Image title

مرة أخرى تسري حمى (الكرسماس) .كأنهم يحثون العام القديم على الانصراف ، يريدون عاماً جديداً واحتمالات جديدة .

كانوا أيام وثنيتهم يُغالبون كآبة البرد والظلام بالصخب والعربدة .ولما جاءتهم المسيحية خلطوا بعض تلك العادات بالطقوس المسيحية ، لذلك قدموا مولد السيد المسيح عليه السلام أو أخروه حتى يتفق مع نهاية العام . 

قد لا يكون حقيقة ما وصفه الشاعر (تي.أس.أليوت) في قصيدته "رحلة المجوس" - الملوك الثلاثة الذين رأوا النجم ، كما رووا ، فتبعوه حتى أوصلهم إلى مهد الطفل الوليد في بيت لحم - ولكنه صحيح بمعنى آخر :

(كانت رحلة فظيعة ..
في أسوأ وقت من السنة ،
حين يحسن بالمرء ألا يخرج في سفر.
الدروب وعرة ، تصعد وتهبط ..
والطقس قاسٍ كدر .
في عز الشتاء .
رواحلنا أضناها الجهد .
وتشققت أخفافها من البرد 
فسقطت من الإعياء على الثلج
كنا أحياناً نوبخ أنفسنا 
أننا قمنا بتلك الرحلة
ونتحسر أننا تركنا قصورنا الفخمة ..
على سفوح التلال المشمسة
والعذارى في ثياب الحرير 
يحملن كؤوس الشراب المترعة )

هكذا فعلت أوروبا مع السيد المسيح عليه السلام ، جعلوه رمزاً يناسب مزاجهم وظروفهم . وُلد في عالم الشرق الدافئ المضيء ، وكان هو نفسه ضوءاً ، فأخذوه رمزاً وخلطوه بما عرفوا من رموزهم القديمة . جعلوا ميلاده في عز الشتاء ليبددوا كآبته ويدفعوا الخوف من المجهول و يملأوا ذلك المفْصل الغامض بين العام المنصرم والعام الوليد بالصخب وافتعال الفرح .

هذا الموسم فيه أصداء من ذلك الموسم قبل نحو ألفي عام ، كما حدّث الرواة ووصف الشعراء . الصخب والعربدة والتذكر والنسيان ، والحانات والكنائس .

يُؤججون الناس في هذا الموسم ليأكلوا أكثر ويشربوا أكثر ويشتروا أشياء لا يحتاجون إليها ، تزدهر التجارة في هذا الموسم .
القطارات تغدو وتروح ، تجلب أناساً من أماكن بعيدة إلى ذويهم ..وتحمل أناساً إلى أقارب لم يروهم طوال السنة.

في محطات السكة الحديدية خاصة-في مفترق الطرق- جوقات من رجال ونساء وأطفال يجمعون المال لأعمال البر ، يغنون ترانيم عيد الميلاد بأصوات جميلة ، ويكشكشون بعلب في أيديهم على وقع الغناء.. يقف المارة برهة يستمعون إليهم ، ويضعون في العلب البنس والبنسين ، وربما الجنيه والجنيهين .

(ماري كرسماس) .. ( ماري كرسمان)

يزداد كل شيء في هذا الموسم ، القسوة والرحمة والجشع والكرم والتذكر والنسيان .

سوف تمتلئ الكنائس بالمصلين في هذا الموسم ، في بلاد أكثر من ثمانين بالمائة لا يدخلون الكنيسة طوال العام . يرسلون بطاقات عيد الميلاد لأناس لا يتصلون بهم عادة ، وتتجمع أشتات الأسر المبعثرة .

يجتمعون حول غداء يوم الكريسماس وكانوا قبل أن يعرفوا الديك الرومي يولمون بالوز والبط ، يلي ذلك حلوى عيد الميلاد التي يصنعونها من الزبيب والتوابل ..

يسرفون في الأكل والشراب والضحك . بعد الغداء يأخذون الهدايا من بين أغصان شجرة عيد الميلاد ، ينزعون عنها في ضوضاء الأغلفة الجميلة الملونة = الأطفال خاصة والكبار يعودون أطفالاً .

شجرة عبد الميلاد هي أيضاً تقليد جديد عندهم منذ العهد الفكتوري . ويقال إن الأمير (ألبرت) زوج الملكة فكتوريا هو أول من فعل ذلك ، وهي تكون إما شجرة صغيرة لم تكبر بعد أو فرعاً من شجرة ، من النوع الهرمي المخروط ، الذي يظل مخضراً صيفاً وشتاءً.

يلفون غصونها بأشرطة ملونة ، ويضيئونها بثريات كهربية صغيرة مختلفة الألوان ، ويضعونها في الغالب عند النافذة بحيث يراها السائر في الطريق ..وهو بالفعل منظر جذاب أن تكون الأرض مغطاة بالجليد والظلام دامس ، وتنظر فترى هذه الأضواء الجميلة تلمع من نوافذ البيوت .

بالليل يجتمعون أمام التلفزيون ، وتغلب عليه في هذا الموسم قصص الخيال والفكاهة والرسوم المتحركة ، مثل (سنو وايت والأقزام السبعة) و (الأميرة النائمة) .. وهو موسم لقصص (شارلز ديكنز) خاصة قصته (ترنيمة عيد الميلاد) التي يتحول فيها (سكروج) البخيل إلى إنسان كريم رحيم بفضل معجزة عيد الميلاد .

يعطون أكثر في هذا الموسم ، يدفعون أكثر للعامل الذي ينظف زجاج النوافذ و الزبال والذي ينظف المدخنة وبائع اللبن والصبي الذي يحضر الصحف ، ويجودون أيضاً بالبنس والبنسين والجنيه والجنيهين لأطفال العالم الفقراء في البلاد البعيدة ومن بينهم أطفال المسلمين ..

"عيد الميلاد قد أقبل ..
والوزُّ قد اكتنز بالشحم..
ضع من فضلك بنساً.. في قبعة الرجل العجوز
إذا لم يكن عندك بنس ..
فنصف بنس يكفي ..
ورن لم يكن عندك نصف بنس.
فعليك بركات الله السلام"

بتصرف . الطيب الصالح في كتابه (خواطر الترحال)