراستين الاكاديمية ( مهندس ) والدينية , وحضر دورس العلماء فيها , ومنهم : الشهيد الشيخ البروجردي , والشهيد الشيخ الغروي , والسيد السيستاني , والسيد علي بهشتي , والسيد الحمامي , والشهيد السيد الصدر ؛ و استمرت علاقته بمحمد الصدر ودرس عنده لفترة طويلة وكان أحد ثقاته , و التحق بالسيد الشهيد الصدر قبل إعلان مرجعيته , وعمل في مكتبه وحضر بحثه في الفقه والأصول وقرر بعض مطالبه ، و شهد له بالأعلمية ودعا الناس الى تقليده واتباعه ... ؛ وبقي ملازماً له حتى استشهاده .
وبعد استشهاد السيد الصدر كان الطائي أحد المشاركين في فتح مكتب السيد محمد الصدر مع الشيخ محمد اليعقوبي ومقتدى الصدر، إلا أنه خرج بسبب تقاطع توجهاته عن توجهات اليعقوبي ومقتدى الصدر وأخذ يتعنون بعنوانه كمرجع ديني ورجل دين حركي ...؛ فهو أحد مؤسسي التيار الصدري , و قد ملك تأييدًا كبيرًا من قبل أنصار التيار الصدري في بداية الامر ، بل رأى نفسه القائد الحقيقي للتيار الصدري بعد محمد الصدر ... .
ومن أبرز مواقفه بعد سقوط الصنم الطائفي الهجين والاحتلال الأمريكي للعراق : افتاءه بوجوب مقاومة المحتل من دون الرجوع لإذن الحاكم الشرعي ، وقد جسد هذه الفتوى بوقوفه في معركتي النجف والفلوجة خلال عهد رئيس الوزراء إياد علاوي، حيث لم يخرج من النجف الاشرف حال حصول المعارك فيها ... ؛ ثم افتى بوجوب وجواز القتال والجهاد في سوريا لحماية المراقد الدينية المقدسة فيها ؛ و أسس لواء ( أبو الفضل العباس ) للدفاع عن المراقد الشيعية ... ؛ وذهب الى مرقد السيدة زينب بنفسه شخصيا في بداية عام 2013 ؛ وفي احلك الظروف واصعبها وصل مرقد السيدة زينب , بعد الكثير من الظروف الحرجة التي لاقته حين وصولة مطار دمشق لا مجال لذكرها الان ... ؛ وقد فتح الشيخ الطائي مكتب له بعد ان اغلق اغلب المراجع مكاتبهم في ذلك الظرف الصعب .
وكان يذهب الى الاعتقاد بولاية الفقيه العامة والقى محاضرة بعنوان : ( ولاية الفقيه ) في مدينة العمارة عام 2003 , وخلف وراءه عشرات المؤلفات في مختلف المعارف الدينية والسياسية والتاريخية .
كان الشيخ الطائي شجاعا مقداماً متكلما متواضعا ، محبّاً للعراقيين ولاسيما الاغلبية العراقية الاصيلة وبالخصوص اهل الجنوب ، وهو الكريم في طبعه، السخي في عطائه , النبيل في تعامله ، وأكثر ما يعجبني فيه احترامه ووده للآخرين ... .
ولي معه ذكريات عديدة , سأذكر لكم بعضا منها : في اوائل ايام سقوط النظام البعثي الهجين , بدأ بالشروع في انشاء مدرسة دينية واشرف عليها , واستقبل الطلبة , وقد أوكل الي مهام تدريسية في مسجد الشيخ الطوسي وقتها , وذلك لثقته بي , وقد طلب مني في احدى المرات ان اكتب شيئا عن سيرته الذاتية , وكان هذا الطلب منسجما مع توجهاتي الفكرية ؛ فأنا ادعو العراقيين الاصلاء الى الاحتفاء بشخصياتهم ورجالهم ورموزهم وفي مختلف المجالات والتوجهات وبغض النظر عن اقتناعي بآرائهم ومدارسهم المعرفية والفكرية ولاسيما الجنوبيين منهم ... ؛ لذلك كتبت سيرة استاذي الشيخ نوري حاتم الساعدي فيما بعد , الا انني لم انجز طلب الشيخ الطائي لأسباب وظروف طارئة حالت بيني وبين كتابة السيرة وقتذاك .
وقد ذكر لي في احدى المرات ؛ انه كان يقيم صلاة الليل , واذا بأحد رجال الدين المعروفين ومن ابناء العوائل الدينية الشهيرة ؛ دخل علي , قائلا : هل انت مطلوب صلاة قضاء ؟ , فأجبته : لا , فقال لي : اذن لماذا تصلي ؟ ؛ فقالت له : انها صلاة الليل , فولى مستغربا ... ؛ وهذه القصة تعكس لنا وقتذاك الواقع العبادي لبعض الطلبة ورجال الدين ؛ اذ ان البعض منهم يعتقد بأن دراسة وتدريس المؤلفات والمعارف الدينية واداء الفرائض الواجبة فقط ؛ يكفي ولا ينبغي لطالب العلم صرف وقته في العبادات المستحبة او الرياضات الروحية , وكان البعض يعبر عن هذه الحالة بظاهرة : ( اسقاط الواجب ) ؛ ولعل من اهم اسباب شيوع ظواهر الانحراف السلوكي بين بعض الطلبة وفشلهم في التأثير في الناس ؛ كان ناتجا عن فصل الفقه عن الاخلاق , وطلب العلم والمعارف الدينية عن اداء العبادات الاسلامية والرياضات الروحية ؛ والتي بدورها تعزز القيم الانسانية والاخلاقية والمعنوية في نفوس الطلبة .
وفي احدى المرات ؛ ادى الشيخ قاسم الطائي صلاة الظهر في مكتب استاذه ( البراني ) ؛ فدخل احد ابناء الاستاذ , وراه وهو يصلي في المكتب , فقام بضرب ودفع التربة الحسينية بقدمه من امام الشيخ الطائي ؛ فما كان من الشيخ الا ان غادر المكتب , وانقطع عن درس استاذه , فسأل عنه احد الطلبة , وقص عليه ما جرى , فأرسل استاذه في طلبه , وعندما جاء الشيخ قاسم الطائي , اعتذر استاذه منه قائلا : (( لقد أسات تربيته )) .
وهذه الحادثة تسلط الاضواء على ظاهرة انحراف بعض ابناء رجال الدين وشيوعها احيانا , حتى ان كتاب القران الكريم , ذكر بعض قصص الانبياء الذين عانوا من عوائلهم وابناءهم ؛ لذلك شاع بين الناس ترديد هذه المقولة : (( يخرج الخبيث من الطيب )) , لذلك انخرط الكثير من ابناء رجال الدين والعوائل الدينية في صفوف الحزب الشيوعي والاحزاب القومية وحزب البعث ... .
وعانى الشيخ قاسم الطائي كما عانى اسلافه من رجال الدين العرب والعراقيين سابقا , من ظواهر التمييز واحتكار القرار الديني والنفوذ والخمس ... الخ ؛ داخل الحوزة النجفية وحوزة قم وغيرهما , وطالما شكى لي مظاهر هذه التمييز المغلف ببعض الادعاءات الدينية الكاذبة والمنكوسة والتي تهدف الى فرض سيطرة الاخرين على مقاليد الامور في العراق والعالم العربي والاسلامي الشيعي ... ؛ ولعل بسبب هذه السياسة العنصرية تماهى بعض رجال الدين العرب والعراقيين مع بعض الدعوات القومية والمشبوهة وغيرها ؛ مما زاد الطين بلة , وانطبق عليهم المثل العراقي الشعبي : (( اجه يكحلها عماها )) , مما سبب نفور الناس منهم وازدياد الهجمات المنكوسة عليهم ؛ من قبل الاجانب والغرباء القوميين و المتسترين برداء ولباس الدين والمذهب .
و شكى لي عزوف البعض عنه , وانقياد ابناء الاغلبية العراقية الاصيلة خلف القيادات الدينية التي لا تمت بأية صلة بهم , ولا تعيرهم اية اهمية , ومع ذلك هم يهرولون خلفها , بالإضافة الى هذا الارث الحوزوي الشائك , برزت على الساحة العراقية اشكالية جديدة , الا وهي ظاهرة : ( عراقيو الداخل ؛ وعراقيو الخارج ) مما عقد المشهد الشيعي العراقي , اذ ادعى ( عراقيو الخارج والمهجر ) ان كافة ( عراقيو الداخل) هم بعثيون او جبناء او ... الخ ؛ وعليه احتكر ( عراقيو الخارج ) السلطة واستولوا على كافة مقاليد الامور في العراق بما فيها القضايا الدينية , ومن الطبيعي عندها ؛ ان يهمش ويبعد الشيخ قاسم الطائي وامثاله من قبل هؤلاء الساسة الجدد , وتنشأ بينهما العداوة والبغضاء وسوء الفهم ؛ وقد اثرت هذه الاشكالية على واقع الاغلبية العراقية الاصيلة , وزادت من عوامل الضعف والتشتت والضياع والتشرذم ... ؛ وقد دعا اتباع ومقلدي السيد الحائري بالرجوع اليه بعد اعتزال السيد الحائري ؛ لأنه يرى بأن اهل مكة ادرى بشعابها , وما حكَّ جلدكَ مثلُ ظفركَ ... ؛ لذلك نعاه اهل الدار فقط كالشيخ نوري حاتم الساعدي والشيخ البديري وبعض العراقيين الاصلاء .
وفي عام 2006 ؛ بدأت علاقتي تضعف بالشيخ قاسم الطائي , وانسحبت منه رويدا رويدا ؛ الا انني ازوره دائما واتفقده , وذلك بسبب انشغالي بالدراسات الاكاديمية والاعمال الاقتصادية الحرة , اضف الى ذلك تغير قناعاتي الفكرية والثقافية والدينية فيما يخص بعض الامور والقضايا المعرفية , وطالما اشتد النقاش بيني وبينه حول العديد من القضايا الحداثوية والفلسفية ؛ الا انه كان اشبه بحوار الطرشان ؛ فالاختلاف فيما بيننا اصبح اختلافاً مبنائياً ؛ فهو في وادٍ وأنا في واد اخر ؛ والذي زاد في الطنبور نغمة ؛ تمسك الشيخ قاسم الطائي بالدوغمائية ولعلها صفة اغلب رجال الدين , فهو يعتقد ان الحق معه يدور حيثما ما دار , وعليه رأيت ان النقاش معه لا يجدي نفعا , كما هو الحال مع اغلب رجال الدين , اذ ان لسان حالهم : (( اذا قالت حذام فصدقوها - - فإن القول ما قالت حذامِ )) وبسبب هذه الصفة نفر الكتاب والاحرار والمفكرون والمبدعون والمحققون منهم ومن بعض الساسة المتعصبين فكريا والمنغلقين والمؤدلجين ... ؛ مما سهل الامر على الجهلة والحمقى والمتملقين والمرتزقة والمداحين وانصاف المتعلمين والمثقفين وادعياء العلم والدين ؛ فقد تبؤا هؤلاء مناصب مرموقة في المؤسسات والمنظمات والمكاتب الدينية والحزبية والسياسية والثقافية ... الخ .
وقد ذهبت الى زيارته في احدى المرات , وجاءه سيد معمم , وكان من اتباع ( ... ) , وقد تركه وهجره وغير رأيه فيه , وعندما سأله الشيخ الطائي عن السبب ؛ أجابه قائلا : يأتي الى مكتب ( ... ) شخص امارتي يرتدي الزي العربي , وهو حالق اللحية ولا ينهض الى الصلاة ؛ عندما يحين وقتها ويصلي كل من في المكتب ( البراني ) ؛ حاملا معه حقيبة مليئة ( بالدولارات ) وعندما سألت الاستاذ المرجع ( او مدعي المرجعية ) عن هذا الشخص وهذه الاموال ؛ أجابني : انها خمس من الامارات ؛ الا ان السيد المعمم لم يقتنع بهذا الجواب ؛ وقال بانها اموال من المخابرات وليست خمسا من الامارات ... ؛ والتفت الي الشيخ قاسم الطائي قائلا : قد جاءني احد الاشخاص المرتبطين ببعض الجهات الاوربية , وطلب مني التعاون مع هذه الجهات الاوربية مقابل دعم مرجعيته , وقال له : انهم دعموا مرجعية (... ) في لبنان , ومرجعية ( ... ) في ايران ... ؛ الا ان الشيخ قاسم الطائي رفض العرض .
وهذه الحوادث تؤكد لنا تدخل المخابرات الدولية المشبوهة في عمل المؤسسات الدينية ومحاولة التحكم بها وباتباعها , والعمل على استبعاد العناصر الوطنية والدينية النزيهة ومحاربتها واقصاءها وتهميش دورها .
وفي احدى المرات قال لي الشيخ الطائي انه وطد علاقته بالكاتب عادل رؤوف , لان عادل رؤوف كان صديقا لأخيه الشهيد في عقد الثمانينات من القرن المنصرم , وطلب رأيي في ذلك ؛ فقلت له : ان علاقتكما لن تستمر طويلا , وذلك بسبب اختلاف الرؤى والافكار والتوجهات , ومرت الايام ؛ واذا بالشيخ الطائي يطرد الكاتب عادل رؤوف , وعندما سألت الشيخ الطائي عن السبب ؛ فقال لي : ان الكاتب عادل رؤوف قال مستهزأ : (( ان العمامة ك طاسة الجدوة ( الاستجداء) بس تقلبها ( تكلبها ) تصير طاسة جدوة ... )) واكمل قائلا : طردته وطالبته ب 1000 دولار كنت قد اعطيتها له .
نعم لم تكن كل تصرفات ومواقف وتصريحات الشيخ قاسم الطائي مدروسة وايجابية او تصب في صالح الاغلبية والامة العراقية الاصيلة ؛ فالعصمة لأهلها كما قيل قديما , وجل من لا يخطئ ؛ الا انه من اكثر رجال الدين حرصا على الهوية الوطنية والمصلحة العراقية , واشدهم حبا لأهل الجنوب والوسط العراقي .
ومما صرح به فيما يخص العملية السياسية : (( من واقع معرفتنا التفصيلية ومتابعتها لما يسمى بالعملية السياسية في العراق وجدنا ان لا جدوى منها لأنها لا تملك خيارات نفسها بقدر ما تنصاع لإملاءات غيرها من قوى إقليمية ودولية معروفة نبهنا في أكثر من مرة ومناسبة على ضرورة تحييدها ورسم حدودها خلال الإدارة العراقية الحرة التي لا تخضع لإملاءات وشروط قوى أخرى ولكن لا حياة لمن تنادي ))