قال الممثل الامريكي الافريقي داني جلوفر : (( اليوم ، أصبحت ديكتاتورية الإعلام بديلاً للديكتاتورية العسكرية ؛ تستخدم المجموعات الاقتصادية الكبيرة وسائل الإعلام وتقرر من يمكنه التحدث ومن هو الرجل الطيب ومن هو الشرير … )) .
يمكن للدكتاتورية و التسلّط أن يتخذا عديداً من الأشكال ، فالدكتاتورية الاعلامية لا تقل ضررا عن التسلط والهيمنة العسكرية على هذا المجتمع او ذاك ؛ وكما يستخدم الطغاة الدكتاتورية العسكرية والسلطوية لإذلال الناس والتنكيل بهم ؛ كذلك تفعل المافيات الاقتصادية والعصابات المرتبطة بالمخابرات الدولية المعادية والمسيطرة على وسائل الاعلام والفكر والثقافة ؛ فباستطاعة تلك الوسائل تحويل الرجل الكفوء والنزيه الى تافه وفاسد , والوطني الغيور الى عميل مرتزق , والشجاع النبيل الى جبان ذليل ... الخ ؛ وذلك من خلال الإعلام ونشر الإشاعات والافتراءات وحبك المسرحيات ، و إطلاق التسميات السلبية والتنمر والسخرية ... .
و يتعرض الناس للدكتاتورية العسكرية والاعلامية لمختلف الاسباب ؛ اذ قد يكون التسلط بسبب العِرْق، أو الدين، أو التوجه السياسي , او التعصب , او العنصرية , او الاستهداف المباشر لنهب الثروات والخيرات او اجراء التغييرات الديموغرافية ... .
ومن الواضح ان التسلّط بكافة انواعه ؛ يجعل حياة ضحاياه بائسة ؛ حيث يهدم ثقتهم بأنفسهم واوطانهم , ويدمر إحساسهم بالأمن والاستقرار والوطنية , ويشعرهم بالضياع وفقدان الهوية ؛ كما يسبب لهم الحزن والوحدة وتدني احترام الذات والخوف والقلق وضعف التركيز؛ ويمكن أن يقود إلى إيذاء النفس والاكتئاب والأفكار الانتحاريّة، وفي بعض الحالات إلى الانتحار ؛ وقد عاصرنا الكثير من حالات الانتحار والجنون والامراض النفسية التي تعرض لها المواطنون في حكم الطاغية صدام .
إن المكارم والقيم السائدة في المجتمع العراقي ؛ كثيراً ما افسدتها تصرفات المحتلين والمرتزقة والعملاء والمرضى الغرباء والدخلاء ... فالأشخاص ذوو النفسيات المتسلّطة (الفظّة) عاثوا الفساد في بلاد الرافدين العظيمة وهم يحسبون انفسهم انهم مصلحون كبار ...!!
خصوصا بعد ان استلم بقايا العثمنة ورعايا الانكليز الغرباء العملاء مقاليد السلطة المطلقة في العراق عام 1920 , فأظهرت الفئة الهجينة كل مخزونها من التسلط والاجرام والارهاب ، بكل مخزونها من الفظاظة والغلظة والفسوة والعنف ، على الاغلبية الاصيلة وباقي مكونات الامة العراقية .
حتى سادت مظاهر العنف والتسلط والدكتاتورية الاعلامية وسائل الاعلام والثقافة في العهد الصدامي الدموي الاسود ؛ وكلنا يعرف ان النظام الصدامي والطغمة الهجينة ارادت من الشعب والامة العراقية دعم العصابة التكريتية الصدامية الحاكمة ومساندة قراراتها الهوجاء وافعالها الارهابية والتخريبية ؛ ولتحقيق هذه الاهداف الشيطانية , حاولوا السيطرة على أشكال التواصل الاعلامي والثقافي والاجتماعي من خلال الرقابة والدعاية وتغلل الاجهزة الامنية في كل مرفق من مرافق الحياة ؛ وقد شمل ذلك السيطرة على الصحف والمجلات والكتب والفن والمسرح والموسيقى والأفلام والإذاعة ؛ اذ تمسك النظام البائد بشيئين مهمين هما : القوة المفرطة , والإعلام الموجّه , باعتبارهما يقوّضان الرأي الآخر , و يتحكمان باتجاه تثبيت قواعد حكم النظام الدكتاتوري.
ومن المعروف أنه قد جُبِلَ البعثيون في حبّهم للبعث البائد وانتمائهم لصنمهم المعبود، ولصنمية الحزب الدموي، إذ كانوا ينظرون للحكم بأنّه الوسيلة الوحيدة لاستمرار حزبهم المتطرّف فكراً ومنهجاً وسلوكاً , وبالتالي كانوا بحاجة ماسّة إلى ترويج أفكارهم أو فرضها بالقوة من خلال الإعلام الموجّه.
و إن الصنمية التي مارسها الحزب في إقصاء الآخرين لم تكن لتخفى على أحد، إذ كان الإنسان في ظلِّ حكمهم لا يستطيع التعبير حتى عن مشاعره بل اضغاث احلامه , و لا بد له من تمجيد القائد فقط , إذ أنهم استعملوا آلة إعلامية كبيرة في بثِّ الخوف داخل نفوس العراقيين .
فبعد أن سيطرَ الحزبُ البائد على مقاليد السلطة وتحكّم بكلِّ مفاصلها لجأ الى خيارات إعلامية عديدة في تغيير ذهنية العراقيين وتفريغها من القيم الإنسانية النبيلة , إذ لم يكن قادراً على مواجهة الجماهير الواعية بوجهه الحقيقي البشع , لذلك سعى إلى التزييف والكذب في صياغة خطابه الإعلامي بتصوير قائده صدام التكريتي بأنه زعيم عربي قومي يسعى لاستقلال القرار العربي , بل وصل توصيفه في إعلامهم إلى أنه المُخلّص الوحيد للعرب من الاستعمار وبقاياه , وباني مجد العراق وعدو الإمبريالية والصهيونية والاستعمار , في حين كشفت التقارير الاستخبارية ومذكرات المنشقين عن هذا الحزب أن مجيئه للسلطة كان بتخطيط استخباراتي غربي بحت , وهو احد عملاء المخابرات الامريكية ، ولم يكن ذلك صعباً على جهازه الإعلامي الذي يتشكل من مجموعة من الكوادر الإعلامية البعثية والعربية التي كانت تعمل في صفوفه إبّانَ سعيه للوصول إلى السلطة، ومن الطبيعي أن يوظّف هذا الحزب المال العام لخدمة مخططه الإعلامي السلطوي المشبوه .
فبعد أن قام حزب البعث بالسيطرة على الحكم بصورة مطلقة سنة 1968م أصدر مجلس قيادة الثورة قانون المطبوعات المرقم (206) لسنة 1968م ، الذي نظّم عمل الإعلام ووسائل النشر بصورة عامة وفقًا لرؤية الحزب الحاكم وأفكار الحزب القائمة على العنف في مواجهة أي اعتراض أو اختلاف في الرأي، وأنيطت مهمة الإشراف على وسائل الإعلام والنشر إلى مكتب الثقافة والإعلام في القيادة القومية لحزب البعث ، الذي تولّى مهمة توجيه السياسة الإعلامية في العراق وتحديد ملامحها , وبعد استلام صدام التكريتي الحكم في العراق، حوّل الإعلامي المكتوب والمرئي لأدوات ناطقة بالولاء والتقديس له وحده ,إذ كانت صوره وحدها كانت تتصدّر الصفحات الأولى في الصحف ، وبداية البث التلفزيوني مع إشراقة كل شمس , وأصبح الإعلام العراقي بمثابة ثكنة عسكرية ، تنقل أخبار القائد والحروب والافكار والرؤى المنكوسة فقط ؛ وشاع شعار : (( للقلم والبندقية فوهة واحدة )) .
وبذلك فقد الإعلام إبّان سيطرة حزب البعث الى الأمانة الشرعية والموضوعية والحيادية لأنه إعلام مُسَيَّس من قبل قادة هذا الحزب لبث الخوف والرعب في نفوس العراقيين عبر تزييف الأخبار وتشوية الحقائق.
وأبرز مثال على الإرهاب الاعلامي وبث العنف الذي كان يمارسه حزب البعث مقولة : “للحيطان آذان” ؛ إذ روّج الإعلام البعثي بكلِّ قدراته لها حتى يضمن عدم معارضته أو حتى التفكير في ذلك , فكان الرجل يخشى أن يتحدثَ بما يسيء للحزب حتى مع أُسرته, ولكن التحوّل الأكبر في استعمال العنف داخل الإعلام كان مع تزعّم المجرم عدي صدام التكريتي نقابة الصحافيين العراقيين عام 1991،هذا المجرم الذي بدأ سلسلة جديدة من القمع والانتهاكات والطغيان، بحق جميع العاملين في هذا المجال، تضمنت اعتداءات جنسية على صحافيات وإعلاميات وعمليات اغتصاب وتعذيب وسجن وقتل صحافيين وإعلاميين وإعلاميات , وغيرها من الجرائم التي مارس فيها هذا الحزب وأزلامه عنفاً سياسياً ضد معارضيه , وضد الشعب العراقي بصورة عامة , لما يمتلكه هذا الحزب من أفكار دموية قائمة على العنف والتطرف وإقصاء الآخرين .(1)
و منع الشعب العراقي من الاستماع إلى الإذاعات الخارجية ولاسيما القسم العربي من الاذاعة الايرانية ؛ فقد جعل النظام الطائفي الهجين الاستماع إلى البث الإذاعي الأجنبي أمرًا غير قانوني , وكانت هذه محاولة للسيطرة على المعلومات التي يسمعها العراقيون عن الحروب الصدامية وغيرها , حيث كان النظام الهجين يعتقد أن الأخبار والمعلومات القادمة من خارج العراق تشكل تهديدًا للأمن او بالأحرى لأمنهم وسببا لانكشاف زيفهم وكذبهم وتفاهتهم ؛ إنهم قلقون من بث الإذاعات الأجنبية التي يمكن لبعض العراقيين الاستماع اليها , باستخدام أجهزة الراديو الخاصة بهم ؛ وفي بعض الاوقات ، بدأ النظام الطائفي الصدامي الاجرامي بالحكم على الناس بالإعدام او السجن لمدة طويلة جدا لاستماعهم إلى محطات إذاعية أجنبية ولاسيما الايرانية فقد يكلفك سماع محاضرة دينية - للدكتور احمد الوائلي من الاذاعة الايرانية في بيتك – حياتك او مستقبلك ...!! ؛ فكان يطبق الخناق الإعلام كليّا , ولم يكن يُنشر سطراً واحداً دون المرور بالدائرة الثقافية للحزب , التي تعمل على صياغة خطاب إعلامي عنفي يمجّد جزب البعث , ويزيف حقائق معارضيه.
ان أولئك الاعلاميين الاوباش وانصاف المثقفين والكتاب المرتزقة الذين يتقربون الى السلطات الهجينة المجرمة كانوا عبارة عن اشخاص انتهازيين متلونين نفعيين ؛ هدروا كرامتهم وباعوا شرفهم – ان كان عندهم كرامة وشرف اساسا - ؛ وقبلوا بالذل والتملق والخنوع والاهانة ومسح اكتاف الصداميين والبعثيين والتكارتة الانذال ؛ و هم كالكلاب التي تركض خلف الجيفة وامثال هؤلاء السفلة من سقط المتاع وحثالة الناس لا تليق بهم الكرامة , لذلك لم نكن نستغرب من سمسرة البعض منهم كالقواد سعد البزاز وعباس الجنابي ومنهم من كان يمارس دور الخادم الذليل والمتملق الخسيس الذي يضرب على راسه بالأحذية ( القنادر ) لقاء حضور حفلات المجرم الجرو عدي الكسيح ؛ ومما لاشك فيه ان دائرة المقربين تلك لا تضم الا النكرات والشواذ والمنحطين والسفلة و الحثالات والمرتزقة ... ؛ ولا يوجد في هذه الدائرة القذرة شريف و لا نزيه ولا كريم ولا ابن اصول ولا شخصية محترمة ... والذي يثير اشمئزازي احتفاء بعض الفضائيات المنكوسة بهذه الشخصيات التافهة والقذرة واستضافتهم كمتحدثين وشهود على الزمن الجميل ؛ بل ان بعضهم قد اكمل المشوار الاعلامي التخريبي المعادي للعراق والاغلبية والامة العراقية من خلال انشاء الفضائيات والاذاعات والمواقع والصحف والمجلات ومراكز البحث والدراسات ...!!
.......................................................................................................................................................
1- العنف السياسي وإرهاب السلطة 5/ الإعلام البعثي , إعلام سلطوي محرّض على العنف / محمد الخزاعي / بتصرف .