أمضيت جزءاً كبيراً من وقتي خلال الشهرين الأخيرين في قراءة تقارير وتحقيقات حول ظاهرة التنمر الإلكتروني "الطقطقة"، الظاهرة التي زادت، بل ضاعفت السرعة المهولة لانتشار الأخبار عبر شبكة مثل تويتر في مضاعفة عدد المشاركين فيها.
أكره كثيراً هذه الظاهرة، وأكره أن أجد نفسي مشاركاً فيها، لا أعرف كيف تجرّنا لذةٌ ما إلى "الطقطقة" على عمرو أو زيد؛ لأنه وقع في "خطأ غبي"، أو "جاب العيد" كما يقال هنا في السعودية، هذه "الطقطقة" تدفع كثيرين منا إلى إظهار قدرته الرهيبة في اختراع نكات جديدة وطرائف فريدة، ويزيد من توهجها كم التفاعل معها من قِبل متابعينا، سواء بعبارات القهقهة أو حتى الرموز التعبيرية الضاحكة، ناهيك عن الرقم الكبير لعدد مرات "الريتويت"، وهذا كله خطأ.. يجب أن يبقى الصوت الذي يقول في داخلنا: "هذا خطأ" مرتفعاً، ما لم فإننا سننسلخ من إنسانيتنا.
الجولة التي أشرت إليها ابتداءً قادتني إلى قصص كثيرة لحالات انتحار أقدم عليها بعض من مورست عليهم "الطقطقة"، إحداهن انتحرت بسبب السخرية من سمنتها، وقضايا أخرى ما زالت في المحاكم ابتدأت من حالة تنمر عبر الإنترنت، الأمر الذي جعل فرض عقوبة على من يمارس التنمر الإلكتروني محل دراسة في كثير من الدول، كما بات هناك مبادرات اجتماعية ونفسية لمكافحة ومعالجة هذه الظاهرة، إحداها تلك التي أطلقتها مونيكا لوينسكي، وأشارت إليها في حديثها على منصة تيد حول معاناتها التي لقيتها بعد قصتها الشهيرة مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون.
ويبقى أكثر ما أمتعني في جولتي البحثية أرشيف مقالات وموضوعات صحيفة نيويورك تايمز حول ظاهرة التنمر الإلكتروني، والذي أنصح المهتمين بالاطلاع عليه، فهناك بإمكانك الاطلاع على دراسات وأبحاث ومعلومات وإحصائيات نفيسة، تخيل أن هناك بحثاً يتساءل: "هل يمكن للبوتات (حسابات تويتر التي يمكن برمجتها آلياً) أن تكافح التنمر الإلكتروني؟"، وهذا يقودني إلى التساؤل: لماذا لا تحظى هذه الظاهرة الخطيرة - لاحظ أن نتيجتها قد تكون الانتحار - بربع هذا القدر من الاهتمام في صحافتنا ووسائل إعلامنا؟
أحد الأبحاث يقترح عليك في حال تعرضت للتنمر الإلكتروني أن تشارك أيضاً بقدر من السخرية من نفسك، بأن تحوّل الأمر إلى نكتة تحرف تماماً مسار التنمر الإلكتروني وتحيله إلى فقاعة في الهواء، ولعل هذا ما نجح فيه الممثل السعودي الكوميدي حبيب الحبيب حين نشر فيديو يتهكم فيه من نفسه عقب حالة التنمر التي كادت تبتلعه بعد وضعه يده على كتف الملك سلمان بطريقة استهجنها حارسه الشخصي.
امتص حبيب الحبيب تنمر الآلاف بروح رياضية نالت إعجاب كثيرين، فقد جاوز عدد من أعادوا تغريدته 35 ألفاً، ولم يعد أحد "يطقطق" عليه البتة، بينما ما يزال كثيرون "يطقطقون" على آخرين سواه منذ فترة طويلة.. أفلح الرجل في تقديم درس عظيم للآخرين في كيفية إدارة الأزمات.
وماذا عن واجب أقارب أو أصدقاء ضحية التنمر الإلكتروني؟ ما الذي بوسعهم صنعه؟ تلك زاوية أخرى لا تقل أهمية عن غيرها، يرى أحد الأبحاث أنه من الواجب على أقارب الضحية التعاطف معه ولو بالكذب، ويضرب مثالاً على الشخص الذي يصفه الآخرون بالقبح مثلاً؛ فإنه من الواجب أن يؤكد له أقاربه أنه على العكس تماماً يتمتع بلمسة جمالية ليست لدى أحد، وإن كانوا على يقين تام أنهم يكذبون، فإنهم يكذبون لينقذوه من انتحار محتمل!
أستطيع القول اليوم إننا بتنا بحاجة ماسة إلى أخذ هذه الظاهرة على محمل الجد، وإطلاق مبادرات فعالة وبناء حصون نفسية واجتماعية تحول دون وقوعها، والاهتمام بالدراسات والأبحاث التي تسعى لعلاجها بأفضل وأسرع طريقة، ونحتاج قبل هذا كله إلى الصدّ عن أولئك الذين يقدحون الشرارة الأولى في كل حالة تنمر، فلو لم نصفق لهم لخجلوا من أنفسهم وتواروا عن الأنظار.