في هذه القصيدة التي كتبها ممدوح عدوان المتوفى عام ٢٠٠٤ استشراف لواقع سوريا اليوم، وكأنها نبوءة عرّاف وليست مجرد قصيدة لشاعر:


يبدأ الجرحُ  في وطني بالترابِ  الجريحْ.

ثمّ تحمّرُ منه الدماء.

يبدأُ القهرُ من صرخةِ  الأقبية.

ثمّ يمتد حتى السماء.

يبدأ الوطن الـمُرتجى من طعام الصغار.

ومن الفقر حين تضايقه التسمية.

ينبع الفقر من أوجه الفقراء.

حينما استغفروا الله مسكنةً

حمدوه على اللقمةِ الـمُخزية.

ستروا فقرهم.

مثلما تُسْتَرُ المعصية.

***

هاهي امرأتي تتحركُ وسط الزحام.

تلتقي مُقلتانا

فنَطرِقُ  خوف الكلام.

بيننا السر ينمو بصمت.

نخبئه في الضجيج

وبين زحام الحفاة.

مرة قلتُ  أنظرُ في مقلتيها.

رأيتُ  غدي أفقًا من خيام.

كان شيء من الوجدِ فيها.

انطفأ هلعًا فعرفتُ  البقية.

ها أنا اتدثر:

إنّ  الدماء تدق النوافذ.

توقف زحف المشاة.

بدأ الدم من جرح كف تُجاهد للخبز.

تحني مجاعتها كل عام.

بدأ الجرح من ماء نهرٍ يفيضُ    بوجه الحسين الـمُضرّج

وتدفق في النيل,

والنيل يحملُ وجه الشفيع المدجج.

بدأ الدم من شجرٍ (بين عمّان والنهر)

كانت تقصفه الريح.

والزارعون يغصّون بالدم.

خوف الطغاة,

بردى يلعقُ  الشفتين ويركضُ  ذعرًا

فيُخلي الطريق لسيل الدماء.

من هُنا بدأ الوطن المترامي

قتيلًا  بغير كفن.

وتجمع بين الركام الذي يترسب عبر الزمن.

فنما ظلمة يتستر فيها الحواة

مرة قلتُ  أنظر في مقلتيها

فأرعبني خوفها الـمُختزن.

البنادق كانت مُخبأة,

والدماء تدقُ  النوافذ.

والأرض، من خوفها

تتقشر أُفق رمال.

الدماء تدق النوافذ،

كان الجياع يجوعون سرًا.

يخافون جهرًا

ويخفون في القلب حتى الدعاء

وأنا أرقبُ  امرأتي خلسةً بين جميع النساء.

و أرى رعبها يتجمد نبض سؤال.

والدماء تدقُ  النوافذ.

– كانت بنادقنا في المخابئ-

والغاضبون امتطوا حرقة العُمر

(كي لا يموتوا اختناقًا)

فماتوا اغتيال.

لم يزل بيننا السر ينمو

ونحييه حين أرى وجهها في الزحام.

صحتُ:

يا وطنًا جفّ   حتى تشقق

دع لي بقية.

صحتُ:

يا جَيـَشان الدموع توقف.

لدينا لأحزاننا أبجدية.

كان لي وجه حزنٍ  أليف.

تحسسته فاختفى من يدي.

مَن سيُرجع وجهي إليّ؟

من سيعرف وجهًا

ورثتُ  الندوب به من سيوف التتار.

كان وجهًا به جرحي العربي.

كان جرحًا به دمي العربي.

قلت: يا امرأتي,

أقبلت ليلتي المفجعة.

هو ذا زمن فيه أعداؤنا ينبعون من البيت.

يسرون بين خيوط الدماء.

يسحبون الخناجر,

يأتون من سُحن الأصدقاء.

ومن سحن الأقرباء.

إنها هجمة بدأت بحصار الدماء.

قلتُ  يا امرأتي انتبهي

واحفظي ما ترين.

سقطت عنهم الأقنعة.

والأفاعي التي تطمئن.

وتُظهر أنيابها.

ثمّ تهجرُ أوكارها.

سوف نعرفها.. حيةً.. حيةً..

حنشًا.. حنشًا..

وسنرقبُ  أوكارها.

والأجنحة وسط البيوض.

ونعرف لون العظام.

فلتعج البراري بها.

سوف يتضح الأمر يوم الصِدام.

يبدأ الثأر من جوع أطفالنا.

ودموع الرجال.

سنُخزنُ  أحقادنا الـمُبدعة.

سنحلُ دماها:

أنا فارس الغد, حين نلاقي الزمان.

إنني أرجع الدهر نحو بدايته المفزعة.

وأنا امتطي صعبتي وأراقب كل المداخل.

جاءنا زمن القتل,

لم يبقَ  شهرُ حرام.

فتعالي نعلّم حجارتنا أن تُشير إليهم وتتقنُ أسماءهم.

أخذوا عُمرنا من بدايته.

ولنا سوف تبقى فصول الختام:

يلتقي الجائعون بجوعٍ جديد مقاتل.

إنه زمن القتل عبر جميع اللغات.

لن يكون به آمن.

كل من دخل الأرض يُضحي قتيلًا  وقاتل.

وحجارتُنا ستدلُّ عليهم وتعلنُ  أسماءهم.

ثمّ  لا عفو:

للفقر ذاكرة لا تخون الدماء السبية.

إنهم يحسبون الزمان مشانق.

نحنُ نحصي الزمان بما يتجمع من طلقاتٍ  لهذه البنادق.

سنفاجئهم

هذه امرأتي حبلت من دمائي النقية.

حبلت رغم كل البلايا, وقد سَلِمَتْ  من جميع المآزق

الدماء تدق النوافذ,

وامرأتي حامل وصبية.

وأنا والد الطفل.. أولدتُها بندقية.

وأنا والد الطفل.. أولدتها بندقية.