اليوم أنا على حافة الأربعين .. أترقب كيف سأعَبِّر عن مرحلة هي الأبرز في حياتي - كما أظن- وكما كتبت عن الكهولة والشباب .. وعن الصبا والفتوة .

لكن على مشارف الأربعين تزدحم الأمور بداخلي .. ومن حولي .. كل شئ مرَّ .. كل خبرة .. كل لحظة بطعمها .. بأثرها .. كله يتزاحم في مخيلتى وعلى سن قلمي .. ثم لا يلبث كل هذا يزول، كأنه لم يكن .. ويبقى شامخا أمامي السؤال .. حل حقا عشتُ أربعين عاماً !

أنا من كنت بالأمس القريب ذاك الفتى اليانع الشبق للحياة .. الشغوف بعمقٍ للغوص في دهاليزها؛ من كنت منذ سويعات - في شعوري- ذلك الشاب قوي الجهد .. حثيث السعي .  كثير الطموح .. بلغتُ الأربعين !!

كنت أنظر لهذا اليوم .. كيوم بعيييييد حتى الأمس .. "بلغ أشده"! .. ما كنت أنتظره .. كأنه لن يأتي، لا أدرى هل ارتباط الرقم بمعانٍ مثل النضوج والعقل والثبات والاستقرار .. وبمعنى الكِبَر .. هل هذه الخواطر كانت لدي فقط؟! .. أم أنها حقيقة ! .. هل هي هكذا لدى الجميع !

على مشارف الأربعين .. أشعر أنني عدت ذلك الطفل الذي تمنيته منذ سنوات .. أحس أنني أنظر للأمور بمنظور ذلك الطفل .. الذي تتساوى في عينه الأشياء .. الحزن والألم والفرحة والبهجة.. النجاح والإخفاق .. الجد واللهو .. لحظيات ترتبط بالموقف .. ليس عن زهد أو براءة -لا نعود أبرياء بعد البلوغ -، لكن بقناعة أن كل شئ سيمر .. اللحظة ستمر بشجنها وعمقها وأثرها.. وعليك أن تلتفت، تعيش وتنطلق .. في اللحظة التي بعدها !

خبرات الأربعين .. ليست كما تبدو .. لستَ بتلك القوة التي تظهر للآخرين .. صلابة .. عمق .. حكمة .. قدرة .. الخ !

تعلم في قرارة النفس أنها قشور .. لم يعد ما بداخلك غضاً.. لكنه ما زال هشاً.. ما زلت تهاب المواجهة في كل مرة .. مع ما تبديه من جرأة .. ما زالت تقلقك المتغيرات والظروف .. مع ما لديك من خبرة .. عدت تؤرقك النهايات .. مع كل ما تبذله من جهد .. كتلميذ ينتظر النتيجة .. يضنيه الإنتظار .. ومع ذلك يخشى ظهورها..

ما زال لديّ الكثير والكثير لأحققه .. أنجزتُ الكثير .. وما بقي أكثر وأضخم .. أحيانا أشعر بالتعب .. تسرب الطاقة .. الفتور .. لكني لم أنجز الأجمل بعد .. هل هو الطموح؟ .. ربما الطمع .. ما أراه أن الإنجازات تبهت مع الوقت .. لابد من فعل شئ ما جديد .. دوما!

كيف أنجزتُ ما أنجزت ومتى ؟ كيف مَرّ .. أشعر أن هناك مرحلة من عمري مفقودة .. مذ شببتُ عن الطوق .. لعلها منذ خمسة عشر عاما .. أين ذهبت هذه السنين .. لم أشعر بها حقاً .. أحداث تترى .. وماراثون كبير .. كنت أجري فيه ولا ألتفت .. فقط عيني على علامات التجاوز .. علامة لدى التخرج .. علامة عند الحصول على عمل .. علامة عند الترقي .. علامة عند الزواج .. امتلكت سيارتي الأولى .. صار عندي منزل .. شهادات دراسيه .. اعتمادات تحفيز .. تقدير وتفوق واجتياز .. صرت أبا ..أصبحت خبيرا ..  صرت وصرت  .. هل صرت مرموقًا؟؟! ياللهول .. كيف فات كل هذا .. ومتى .. لماذا ألهث الآن هكذا !!


أتساءل بصدق.. هل حقا استطعت أن أصل إلى الأربعين .. هل فات كل هذا الوقت !

هل مررت بكل تلك الأحداث؟!

هل قمت بكل هذا فعلاً ..

هل ما زلتُ بخير ؟!

أعوامٌ في حسباني طويلة .. وعلى ما فيها من صعوبات ومشقة وامتحانات .. ونجاحات وكبوات..  إلا أنها في النهاية مليئةٌ بلطف الله ورحمته وفضله وجميل منّته وجزيل عطائه .. سبحانه .. أعظم دروسي فيها .. أنه لا شئ يدوم .. وأن في جوف كل محنةٍ منحا كثيرة .. وفي باطن كل حزنٍ وصعبٍ ما يهونه تلقاءيا .. وأن مآلات الأحداث ليست أبداً كما تبدو في البداية .. وليست دوماً كما نحب .. لكنها دائما وأبداً .. هي الأفضل ..

 أقدار سير في الحياة نجوبها

طاشت لها الأحلام بالألبابِ

نغدو نروح محيرين كموجةٍ 

تلهو بنا  في رونق خلابِ

حتى تذوب على الرمال وتنحسر

غيضت وتبقى طينة كيبابِ !


في الأربعين أشتاق لكل شئٍ بسيط .. لحضن أمي باتساعه .. بحنانه .. بطمأنينته التي تتسرب مع مسارات الحياة ..ثم بلحظات قليلة معها .. وحضن ودعوة .. كأن كل شيء أعيد شحنه !

أهفو لحديث أبي الشيق - الذي ربما سأبدي اعتراضي عليه-  وأنا ارنو إليه في صمت وتركيز .. . ثم أذهب لأحدث بحديثه أقراني مدعياً الحكمة !!

أحن لجلسة سمرٍ ليليلةٍ مع إخوتي .. نضحك في صفاء .. ونتبادل الترهات في نقاء .. نتفق ونختلف ونهمس ونصرخ .. ولا يؤثر ذلك على حلاوة اللقاء ..

أفتقد أصدقاء بعينهم .. كانوا هم ملح الحياة بأسرها .. كل في مرحلته .. لكنهم سكنوا من الروح قصوراً لو علموا با ما بها .. لأفتقدوها هم .. وتفقدوها ! 

أستعيد رونق تلك الهمسات الرقيقة المختطفة .. والنظرات المسترقة المبتسمه ذات المعاني .. نبضات الفؤاد على ذلك الشاطئ البعيد .. مناجاتي للبحر .. مناداتي للقمر.. كتاباتي الأولى وانا أعتصر الحروف من زيتونة قلبي البكر ..  يرتجف القلب من حرارته كما كان يرتجف تلك الأيام .. اقرأ الأن ما كتبتُ وقتها .. أبتسم لركاكته وسذاجته .. وأمضي مؤمنا بصدقه مستدفئا بذكراه.


أنظر لما تعلمته على مدى سنوات العمر .. في مدرسة الحياة .. يأخذنى الكم لوهله .. ثم لوهله أخرى .. أود أن لو لم أتعلمه .. يكفي أن تنظر لنفسك .. كيف صرت مؤطراً بعد أن كنت عفوياً جداً.. محدداً وقد كنت منطلقاً .. حاداً في تعاطيك للأمورموجهاً .. وقد كنت دمثاً رحباً .. وربما مصطنعاً بعد  أن كنت حقيقياً جداً .. نسمي هذا خبراتٍ ونضج .. وذاك رقة صبا .. وزهو حداثة .. ليتنى ظللت حدثا !!

الشيب! .. خطوات الزمن البيضاء ..  تهرع على ذاك البساط الأسود المجعد .. مخترقة حواجز اللبِّ والروح والمشاعر .. وكأنني أتجاوز سنوات ضوئية .. لا سنوات العمر .. 

ولقد بكيت على الشباب ولُمتي .. مُسودّةٌ ولماء وجهي رونقُ

لا أدرى أهي للوقار أم للفناء أقرب ؟! خطوبه البيضاء تبرز بالسؤال.. ربيع العمر أم خريفه ؟ هل توحي بأنني على مقربة من نهاية الماراثون .. أم تعني أنني على وشك التربع على قمة ما .. حيث يظن الرائي خطوط الشيب تاجا من الحكمة والعمق .. أي تاج وأي قمة .. هراء!

ومن يلح وخط الشمط .. في فَوده فقد نُعي

أصعب ما في الأمر .. شريط الذكريات الذي يرتبط كل منها بعددٍ من الوجوه والمشاعر .. لا يشغلني عدد من عرفت .. ينهكنى كمّ من فارقت .. لحظة فراقٍ واحدة .. تبهت على سنواتٍ من الوصل .. كل من تطوف صورته في مخيلتى كأن سمته انطبع على جزء من روحي .. واصطحبه معه ساعة الرحيل .. كأنه هدية عزيزة له .. جزءٌ من الروح !

ولمين هنهدي العمر كله  .. وكل لحظة فيه لحد

أود لو أستدعيهم جميعا .. في آن واحد .. لأروي حنيني .. وأجمع روحي بجوفي .. ولو للحظة!


أنظر لأيامي القادمة .. أشعر بارتجافة الطالب المغترب في مقتبل عمره .. في أول أيام أغترابه .. كل شئ مألوف مكرور .. رغم ذلك كل شئ يبدو غريبا .. لستَ جزءا من هذه الأشياء .. لم تعد هي أيضاً جزء منك، لكن شغفك بما هو قادم يدفعك .. بنظرةٍ مختلفةٍ قليلاً لطبيعة الأشياء .. تعلم أنك بدأت منذ فترة تُلبس الأفعال والأحداث رداءا من الوقار والسكينة، لكن نزق الطفل بداخلك يغلبك تارةً، وتلجمه تارة .. 

كل هذا - الوقار والسكينة والشغف والنزق- لم يعد يدفعك فقط للوصول إلى نجاحات .. بل يجعلك تبحث وتؤكد على أثرك .. في البيت في العمل مع الأصدقاء .. في مسجد الحي .. في مقهى الشلة .. في اجتماعات العائلة .. صرت حريصا على أن تقيس أثرك الحقيقي .. بلا تصنع .. وبدون انتظار تسليط الأضواء عليك .. وبلا انتظار تأكيدٍ ما أو امتنانٍ على هذا الأثر .. أحيانا تَصدق النية .. وأحيانا لأنه واجبك فقط .. وحينا تظن انك بهذا جديا تحقق الخلود .. وتتمثل :

ألا إن المال غاد ورائح .. ويبقى من المال الأحاديث والذكر

فأفكر .. 

يوما ما كنتُ هنا .. بينكم .. فاذكروني بالخير!! 

"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" الأحقاف

01-01-2023