ومن اروع ما انشده الشاعر العراقي إسحاق بن حسان الخريمي في رثاء الشخص العزيز والشوق اليه ؛ قوله :
قَضى وَطَراً منك الحَبيبُ المُوَدِّع ...... وَحَلَّ الَّذي لا يُستَطاع فَيَدفَعُ
وَأَصبحت لا أَدري إِذا بانَ صاحِبي .....وَغودرتُ فَردا بعده كَيفَ أَصنَع
أَأَفني الحَياةَ عِفَّةً وَتجلدا ....... بِعافيَة أَم أَستَكين فَأَهلَع
بَلى قَد حلبت الدَهرَ أَشطرَ دَرّه ......فَأَبصرت منه ما يضرّ وَيَنفَع
فَأَيقنت أَن الحيّ لا بُدَّ مَيّت ...... وَأَنَّ الفَتى في أَهلِهِ لا يُمَتَّع
تذكرني شَمس الضُحى نور وَجهه .... فَلي لَحظات نَحوَها حينَ تطلع
وَأعددتُه ذُخراً لِكُلِّ ملمّة ...... وَسَهمُ المَنايا بِالذَخائر مولع
فقد رسم الشاعر صورة مؤلمة عن واقع الحياة وحقيقة الدهر وحتمية الموت والفراق ؛ وفي الوقت نفسه ذكر صور جميلة عن شمائل صاحبه المتوفى ؛ فبعد ان قضى عمرا معه مليئا بالذكريات الحلوة والمواقف المشرفة ... واذا بحلول الامر الخطير الذي ليس باستطاعة انسان دفعه الا وهو الموت الذي لا يميز بين الصغير والكبير ولا يفرق بين العدو والصديق ... وقد دهش صاحبنا الشاعر عندما اختطفت المنية صاحبه السند وصديقه المعتمد , ولم يعرف ماذا وكيف يصنع في هذه الحياة الصعبة والقاسية ؟!
اذ ان طريق الحياة وعر ولا يقطع من دون رفيق ؛ لذلك قالوا : الرفيق قبل الطريق ... , وعانى شاعرنا كما عاني معظمنا عند فقد الاحبة , وعاش مرارة الفقد والوجد , ونشبت الصراعات النفسية ؛ فهو محتار بين ان يصبر ويتجلد او ينهار ويهوى ... , الا انه عاد الى رشده وبما انه صاحب خبرة طويلة في الحياة ؛ عرف ان جزعه لا ينفع وايقن ان الموت حق وان الحي لابد من هلاكه , والفتى مهما طال عمره وتمتع بحياته وعاش بين اهله تأتيه المنية لا محالة , وهذا البكاء والجزع لا يرد الميت ؛ فلو أن البكاء يعيد من رحل لأرخصنا لأجل احبتنا ماء المقل ... ولكن هذا لا يعني ان شاعرنا نسى صاحبه الفقيد ؛ بل اصبح يرى نور وجهه البهي كلما سطعت الشمس ؛ وكيف ينساه وهو ذخره وسنده لكل ملمة وشدة ... الا ان سهم المنايا يعشق الكرام من الناس فيأتي اليهم سريعا .
من أصعب المشاعر التي تُسبّب الألم ، والحزن لقلوبنا هي اشتياقنا لأشخاص ، وأماكن لها مكانة مميّزة في نفوسنا ، مهما حاولنا نسيانهم إلّا أنّ حبّهم بداخلنا يمنعُنا ، فحنيننا لهم لا يمكن أن يختفي لأنّهم رسموا بداخلنا المعنى الحقيقيّ للحبّ ، والصداقة ، ورسموا معنى الوفاء، والصدق، ... وما اصعب حالتنا عندما يغزونا الشوق لمن نهوى ؛ ان كان من نهواه مسجى تحت الثرى ، ولا نستطيع وصاله و رؤيته .
احياناً يُرهقنا الشوق ويعصف بأركان قلوبنا ، و تتمنى لو أن من نحبه بجانبنا لنعانقه، ولكن لا شيء سوى الشوق والحنين فقد رحلوا بعيدا ... وكذلك يشعرك الشوق بأن الحياة ناقصة وغير مكتملة ، فالشوق هو : شعور مؤلم وحارق بفقدان شخص غالي ، أما الحنين فهو يرتبط بوجع الذكريات من خلال تذكر من يعزهم القلب ، وفي الذكرى حياة كما يقال ولكن اية حياة ؟ فشتان ما بين الحضور والغياب .
و الشوق كلمة مشتقة من الاشتياق وهي تعني الحنين والتفكير والإرادة بأن تعيش نفس تلك اللحظات التي تشتاق إليها ؛ و قد يكون ذلك الاشتياق الي مكان , وقد يكون الي زمن محدد , او يكون لشخص ما ؛ لم تعد تراه الان او لم يعد الوضع كما كان سابقاً بيننا ؛ فتشتاق أن يرجع بنا الزمان لتلك الايام واللحظات ؛ وعندما يأتي المساء تهتاج المشاعر ويشتاق القلب الى من يُشبهه، الى من أعطاه الحب والصدق والمودة ، ولمن ترك بصمة مميزة في حياتنا واحتل مكانة في قلوبنا ؛ ومهما شغلتنا الحياة وحاولنا نسيانه لا نستطيع ؛ فمن الصعب ان يختفي ذكره وتمحى ذكراه لأنه رسم في داخلنا معاني الحب والصدق والوفاء والاخلاص ؛ لذلك نبقى نشتاق لأشخاص كانوا بجانبنا ثم فرقتنا الأيام رغمًا عنا ودون ارادة منّا ، فيصبح العالم كأنه فارغ لا شيء فيه يعجبنا سوى تلك الأيام الخوالي .
إنها حاجة في داخلنا تعيدنا دائمًا إلى لحظات معينة في حياتنا ، وإلى أشخاص معينين لا يمكن نسيانهم ، هذا هو الشوق الذي لا يمكن التغافل عنه أو كتمانه ، فمهما فرقتنا الأيام والسنين، ومهما كان البعد طويلا ، إلّا أنّ هذا لن يمنع ولن يقلّل من مدى وحرارة اشتياقنا الى احبتنا الذين غادروا الحياة واخذوا معهم اجمل الذكريات وانبل المشاعر والاحاسيس ... .