ان ظاهرة غياب الهوية العراقية الحقيقية , وضياع البوصلة الوطنية الاصيلة ؛ ليست وليدة اليوم , بل هي قديمة قدم التاريخ , اذ ان اغلب الذين حكموا بلاد الرافدين ليسوا من اهلها او كانوا يفضلون السلطة على الامة , ويقدمون المال والنفوذ على مصلحة العراقيين والعراق ... ؛ نعم كان هنالك حكام وشخصيات عراقية عشقوا العراق وعرفوا قيمة بلاد الرافدين الا انهم قلة قليلة , ولم تسعفهم الظروف للنهوض بهذا البلد العظيم , وحاولوا غرس حب الوطن في نفوس العراقيين الا ان قوى الخط المنكوس كانت لهم بالمرصاد .
ومن الواضح ان قوة الامة تكمن بهويتها الحقيقية واصالتها التاريخية ؛ وايمان المواطنين بها , ومن ثم الذود عنها وحمايتها , وبخلاف ذلك فان الامة لا محالة خاسرة ومتقهقرة ومدمرة ؛ اذ ان ضياع الامة بضياع هويتها وتاريخها وامجادها وقدراتها وطاقاتها ... ؛ وان تشويه مفهوم الامة العراقية , وتغييب العقل العراقي , والحس الوطني , وطمس معالم التاريخ الحضاري العراقي العظيم ؛ يتسبب بضياع حاضر العراقيين ومستقبلهم ايضا .
لذلك عمل الاعداء ولا زالوا ؛ على تغييب هوية العراقيين الاصلاء وتزييف تاريخهم العظيم , وارباك واقعهم , وتشتيت وحدتهم , وتضييع وتبديد خيراتهم وثرواتهم , وطاقاتهم البشرية , وذلك من خلال القوى الخارجية المعادية وقوى الخط المنكوس الداخلية ؛ وقد استخدم هؤلاء الاعداء الان وبالأمس القريب ؛ مختلف وسائل الغزو الفكري والتوجيه الاعلامي والثقافي المنكوس , وسيطروا على وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وكافة القنوات والفضائيات والاذاعات , ومراكز الانتاج الفني والثقافي والاعلامي ... الخ ... ؛ ومن المعلوم ان عمل هذه المواقع والمراكز والوسائل يتمحور حول نشر ثقافة الاستهلاك والجنس والمخدرات واللهو والضياع والتشرد واللعب , والهوس الرياضي , والادمان الالكتروني -(التعامل مع الأجهزة الذكية بطريقة غبية) - بين الشباب العراقيين , بالإضافة الى زعزعة الثوابت الوطنية ، وخلخلة المبادئ السامية ، وتلويث الأفكار النيرة ، وغسل الأدمغة العراقية ... .
ان قضية عشق تراب بلاد الرافدين وتقديس ارض العراق ؛ هي قضية تاريخية محورية في الثقافة العراقية الاصيلة ، ولعل الفارق الجوهري الذي من خلاله تميز المواطن العراقي الاصيل من الهجين والمهاجر الدخيل ؛ ان الاول يعشق العراق بكل تفاصيله , والثاني يكره العراق والاغلبية والامة العراقية الاصيلة ... ؛ الاول يربط بين ماضي العراق وحاضره , والثاني لا يعرف سوى الحاضر ؛ لأنه منقطع الجذور واسلافه غرباء ... ؛ والعلاقة بين عشق العراق وانبثاق الهوية الوطنية علاقة جوهرية وضرورية ؛ فمن دون محبة الامة العراقية وعشق العراق ؛ من الصعب انبثاق الهوية العراقية الاصيلة .
و لبناء أمة قوية ، يجب أولا أن تكون هناك هوية وطنية واضحة المعالم ، بمعنى الإلمام بكل جوانب الوطن والامة وسبر اغوار تاريخها ... ؛ وعندما يناقش الكتاب الاحرار مسالة هذا المكون او ذاك وبيان الاخطاء التاريخية التي ارتكبتها هذه الجماعة او تلك ؛ فهذا لا يعني انهم يركزون على ما يشتتنا، وتجاهلنا ما يجمعنا ... ؛ بل لانهم يعرفون جيدا ان تبيان الحقائق التاريخية والاحداث الواقعية يخدم مشروع بناء الهوية الوطنية الحقيقية الجامعة ويساهم في مراجعة مكونات وجماعات الامة العراقية لحساباتها وتصحيح اخطاءها التاريخية والانية ... .
نعم قد يمتعض الكثير من العراقيين الاصلاء من واقع العراق , وهذا الشعور رافقهم منذ القدم بسبب سيطرة الحكومات الاجنبية الغاشمة ومن ثم عملاء واذناب الاجنبي ... ؛ ولا زال هذا الشعور الوطني مستعرا في صدورهم ؛ فالواقع الخدمي والصحي والتعليمي والتربوي والامني والاقتصادي والبيئي والاجتماعي والسياسي أصبح لا يطاق ، اذ تساوت الايام وتشابهت السنين بنظر العراقي الاصيل ؛ فما من جديد جوهري يغير الاحوال , وقد عبر عن هذه الحالة شاعرهم الكبير المتنبي اذ انشد قائلا :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
ولكن هذا الواقع المأساوي المر الذي وجدناه ولم نختره ، و الذي نتج بسبب عدة مقدمات تاريخية وسياسية طويلة و معقدة ؛ الا اننا يجب علينا رفضه اولا ثم محاولة تغييره ثانيا , وهذا هو الفرق الجوهري الذي يؤكد وطنية العراقي الاصيل و غربة الهجين الدخيل الذي يركز على السلبيات فقط ولا يدعو الا للخراب والدمار والعنصرية والطائفية والتبعية والذيلية بحجة القومية العربية او الكردية او التركية او بذريعة الاسلام او المذهب ... الخ ؛ اذ ليس من الحكمة والوعي أن نكرر نفس أخطاء الماضي القريب والبعيد ، فلنا في تاريخنا العراقي أمجاد وبطولات ومثلها من النكبات والهزائم والانتكاسات ... ؛ لذا يتحتم علينا أن نراجع أنفسنا على جميع الأصعدة والمستويات ، ونمر من مرحلة التباكي وسط الفيافي والنوح على الاطلال إلى مرحلة الاستيقاظ والاستعداد والبناء ، فلا يعقل أن تكون أمتنا العراقية بالملايين ولا نجد فيها قائدا عراقيا اصيلا يدعو لتوحيد صفوفنا , ولم شملنا , وردع عدونا , وصون بلادنا , وحماية ثرواتنا وخيراتنا , وتنمية وطننا ... الخ .
لا شك في ان تحامل الاعداء واجحاف الخط المنكوس وحقدهم على التراث العراقي العظيم ؛ كان سببا في ضياع الكثير من الحقائق التاريخية , والذي تسبب فيما بعد بضياع الهوية الوطنية الاصلية , ولعل الدمار والخراب الذي طال بلاد الرافدين والاراضي الشاسعة التي سلخت من العراق لصالح دول الجوار , بسبب ضياع الهوية الوطنية الحقيقية , والتمسك بالهويات السياسية المزيفة والعقائد المنكوسة والتي كانت السبب الرئيسي في تشتتنا , وضعفنا و فرقتنا ... ؛ وانا على يقين تام ؛ بأن الاجيال العراقية سوف تنزع عنها رداء الهويات المزيفة والعقائد الظلامية والرؤى السوداوية والطوباوية , وتلبس رداء بلاد الرافدين الجميل , فلابد للعراقيين الاصلاء من ثورة ثقافية وفكرية كبرى , طال الزمان ام قصر ؛ واذا ثار العراقي الاصيل ؛ فهو لن يتوقف وسوف يمضي قدما نحو التنمية والابداع والتطور والازدهار ... .
نعم نحن العراقيون الاصلاء ؛ امة قوية لا تموت ابدا , فمهما تجرعنا من الأحزان والمآسي وعلى مدار التاريخ ؛ بل ولا زلنا نتجرع من هذا الكأس مزيدا من التقتيل والتهجير والافقار والتشويش والتشويه والارباك والازمات المختلفة ... الخ ؛ نبقى اقوياء صامدون مبدعون ... ؛ وهذه الايام العصيبة التي تمر على امتنا العراقية في الواقع الحاضر بسبب التدخل الامريكي والبريطاني السافر في الشؤون العراقية وكذلك استغلال دول الجوار للعراق ؛ يجب ان لا تضعفنا عن العمل الجاد من اجل النهوض بالعراق وارسال رسائل التفاؤل الايجابي والمحبة الوطنية وقيم التكافل الاجتماعي والتلاحم الوطني , وايقاظ الشعور الوطني وبث روح الهوية العراقية الاصيلة الجامعة من جديد بين اوساط الامة العراقية .