الصديقة التي أرغب أن أقول عنها إنها علّمتني معنى الأمل، ودرّبتني على القتال في سبيل غدٍ أجمل، وساعدتني على اتخاذ الحلم درعًا يدرأ عني هجمات هذا العالم الرمادي الذي يتربص بنصيبي من الألوان والحلم والأمل. لكنّي لن أقول هذا فقد كانت قُدراتي أقل من استيعاب كثرتك، قامتي أقصر من امتداد اليأس، وأنا أجبن من ردّ الأيدي التي تتطاول على أحلامي وتخنقها، وأبطأ من سرعة انتشار الرماديّ... كنتُ حمولتك الثقيلة التي تجرّينها معك نحو خنادق النجاة... لكنّك كنتِ لي عكس كل هذا، فوق كل هذا، أعظم من أن ينال منك شيء من هذا.
يلمع الحُب في عينيك، وتصعد إلى صوتك القصائد، منذ سنين تأخذيني من عُزلتي إلى المدى المفتوح الذي تعيشين فيه. حين يسألني عنك أي أحد أقول: (عرّابتي) واستلذُ بهذا، ينتشي صوتي حين يُشير إليك باعتبارك من أعظم ماعرفت، وأحب مَن عرفت.
اتذكر المرة الأولى التي رأيتك فيها، وقد كنتُ قبلها أعرف اسمك جيدًا من الزميلات والصحف... في قاعة مناقشة كنتِ تسرعين الخُطى باتجاه الباب الذي يُغلق تلقائيًا وكأنك تسابقين الباب. سألتُ الزميلة التي دلّتني عليك: هذه أمل؟
فقد كان مظهرك أصغر من تصوراتي عنك، تصورتك امرأة كبيرة عمرًا وشكلًا كحضورك الكبير في المشهد الثقافي والأكاديمي وفي قلوب الناس. لكنّي رأيتُ طفلةً تتصرف بعفوية آسرة، صبية بشعر طويل وخُطى متسارعة ودهشات لا تنضب.
في المرة الأولى التي وصلني فيها صوتك، كنتُ أمام المرآة اتحضر لمناسبة و وردني اتصالك، عرّفتني ببنفسك ورتبتِ معي موعدًا لتسلميني كتابًا مُرسلًا إليّ بواسطتك. اتذكر كيف سمعتك أمام المرآة، وأنا أنظر لوجهي وصوتك معي... استحضر هذا الموقف الآن بشكل رمزي، اتذكره وكأنه إشارة إلى أن حضورك سيجعلني دائمًا أجمل، حضورك سيعكس لي صورةً محسّنة عني، وأجمل الأصدقاء هم الذين لا نحبهم ويحبوننا فقط، بل نحب أنفسنا في حضرتهم أيضا... نحبنا لأننا نبصر ذواتنا بأعينهم، ونتبصر بنا من خلال قلوبهم.
ُثمّ التقيتك، في مكتب أستاذة بحثت عنّي من قبل حين درّست مقررًا يخصها نيابةً عنها ولم أقابلها، قالت لي في ذلك اللقاء السريع: (أخيرًا شفتك، أنا ولّعت كشاف أدور عنك) في إشارة منها إلى توغلي في الغياب... ولم تعلم ولم أعلم أن حضورك يومها كان افتتاحًا لاستحضارك لي في سياقات أرحب... انتشلتني من خجلي وهروبي الدائم، من صمتي الطويل وتمسكي بالهامش، من تعريفي لنفسي باعتباري من نباتات الظل. معك وبواسطتك تعرفتُ إلى صوتي، معك وبواسطتك حررتُ نفسي من سجنها في هامش الخوف والارتباك، معك وبواسطتك حضرت الأمسية الأولى في حياتي، صغت المداخلة الأولى، قرأتُ ورقتي النقدية الأولى، كتبتُ مقالي الأول، نشرت أول بحوثي... الخ
موضوع بحث الماجستير كان من اقتراحك، أنجزته بفضل المراجع الكثيرة التي جلبتِها لي دون طلب مني، بحث الدكتوراه الأول كان من مراجعك أيضا... كل نجاح لي يهتدي بك، كل إنجاز يُضاف لاسمي يكون بإضافةٍ منك...
في كل لقاء يجمعنا لا تكتفين بفيض الحُب الذي يُضفيه عليّ حضورك، بل تستبقين هذا بوردة... أكثر من وصلني بالورد أنتِ، تُنبتين الفرح في وقتي وتوقفين وقتك لرعايته وسقايته وتتركين لي القطاف.
كلما التقينا أُخبر أختي الصغيرة أني التقيتك، فتقول لي: (ياحظك) ففي لقائها اليتيم بك أحبتك كما يحبك كل الناس، تقول إنها تذكر تفاصيل بيتك جيدًا، تذكر الغبطة التي غمرتِها بها، تذكر الفرح الذي حشدتِه بين يديها، تذكر الطفلة التي أتاحت لطفلة مثلها مباهجًا لا تنضب وأوسعت في الذاكرة حيزًا لذكرى حميمية وعظيمة....
لو تعلمين ما تعلمته منك، لو تدركين مقدار ما أضفته لي، لكنك لن تعلمي ولن تدركي... العظماء لا يدركون دائمًا ما هم عليه، يستمدون عظمتهم من ضعف إدراكهم هذا، فيمنحون ولا يشعرون، يعلّمون دون ترتيب منهم، يأخذون بأيدينا دون أن يقولوا إن لهم أيادٍ علينا...
لكنّ حقك عليّ أن أقول، أن اعترف بفضل أياديك... أياديك التي لا يبلغ مبلغ عطاءاتها كل الكلام. قولي لأياديك أن تجود عليّ بعذرٍ اتسامح بواسطته مع عجزي عن اختزالك... أنتِ يا من يختزلُ حضورها كل الأشياء الجميلة التي تحدث لي.