في كتاب "فوبيا داعش وأخواتها" يناقش المؤلف غوين داير في آخر فصل من الكتاب الخيارات الأمريكية والغربية بما يخص مواجهة داعش، والموقف الغربي الذي يرى وجوب اتخاذه من النظام السوري والأطراف المتحاربة في سوريا.
يعرض المؤلف 3 خيارات أمام الغرب يجب اتخاذ أحدها وهي: أن تتدخل أمريكا والغرب ميدانياً عكسرياً لمحاربة داعش، أن لا يفعلون شيئاً على الاطلاق، أو أن يعملون القليل وتفضيل انقاذ نظام الأسد الدموي المستبد لأن ذلك (أهون الشرين).
المؤلف كمثله من المحللين الغربيين المتزايدين الذين لا يخفون قناعاتهم التي تقول بضرورة انقاذ نظام الأسد عبر تحالف أمريكا والغرب مع إيران والأسد وروسيا بدلاً من تركيا وباقي الدول العربية التي يقول المؤلف أن أمريكا "لن تجد أياً من الدول الحليفة لها في المنطقة راغبة في المساعدة"!!
تحليل المؤلف برأيي يقترب كثيراً من موقف السياسة الأمريكية الحالي الغير معلن في سوريا والتي يبدو أنها انحازت تماماً لنظام الأسد وإنقاذه بشكل ما.
النصوص المتفرقة التالية هي من الفصل الأخير من كتاب "فوبيا داعش وأخواتها" لـ غوين داير.
ها نحن ندفن أول صليبـي أميركي في دابق (مدينة في شمال سوريا) وننتظر بلهفة مجيء بقية جيوشكم لتذبح أو تدفن هنا.
جلاد الدولة الإسلامية يتحدث في فيديو قطع رأس عامل الإغاثة الأمريكي بيتر كيسغ في 16 تشرين الثاني 2014
..... ولكن الجزء الوحيد الذي يرتبط مباشرة بموضوعنا هو الجزء الأول: “الملحمة الكبرى” في دابق التي ستبدأ سلسلة الأحداث التي ستنتهي بيوم القيامة. أوضح إشارة إلى المكانة الجوهرية التي تشغلها هذه المعركة في فكر الدولة الإسلامية هي أنها سمّت مجلتها الدعائية “دابق“. يشكل هذا الهوس “بقيام الساعة” إحدى النقاط الرئيسة في الخلاف بين تنظيم القاعدة والتنظيمات المختلفة التي تطورت بدءاً بالزرقاوي وحتى أصبحت “الدولة الإسلامية” التي نعرفها ونراها اليوم، والتي أدت إلى انفصال التنظيمين عن بعضهما في آخر الأمر. ويشكل اليوم أيضاً أحد العوائق الكبرى أمام المصالحة بينهما، رغم أن معتقداتهما وأهدافهما الأخرى تتماثل إلى حد كبير جداً.
تتبع الدولة الإسلامية استراتيجية مختلفة عن الحركات الإسلامية السابقة مثل تنظيم القاعدة وغيره، ولكن- وهنا وجه الغرابة- نتيجة رؤيتها في آخر الأمر هي نفسها تلك التي تسعى تلك التنظيمات إليها. لقد شنّ تنظيم القاعدة هجماته الإرهابية على البلاد الغربية لاستفزازها كي ترسل جيوشها إلى العالم الإسلامي على أمل أن يحرك وجود هذه الجيوش جماهير المسلمين للقيام بثورات تصنع بلداناً إسلامية بشكل حقيقي؛ أما تنظيم الدولة الإسلامية فيرى نفسه أنه دولة إسلامية بالفعل، ويعتمد على الغزو وليس على الثورات للتمدد والتوسع.
إن هذا الفرق لا بد أن يجعل الدولة الإسلامية غير محتاجة إلى شن هجمات كبرى على أهداف غربية. وبالفعل، فالدولة الإسلامية تضع مهام مثل قتل الشيعة وتدمير الأنظمة العربية القائمة في موضع أعلى على سلم أولوياتها. ولكن بالمقابل، إن تحقيق النبوءات يعني أن “جيوش الروم” لا بد أن تأتي إلى دابق، وأنه لا بد من استفزاز الغرب كي يقرر غزو الدولة الإسلامية، بل لا بد من إقناع الغرب بأن يرسل جيشاً كبيراً وأن يرسله إلى دابق تحديداً، وقد يكون تحقيق هذا الهدف أمراً صعباً بعض الشيء. ولكن عاجلاً أم آجلاً سيعود الهجوم على أهداف غربية إلى تصدر قائمة أولويات الدولة الإسلامية، فماذا يجب أن يفعل الغرب بهذا الشأن؟
أمام الدول الغربية واحد من ثلاثة خيارات:
- أن تفعل الكثير
- أن لا تفعل شيئاً البتة
- أن تفعل القليل
الخيار الأول: أن تفعل الدول الغربية الكثير
قد يغرينا إصرار الدولة الإسلامية على دابق بأن نفعل الكثير: فلماذا لا نرسل جيشاً غربياً كبيراً إلى دابق بالفعل؟ فعندها، سيتقاطر المحاربون الجهاديون المتطرفون إلى هناك من كل حدب وصوب مصممين على أن يكونوا جزءاً من النصر العظيم الذي أخبرت عنه النبوءات. وعندما يجتمعون، يمكن لقوة النيران الغربية المتفوقة أن تدمرهم في معركة تقليدية كبيرة سينتصر بها الغرب بكل تأكيد. وهكذا، ستفقد الدولة الإسلامية مصداقيتها، وسيعيش الجميع بعد ذلك بسلام. أليس كذلك؟
علينا أن نقاوم هذا الإغراء. لماذا؟ لأن مجرد فكرة قدوم جيش كبير يتألف من قوات الدول الغربية إلى سوريا قد يجبر الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة على القيام بمصالحة حقيقية، وستكون هذه نتيجة غير مرغوب بها إلى أبعد الحدود. كما أن هذا التدخل سيتسبب بحنق أكبر في العالم العربـي من التدخل الغربـي، كما أن الانسحاب المباشر لجيوش الدول الغربية بعد النصر في دابق سيكون مستحيلاً، إذ سيكون الضغط لإتمام المهمة وإزالة الدولة الإسلامية كلياً لا يقاوم. وعندئذ، سنجد أنفسنا وقد عدنا إلى الحلقة المفرغة نفسها: سيؤدي بقاء الجيوش لإنهاء المهمة إلى احتلال عسكري تتبعه حرب عصابات، وتتبعها حملات مطولة ضد حرب العصابات- وهي نوع الحملات التي أثبت الغرب كونه فاشلاً في معالجتها- وسنعود إلى حيث بدأنا. كما أن الغرب لن يجد أياً من الدول الحليفة له في المنطقة راغبة في المساعدة.
فتركيا، وهي الدولة المسلمة الهامة في “التحالف” المتنافر الذي شكله الرئيس أوباما آخر سنة 2014 لمحاربة داعش، فهي أيضاً مصممة على الإطاحة بنظام الأسد. ورغم أن الغالبية الكبرى من الأتراك مسلمون سنة، إلا أن تركيا جمهورية علمانية ديموقراطية. ولكن خلال العقد الماضي حكمها حزب العدالة والتنمية؛ وهو حزب إسلامي محافظ تمكن أخيراً من كسر احتكار العلمانيين للسلطة. وتدريجياً، اتبع رجب طيب أردوغان- قائد الحزب والرئيس التركي الحالي- سياسة لعب فيها الدين دوراً أكبر مع تعاظم إمساكه بمفاصل السلطة في البلد. حين اندلعت الحرب الأهلية السورية، اتخذ بعد فترة حاول فيها القيام بدور الوسيط جانب الثوار السنة ضد نظام الأسد. من الناحية العملية، كان إسهام أردوغان الأكبر للجهاديين هو إبقاء حدود تركيا مع سوريا (البالغ طولها أكثر من 800 كلم) مفتوحة لهم، وقد شكّل هذا الإسهام شرياناً حيوياً لقيام هذه المجموعات واستمرار بقائها، لأن معظم التسليح والمال والإمدادات القادمة من الخارج جاءت عبر هذه الحدود، وكذلك فعل معظم المتطوعين الأجانب الذين التحقوا بصفوف الدولة الإسلامية أو جبهة النصرة. من المفروض أن يكون أردوغان قد سمح بذلك لأنه كان يريد الإطاحة بنظام الأسد بأي ثمن. ولما كان من المستحيل تبرير سياسة الحدود المفتوحة هذه لحلفاء تركيا على هذه الأسس، تظاهرت الحكومة التركية بأنها ببساطة لا تقدر على إغلاق الحدود، أو كما قال رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو إن الحكومة التركية “لا تستطيع وضع جنود في كل مكان على الحدود”.
وبالطبع هذا هراء؛ لأن تركيا إذا وضعت جندياً واحداً كل عشرة أمتار على حدودها مع سوريا فإن هذا لن يشغل إلا ربع جنود جيشها الذين ليس لديهم الكثير من الشغل الآخر أصلاً في هذا الوقت. وبالطبع ليست هذه هي الطريقة المثلى لإغلاق الحدود، ولكن الشاهد أن تركيا تمتلك العدد الكافي من الجنود حيث لا يشكل إغلاق الحدود مشكلة أمامها. وبعد أن أصبحت مؤخراً تعتبر دولة متقدمة، فهي لا تفتقد إلى التكنولوجيا اللازمة لإغلاق الحدود، فالحدود تظل مفتوحة لأن أردوغان يريد لها أن تظل مفتوحة.
يصعب تصور مصلحة تركيا في أن ترى سوريا تحت حكم إسلاميين متشددين، أو حتى تصور كيف يمكن لذلك أن يخدم مصالح أردوغان السياسية الشخصية، بل لا يوجد حتى أي قاسم مشترك بين نظرة أردوغان الدينية ونظرة أولئك المتطرفين؛ باستثناء أنهم مسلمون سنة. فبعد 11 سنة أمضاها أردوغان كرئيس للوزراء، اختار أن يرشح نفسه لرئاسة البلاد سنة 2014، وانتخب بسهولة لهذا المنصب الفخري بشكل عام؛ لكن نواياه كانت أن يتبع ذلك بتعديل دستوري يحوّل فيه هذا المنصب إلى رئاسة تنفيذية قوية. لكن، وبخلاف المتوقع، في الانتخابات النيابية سنة 2015 لم يفشل حزبه في تحصيل نسبة 60 بالمئة من المقاعد التي تشكل “الغالبية العظمى” اللازمة لتعديل دستوري فحسب، بل فشل أيضاً في حصد نصف المقاعد، وسيحتاج إلى تعاون حزب آخر (أو حتى أحزاب أخرى) كي يشكل حكومة ائتلاف أو حكومة أقلية تعتمد على دعم من خارج الحزب.
لا يوجد أي حزب في تركيا يشارك حزب أردوغان في تصميمه على الإطاحة بالأسد في سوريا وزيادة قوة المسلمين السنة في العالم العربـي، ولذلك توجد على الأقل إمكانية لأن تتغير سياسة تركيا في إبقاء الحدود مفتوحة؛ رغم أن الارتباك الحالي في المشهد السياسي في تركيا يعني أن انجلاء هذه المسألة سيتطلب بعض الوقت، وخاصة مع إمكانية حصول انتخابات نيابية جديدة. على المدى البعيد، قد ترغب تركيا تحت قيادة مختلفة في أن تساعد في قتال الدولة الإسلامية، ولكن ليس من الحكمة أن يقف الغرب منتظراً حصول هذا التغيير.
الحليف المحتمل الوحيد الآخر للولايات المتحدة في المنطقة لمحاربة الدولة الإسلامية هو إيران التي تحب أن ترى تدمير هذه الدولة بكل تأكيد. لكن، ليس لإيران حدود مشتركة مع سوريا من ناحية، كما أنها وعلى المستوى السياسي ليست حليفاً مقبولاً لدى الولايات المتحدة؛ فهي حليف “أمر واقع” للولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية في العراق، ولكنها ليست عضواً من “التحالف”؛ لأن الدول الخليجية ما كانت لتقبل بالتحالف معها، بل وما كانت السياسات المحلية الأمريكية لتتيح المجال أمام إدارة أوباما لفعل ذلك. وفي عدة مرات، وجد الجيش العراقي نفسه في ورطة أثناء قتاله مع داعش، ولم ينقذه منها إلا تضافر قوة الولايات المتحدة الجوية مع القوات البرية الإيرانية، لكن هذين الحليفين القويين للجيش العراقي لا يتبادلان حتى معلومات حساسة تعتمد على الوقت بينهما، فهما يتواصلان فقط من خلال وسطاء عراقيين؛ بغض النظر عما يستغرقه هذا من وقت. أما في سوريا، فإيران أهم حليف لها، لكن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بتعهدها بالإطاحة بالنظام السوري.
إن تحالفاً كهذا تملأه التناقضات والانقسامات العميقة والمعقدة لن يدمر الدولة الإسلامية أبداً، وخاصة من خلال هجوم بري. ولذلك، فالولايات المتحدة برأيي محقة عندما تصمم على عدم الزج بقوات أمريكية برية للقيام بهذه المهمة. إذاً، إن خيار “فعل الكثير” لا وجود له.
الخيار الثاني: أن لا تفعل الدول الغربية شيئاً البتة
عدم القيام بشيء، أو على الأقل القيام بأقل شيء ممكن خيار جذاب، وقد كاد يكون الخيار الصحيح في أي أزمة تتعلق “بالإرهابيين” خلال آخر 15 سنة؛ إذ إن التدخل العسكري الغربـي لم يزد الأمور إلا سوءاً. ما يحدث في سوريا لا يشكل قضية حيوية بالنسبة للأمن القومي في أي بلد غربـي، بل كل ما يحدث في الشرق الأوسط أقل أهمية مما تتظاهر به وسائل الإعلام وصقور السياسة في العواصم الغربية؛ فالمنطقة بأسرها لا تشكل إلا 10 في المئة من تعداد سكان العالم، ولا يبلغ عدد العرب منهم إلا النصف. من الناحية الاقتصادية، بلاد الشرق الأوسط لا أهمية لها إلا من ناحية النفط. وكذلك لا يهم العالم من يدير البلاد المصدرة للنفط؛ لأنها وبغض النظر عمن يتولى مسؤوليتها ستضطر إلى الاستمرار في بيع النفط لإطعام شعوبها.
من ناحية أخرى، إن عدم فعل أي شيء قد يكون كافياً للتسبب في سقوط نظام الأسد واستيلاء الإسلاميين المتطرفين على سوريا، وهذا قد يعني مقتل الملايين. من البديهي أن منع حصول هذا لا أهمية له بالنسبة لمصالح الدول الغربية القومية، أما كونه مسؤولية أخلاقية أم لا فهذه مسألة رأي؛ إذ إن الغرب مثلاً لم يفعل شيئاً لمنع الإبادة الجماعية التي جرت في كمبوديا في 1975-1979، كما أنه لم يكد يفعل شيئاً لمنع الإبادة الجماعية التي جرت في رواندا سنة 1994، وتباطأ للغاية في الاستجابة للإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون في يوغوسلافيا في منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ مع أنه استخدم القوة الجوية في آخر الأمر لإيقاف الصرب بعد سريبرينتشا سنة 1995، وبعد ذلك في كوسوفو (1998-1999). فإذا كنت من النوع الواقعي المتشائم فستقول إن تدخل الغرب واجب أخلاقي، فقط إذا كان من الممكن للغربيين أن يتدخلوا من الجو من دون أن يغامروا بحياة قواتهم في عمليات برية.
وهذا يتيح لنا المجال لمناقشة الخيار الثالث: فعل القليل فقط!
الخيار الثالث: أن تفعل الدول الغربية القليل
إذا غزا هتلر الجحيم فسوف أتقدم بإشارة إيجابية على الأقل إلى الشيطان أمام مجلس العموم، وينستون تشرتشل، مباشرة بعد غزو هتلر للاتحاد السوفييتي في 21 حزيران 1941[52]
تعلمنا الحياة أننا لا نحصل على الخيارات التي نحب الحصول عليها، بل على الخيارات المتاحة أمامنا، وأي شيء يقوم به الغرب للحد من نشاطات الدولة الإسلامية في سوريا سيؤدي حكماً إلى زيادة فرص نجاة نظام الأسد القمعي والوحشي. ولكن، لنأخذ مثال تشرتشل: فهو لم يعتقد أن ستالين رجل طيب، وكان يعلم أن الاتحاد السوفييتي تحت قيادته كان مكاناً فظيعاً، ولكن في منتصف سنة 1941 كانت بريطانيا لا تزال وحيدة في صراعها ضد هتلر، وكان تشرتشل يعلم أنه يحتاج إلى حليف قوي للانتصار في الحرب، أو على الأقل للمحافظة على بقاء بريطانيا. ولذلك لم يتردد في التوصية بالتحالف مع الاتحاد السوفييتي لمجلس وزرائه في أول الأمر، ثم للبرلمان البريطاني.
إن هذا القياس ليس كاملاً بالطبع. فإذا أسقطت الدولة الإسلامية و/ أو جبهة النصرة نظام بشار الأسد واستولت على سوريا فالغرب سيستمر ولن يعاني حتى من الكثير من الضرر، فهذه ليست قضية وجودية بالنسبة للدول الغربية. لكن أشياء مريعة ستحصل للأقليات في سوريا، ومع وجود سوريا ورقعة كاملة من العراق كقاعدة لهذه الجماعات المتطرفة ستتمكن هذه الجماعات من التمدد إلى دول عربية أخرى، أو على الأقل على إخافتها حتى تصمت. وهذه بكل تأكيد ليست نتائج يرغب الغرب بها. وإذا كان من الممكن تجنبها بكلفة معقولة، فيجب أخذ ما يمكننا فعله للوصول إلى ذلك بعين الاعتبار.
مسار العمل المناسب للغرب برأيي هو ضمان بقاء النظام السوري. نعم، لقد فعل الأسد وحزب البعث أشياء فظيعة (وكذلك فعل ستالين) ولكنهما يظلان أهون شراً من البديل (كما كان حال بقاء الاتحاد السوفييتي سنة 1941). يمكننا مقارنة قسوة نظام الأسد وطغيانه بقسوة نظام صدام حسين وطغيانه. ولكن من الواضح الآن- نظرياً على الأقل بما أن الماضي لن يعود- أنه كان من الأفضل لنا لو تركنا نظام صدام حسين في سدة الحكم، فأي مراقب منطقي سيتفق معنا على أنه لو لم تغزُ الولايات المتحدة وأذنابها العراق سنة 2003 لكان العراق مكاناً أفضل، ولظل مئات آلاف ضحايا العنف العبثي الذي تلى سقوط نظام صدام أحياء اليوم. إن أفضل الخيارات السيئة المطروحة أمامنا هي إبقاء الأسد في السلطة الآن؛ مع أن هذا يعني- ويا للهول!- أن الولايات المتحدة ستساعد ديكتاتوراً!
لكن مساعدة الولايات المتحدة لديكتاتور ليست أمراً غير مسبوق، فقد ساعدت صدام حسين في النجاة من الحرب الحمقاء التي خاضها مع إيران، وساندت النظام الجزائري في الحرب الوحشية التي خاضها مع الثوار الإسلاميين في تسعينيات القرن الماضي، بل ولقد حمت بول بوت وبقايا نظامه لفترة طويلة بعد أن أنهت القوات الفييتنامية حكمه المرعب في كمبوديا، كما أنها حمت أنظمة عسكرية ديكتاتورية متتالية في كوريا الجنوبية من غزو كوريا الشمالية.
كان بعض هذه القرارات حكيماً وبعضها لم يكن كذلك، ولكن النقطة هي أنه لا يوجد مبدأ أخلاقي نضحي به هنا، بل مجرد التوصل إلى الخيار المؤدي إلى شرور أقل من غيره.
في وقت كتابة هذا الكتاب كانت إدارة أوباما في واشنطن تحاول تجنب هذا الخيار من خلال بناء “قوة ثالثة” تأمل أن تتمكن في آخر الأمر من هزيمة كل من نظام الأسد وجهاديي الدولة الإسلامية وجبهة النصرة. لكن فكرة “القوة الثالثة” قد جربت بالفعل وباءت بالفشل الكامل، وهي المحاولة التي سميت “الجيش السوري الحر” الذي لا تزال بقاياه متواجدة هنا وهناك على هامش الصراع، ولكن الغالبية العظمى من منتسبيه إما انضموا إلى الإسلاميين أو باعوا أسلحتهم وعادوا إلى منازلهم. بالرغم من ذلك، لا تزال واشنطن تلاحق حلَّها الخيالي هذا، وقد بدأ أول تسعين سورياً بالتدرب في الأردن تحت إشراف قوات أمريكية في أيار 2015. ويقدر البنتاغون أن تدريب 15,000 سوري من الثوار ليشكلوا “القوة الثالثة” سيستغرق ثلاث سنوات. ولكن هذا العدد قد يكون أقل من اللازم، كما أن الوقت ربما يكون قد تأخر كثيراً حيث لا يستطيعون التأثير في النتيجة.
لأسباب دبلوماسية أهمها أن الولايات المتحدة ليست رسمياً في حالة حرب مع سوريا، تصرّ وزارة الدفاع الأمريكية على أن هذه القوات ستستهدف قوات الدولة الإسلامية فقط وليس نظام الأسد. ولكن في الواقع، من المرجح أن تستهدف قوات الأسد أيضاً بما أن جميع ثوار سوريا يعتبرونه العدو الرئيس، ولا يوجد الكثير مما يمكن لواشنطن فعله لتغيير هذا الأمر. ولكن، مع أن مقاتلي “القوة الثالثة” قد يتمكنون من إسقاط الأسد إلا أنه من غير المرجح أن يتمكنوا من النجاح في الصراع على السلطة الذي سيلي ذلك؛ فالإسلاميون سينتصرون في هذا. إذاً، هذه سياسة عسكرية مصيرها الفشل، وتخدم استراتيجية سياسية فشلت من قبل، وعلى الولايات المتحدة أن تتقبل حقيقة أن مساعدة النظام السوري ضد أعدائه هي أقل الخيارات المتبقية سوءاً.
قد تكون أقل الطرائق التي تستطيع بها الولايات المتحدة أن تساعد النظام السوري إثارة للجدل هي أن تقدم له ديوناً طويلة الأجل بفائدة منخفصة لشراء الأسلحة والغذاء والأشياء الأخرى التي يحتاج إليها كثيراً، ويمكن للحظر الاقتصادي الذي فرضته الدول الغربية على نظام الأسد أن يرفع من قبل الحكومات نفسها التي فرضته؛ لأنه لم يقم على أساس قرار من الأمم المتحدة أصلاً؛ إذ استخدم الروس- الذين دعموا حليفهم السوري منذ البداية- حق النقض مرة تلو الأخرى في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون وقوع ذلك. من الأشياء التي قد تحدث فرقاً حاسماً في النتيجة الدعم الجوي المستمر من القوات الغربية للجيش السوري، مما يعني بالضرورة اشتمال ذلك على اتصال مباشر في وقت الحدث بين القوات البرية السورية والقوات الجوية الغربية. ولا ينبغي علينا أن نتصور أن هذه التغيرات في السياسة الغربية ستقنع أو تجبر نظام الأسد على التصرف بطريقة أفضل، فهذا النظام هو ما هو عليه، وقد علّمته أربعون سنة في السلطة أن الشدة مفتاح البقاء.
هل سيكون الدعم العسكري والاقتصادي الغربـي بدون قوات برية على الأرض كافياً لضمان بقاء نظام الأسد في هذه النقطة من الحرب الأهلية؟ لا أحد يعلم. فمع انتهاء السنة الرابعة من الحرب، الجيش السوري منهك جداً، وقد تقلص عدده إلى النصف بعد أن كان حوالى 325,000 جندي قبل الحرب، وذلك نتيجة خسائره في المعارك من ناحية، وعمليات الانشقاق وتجنب التجنيد الإجباري من ناحية أخرى، ولكنه قادر على أن يلجأ إلى قوات الدفاع الوطني التي يبلغ عدد عناصرها ما بين الثمانين والمئة ألف رجل، وكذلك إلى مساعدة عدد كبير وغير معروف من مقاتلي حزب الله اللبناني، وعدد غير معروف من مقاتلي الميليشيات الإيرانية. لكن رغم أن الجيش السوري بدا وكأنه يستعيد بعض الأراضي في الفترة الممتدة ما بين 2012 ومنتصف 2014، إلاّ أنه بدأ يخسر الأراضي مرة أخرى؛ غالباً لأن معظم أعدائه قد توحدوا تحت قيادة إما الدولة الإسلامية أو جبهة النصرة، وكلتاهما أكثر كفاءة بكثير من الميليشيات المتشرذمة والمتشاكسة وقليلة التدريب التي كانت تواجه الجيش السوري في البداية.
نجحت جبهة النصرة وحلفاؤها الإسلاميون الأصغر حجماً في أخذ إدلب وجسر الشغور شمال غرب سوريا في آذار 2015، فاتحين بذلك الطريق أمام ساحل المتوسط وقلب الأراضي العلوية (زعمت الحكومة السورية أن تركيا قد أعانت الثوار من خلال التشويش على اتصالات الجيش السوري). أما الدولة الإسلامية فقد نجحت في أخذ ضاحية اليرموك في نيسان، بينما أحرزت جبهة النصرة تقدماً واسعاً في الجنوب قرب الحدود الأردنية. وفي أيار، تمكنت الدولة الإسلامية من الاستيلاء على مدينة تدمر، مما فتح الطريق أمام حمص. وإذا عادت حمص إلى قبضة الثوار، فسوف تقطع الطريق بين دمشق والبحر مما سيجعل النظام يقع في ورطة وخيمة. إن انهياراً عسكرياً شاملاً بين قوات نظام الأسد ليس مرجحاً في المستقبل القريب، ولكنه ليس مستحيلاً أيضاً.
من ناحية أخرى، لا تزال قوات نخبة الجيش السوري بوضع سليم، ولا تزال محترفة ومدربة جيداً. وإذا نالت أسلحة أفضل ودعماً جوياً غربياً مع تعزيز معنوياتها، فلديها فرصة لا بأس بها بقلب الموازين الحالية، واحتواء أعدائها الإسلاميين؛ حتى لو لم تهزمهم بشكل نهائي. إذا وجدت هذا الأمر كريهاً فهذا شأنك، ولكن الهدف الحقيقي ليس دعم نظام الأسد، بل منع عملية إبادة جماعية وإيقاف انتشار أيديولوجية سياسية بغيضة للغاية.
أسوأ ما يمكننا فعله هو أن ننتظر حتى يوشك النظام السوري على الانهيار ونحاول إنقاذه وقتها؛ لأن الغرب عندها سيدفع كلفة التدخل في الصراع كلها، وقد لا يحظى بأي من منافعه السياسية. الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب يقومون بالفعل بقصف أهداف في جميع أرجاء الدولة الإسلامية متسببين بالتآكل البطيء لقاعدتها الاقتصادية، ومانعين إياها من استخدام صفوف الشاحنات العسكرية والهمرات سريعة الحركة التي أتاحت لها المجال كي تقوم بالاجتياح السريع الذي قامت به في صيف 2014. سترحب روسيا وإيران بكل تأكيد بدعم أمريكا للنظام السوري عسكرياً واقتصادياً، وعلى الأرجح ستكون ردة فعل الصين مماثلة. وقد يكون هذا كافياً ليوقف زحف الإسلاميين حتى… حتى ماذا؟
ربما حتى يبدأ القتال المفتوح بين الدولة الإسلامية وجبهة النصرة مرة أخرى، أو حتى يتمكن عدد كافٍ من الناس الأقل تعصباً من التصالح مع النظام. أو لعل نظام الأسد قضية خاسرة مهما فعلنا، ولكن بالرغم من ذلك لن يكون وضع البلاد الغربية أسوأ من عدم المحاولة أصلاً.
لا يوجد حل سهل للتحدي الذي تمثله الدولة الإسلامية؛ إلا إذا كانت لدينا آلة للزمن، فعندها سيكون الحل ببساطة أن نعود إلى سنة 2003، وأن لا نغزو العراق. قد يكون دعم نظام الأسد علناً أكثر مما قد تحتمله الحكومات الغربية، وكذلك قد تتردد أمام إمكانية إثارة حنق الأنظمة العربية السنية الحليفة للغرب. لكن بالمقابل، حتى لو كان من الممكن احتواء الدولة الإسلامية بنجاح ضمن حدودها الحالية، إلا أنه لا توجد أي ضمانة بأنها ستنهار نتيجة الصراعات الداخلية. ولكن، إذا كان دعم نظام الأسد بالمال والسلاح والغارات الجوية سيحتوي الدولة الإسلامية، وقد يسهم في نهاية الأمر في انهيارها الكامل، إذاً يجب علينا أن نحاول القيام به. إذ إن انتصار الدولة الإسلامية يعني تمددها إلى دول الجوار، وخاصة الأردن ومناطق واسعة من لبنان، وسيشكل هذا كارثة كبرى للأقليات في الشرق الأوسط من ناحية، وستظل هذه الدولة شوكة في خصر كل من تركيا والسعودية وإسرائيل وربما مصر أيضاً من ناحية أخرى، وكذلك سيكون وجودها مصدر عدم ارتياح للجميع.
لكن المسألة لا تتعلق بمجرد “إبقاء” الأسد في السلطة، فالنظام السوري إذا ما تُرك لقدراته الخاصة سيسقط على الأرجح خلال سنة واحدة، فإذا كان له أن يبقى فلا بد أن يحظى بالمساعدة.
لقد تحسنت الفعالية العسكرية لقوات الثورة السورية بشكل كبير نتيجة إنشاء مظلة جيش الفتح الذي تهيمن عليه جبهة النصرة في آذار 2015 بالإضافة إلى التنسيق السعودي-التركي للمعونات العسكرية المقدمة إلى الثوار السوريين إثر إتفاقية أيار 2015؛ ففي آذار تمكنت جبهة النصرة متحالفة مع مجموعات إسلامية أصغر من بسط سيطرتها على إدلب وجسر الشغور في الشمال الغربـي ما فتح لها المجال لتمهيد الطريق لتقدم إلى ساحل المتوسط وقلب المنطقة العلوية المجاورة له (وقد زعمت الحكومة السورية أن تركيا ساعدت الثوار من خلال التشويش على اتصالات الجيش السوري). في ذات الوقت سيطرت الدولة الإسلامية (داعش) على مخيم اليرموك الواقع في ضواحي دمشق في نيسان بينما تقدمت جبهة النصرة بشكل كبير في الجنوب قرب الحدود الأردنية. في أيار سيطرت الدولة الإسلامية على تدمر مما فتح طريق حمص أمامها -والتي إذا ما سقطت في يد الثوار فهذا سيعني قطع طريق دمشق عن الساحل بالكامل.
لقد كان من الواضح أن الجيش النظامي السوري المنهك من العمليات العسكرية والذي يعاني من نزيف في موارده البشرية يترنح؛ وقد تقلص عدد جنوده البالغ 325,000 جندي قبل الحرب إلى النصف نتيجة مقتل أعداد كبيرة من جنوده في القتال أو انشقاق أعداد كبيرة أخرى منهم أو نتيجة التهرب من التجنيد الإجباري. ومع أنه من الممكن للجيش النظامي أن يستعين بالميليشيات الشعبية البالغ عدد قواتها ما بين ثمانين ومائة ألف عنصر في العمليات المحلية، كذلك ببضعة آلاف من المقاتلين الذين زج بهم حزب الله اللبناني إلى جانبه بالإضافة إلى حوالي خمسة آلاف مقاتل شيعي تم تجنيدهم من العراق وأفغانستان والذين تدفع إيران رواتبهم، لكن هذه القوات منتشرة على مساحات شاسعة (وقد حاولت الحكومة السورية أن تتجاوز في تموز أزمة عدم كفاية موارد الجيش البشرية من خلال إصدار عفو عام عن المتهربين من التجنيد الإجباري مقابل أن يؤدوا مدة خدمتهم العسكرية وزيادة مدة الخدمة لعدد كبير من الجنود بالإضافة لإنهاء الإعفاء الذي يطال العائلات التي فقدت ابناً لها في الواجب العسكري). في 26 تموز ألقى الأسد خطاباً متلفزاً ليبين سبب عدم قتاله حتى آخر جندي للحفاظ على جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام فقال: “أحيانا نضطر في بعض الظروف أن نتخلى عن مناطق من أجل نقل تلك القوات إلى المناطق التي نريد أن نتمسك بها… لا بد من تحديد مناطق هامة تتمسك بها القوات المسلحة لكي لا تسمح بانهيار باقي المناطق”.
لكن الأسد عاد وطمأن مستمعيه أن الجيش لا يزال قادراً على الدفاع عن المناطق الأساسية من دمشق ومدن حمص وحماة وصولاً إلى الساحل -أي ما يسمى بـ ”سوريا المفيدة”- لكن حتى هذا كان قد أصبح موضع شك، ورأى كثيرون في هذا الخطاب نداء للمساعدة. لم يكون هناك أي فائدة من توقع أن تأتي هذه المساعدة من الأمريكيين، فلدى الولايات المتحدة التزامات عميقة بتحالفاتها الإستراتيجية مع تركيا والسعودية وإسرائيل تجعل من المستحيل عليها أن تغير موقفها لتنقذ الأسد (مع أن عدداً من مسؤولي وزارة الخارجية كانوا قد توصلوا بالفعل إلى نتيجة مفادها ان إنقاذ الأسد قد يكون أقل الخيارات السيئة سوءاً) كما أن الرئيس أوباما نفسه كان مقيداً بإعلاناته الكثيرة عن وجوب رحيل الأسد. ولكن أثناء إلقاء الأسد لخطابه في دمشق كان الجنرال الإيراني قاسم سليماني -قائد فيلق القدس التابع لحرس الثورة الإسلامية- موجوداً في موسكو ليحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التدخل المباشر في الحرب على أساس أن الأسد سيسقط لا محالة إذا لم يحصل ذلك.
منذ أن بدأت إيران في معونتها العسكرية لسوريا كان سليماني هو المسؤول عن هذه المعونة وقد أمضى الكثير من وقته في سوريا، كما أنه ظل طوال هذه الفترة يتلقى تقارير مباشرة من الضباط العسكريين الإيرانيين الذين يقدمون الاستشارات للجيش السوري، ولذلك فإذا قال إن الجيش السوري على حافة الانهيار كان على الروس أن يأخذوا كلامه على محامل الجد. تتمتع روسيا بعلاقة عسكرية متميزة مع النظام السوري منذ سنة 1971 وقد استخدمت حق النقض (الفيتو) أربع مرات منذ بدء الأزمة عام 2011 لمنع مجلس الأمن الدولي من فرض عقوبات على سوريا، لكنها وحتى تلك اللحظة لم تكن قد تدخلت مباشرة لمساعدة النظام السوري في الحرب الأهلية. أخذ بوتين تحذير سليماني بجدية بالفعل، وبدأ بنقل قوات عسكرية مع دبابات ومدفعية ثقيلة إلى سوريا في آب، لم يكن الهدف الدخول في عمليات عسكرية مباشرة بل لتحضير وحماية قاعدتين جويتين هامتين قرب اللاذقية على ساحل المتوسط حتى يستخدمهما الطيران الروسي.
وصلت الطائرات الحربية الروسية إلى سوريا في أيلول ومع نهاية الشهر كانت قد قامت بأولى غاراتها الجوية على أهداف للثوار. ظلت موسكو حتى ذلك الوقت تصر على أن هذه الغارات موجهة ضد قوات داعش ولم يكن من الممكن بالطبع للولايات المتحدة أن تعترض على ذلك خاصة وأن طيرانها هي أيضاً كان يقصف أهدافاً لداعش في سوريا. لكن حقيقة التدخل الروسي كان لإنقاذ نظام الأسد ويستحيل لهذه الغاية أن تتحقق من خلال قصف داعش وحدها؛ فلأسباب جغرافية كان التهديد المباشر والأكبر لبقاء نظام الأسد هو جبهة النصرة والقوات المتحالفة معها، ولذلك كانت معظم القذائف الروسية تسقط على مواقع هذه القوات.
لم تتجاوز استجابة الولايات المتحدة العلنية للمبادرة العسكرية الروسية النمط التقليدي الذي ما انفكت عن تكراره من قبل، فقد أصرت تصريحات مسؤولي الولايات المتحدة على أن الجيش السوري الحر لا يزال قوة قابلة للحياة -مع أن المسؤولين الأمريكيين أنفسهم كانوا قد أقروا قبل ذلك الوقت بسنة على الأقل بأن الجيش الحر قد انتهى كقوة فاعلة على الأرض- كما اعترضت هذه التصريحات بقوة على قصف الروس للثوار “المعتدلين” (ما أعطى الانطباع للرأي العام الأمريكي بأن روسيا تستهدف الجيش السوري الحر مع أن القذائف الروسية كانت تتساقط في الواقع على جبهة النصرة، أي الفرع السوري لتنظيم القاعدة). اشتكت الولايات المتحدة من أن القذائف الروسية تتسبب بمقتل المدنيين -وهو اتهام صحيح دون شك ولكنه لا يخلو من الوقاحة من الولايات المتحدة التي لم يكن قد مر أسبوع على قصف طيرانها لمستشفى في أفغانستان بطريق الخطأ مما أدى إلى مقتل 22 شخصاً، كما كررت هذه التصريحات الكليشيهات المعتادة عن كيف أن التدخل الروسي في سوريا “يصب الزيت على النار”. كذلك تضاربت آراء مسؤولي الولايات المتحدة حول دوافع روسيا للتدخل بين قائلين أنها تحاول أن تحمي قاعدتها البحرية الوحيدة على البحر المتوسط وآخرين يقولون إنها تدخلت لتحصل على ورقة مساومة تستخدمها ضد العقوبات الأوروبية المتعلقة بمسألة أوكرانيا وآخرين يرون أنها مجرد محاولة روسية لتأكيد وجودها كقوة عظمى لا يمكن تجاوزها. لقد أدانت هذه التصريحات التدخل الروسي بكل طريقة يمكن لها أن تعبِّر عنها ولكن لم تقل أي واحدة منها أن على القوات الروسية أن تنسحب من سوريا أو تهدد موسكو بأي شكل من الأشكال.
قد تكون ردة الفعل الأمريكية اللافتة للنظر في اعتدالها مجرد تعبير عن عدم رغبة الولايات المتحدة في الدخول في مواجهة عسكرية خطرة مع روسيا قد يفقد الطرفان السيطرة على نتائجها، ولكنها قد تكون نتيجة شعور “الجناح الواقعي” في وزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون بالامتنان لروسيا لأنها تفعل ما يجب فعله ولكن الذي لا يمكن للولايات المتحدة أن تفعله. على جميع الأحوال ففي وقت كتابة هذه السطور (في نصف تشرين الأول) لا تزال القذائف الروسية تتساقط وقد تحول الجيش السوري النظامي إلى الهجوم واستعاد بعض الأراضي، لكن النتيجة النهائية للحرب لا تزال أبعد ما تكون عن الحسم.
لكن دعونا نسأل أنفسنا: ما الذي تتوقع روسيا أن تكسبه فعلياً من هذا التدخل؟
علينا أن نتذكر أن الإستراتيجيات الروسية قد تكون خاطئة في بعض الأحيان لكن لا توجد أي مبادرة عسكرية روسية خالية عن الإستراتيجية. روسيا ببساطة ترد على أحداث تهدد مصالحها في سوريا وبخلاف ردات الفعل الأمريكية بعد اجتياحات تنظيم داعش الواسعة عام 2014 فإن ردة الفعل الروسية تشتمل على إستراتيجية متماسكة، وليس علينا إلا أن نحاول التوصل إلى معرفتها.
موسكو بكل تأكيد لا تعتقد أن الجيش السوري النظامي قادر على هزيمة جميع الثوار واستعادة كامل الأراضي السورية حتى مع المعونة الروسية والإيرانية، ولا ينوي بوتين أن يزج بعدد كبير من القوات الروسية في حرب برية ضارية ودموية في سوريا، أما بالنسبة لإيران فبالرغم من التقارير غير المؤكدة حتى اللحظة عن وجود بضعة آلاف من عناصر حرسها الثوري على الأراضي السورية فمن غير المرجح أيضاً أن ترغب في الزج بأعداد كبيرة من قواتها في حملة عسكرية طويلة لاستعادة كامل الأراضي السورية. أما الجيش السوري النظامي فببساطة لا يمتلك العدد الكافي من الرجال حتى يسيطر على أكثر من الأراضي التي يسيطر عليها حالياً.
إذن فلا يمكن للروس أن يتوقعوا من تدخلهم هذا أكثر من إبعاد الثوار عن مناطق نفوذ النظام الأساسية وإعادة الحرب إلى وضع الجمود المقلقل الذي كانت عليه قبل ربيع 2015، ولربما يكون استعادة النصف الذي سيطر عليه الثوار من مدينة حلب زيادة حسنة وإن كانت غير جوهرية بالنسبة للإستراتيجية الروسية. ما هو جوهري هو إعادة إحكام سيطرة النظام على “سوريا المفيدة” واستغلال عودة حالة الجمود للتوسط من أجل اتفاق لوقف لإطلاق النار مع جميع فرقاء الثورة السورية باستثناء داعش (إذ إنه من غير المحتمل أن يوافق تنظيم داعش على وقف لإطلاق النار كهذا ولن يرغب أي من اللاعبين الآخرين منه أن يوافق على جميع الأحوال إذ سيفضلون تركه محاطاً بأعداء يركزون جهودهم على إضعافه وربما تدميره آخر الأمر).
إذا ما تم الاتفاق على هكذا وقف لإطلاق النار فسوف تتحقق جميع الأهداف الرئيسية التي نسبتها واشنطن إلى التدخل الروسي: سوف تحافظ روسيا على قاعدتها البحرية في طرطوس وستعزز أيضاً مكانتها الدبلوماسية وستؤكد أهميتها كدولة عظمى. كذلك إذا أراد الغرب المساهمة في صنع وفرض وقف إطلاق النار هذا فستشكل سوريا عندئذ ورقة مساومة يمكن لروسيا أن تستخدمها للمطالبة برفع العقوبات المفروضة عليها نتيجة تدخلها في أوكرانيا. لكن النتيجة الأهم لوقف إطلاق النار هذا هو أنه سوف يضمن عدم حصول نصر حاسم للجهاديين يؤدي إلى تقاسم جبهة النصرة والدولة الإسلامية السيطرة على كامل سوريا، وستكون النتيجة المباشرة لهذا النصر هي مجازر يتلوها نزوح جماعي لجميع الأقليات بالإضافة للمسلمين السنة الذين تعاونوا مع النظام (وتقدر أعدادهم بمليون شخص على الأقل) مع جميع عوائلهم. قد ترغب روسيا أكثر من غيرها بالحيلولة دون حصول هذه النتيجة لأن وجود نظام جهادي في دمشق سيشجع بكل تأكيد المسلمين الروس (البالغ عددهم حوالي 8% من مجموع سكان البلاد) على الجهاد في بلدهم.
بالرغم من ردات الفعل الغربية المناهضة لروسيا فلا أرى شخصياً في مجموعة النتائج هذه أي شيء يضر بالمصالح الغربية الجوهرية، بل على العكس التام: فمنع نصر جهادي في سوريا أولوية غربية بقدر ما هي روسية رغم أن تحالفات الغرب في المنطقة والتزاماته السابقة تمنعه بكل تأكيد من اتخاذ أي فعل حاسم للحيلولة دونه. بل لربما كان هذا ما يشير إليه الرئيس أوباما حين قال في أوائل تشرين الأول 2015 إن “هذه ليست منافسة بين الولايات المتحدة وروسيا، ومن مصلحتنا أن تكون روسيا طرفًا فاعلاً على الساحة العالمية لتشاركنا أعباءنا لأن مشاكلنا كبيرة”[54]. لا أظن أنه من الممكن لأوباما أن يتحدث بصراحة أكثر من هذه ضمن المحيط السياسي الحالي في واشنطن، ولكن بعيداً عن الآراء والمشاعر تبقى الحقيقة الموضوعية هي أن المصالح الروسية والأمريكية تتلاقى في سوريا إلى حدٍّ كبير: كل من البلدين يريدان تجنب نصر جهادي وكل منهما يريدان عزل دولة داعش كما أن كلاً منهما يريدان إنهاء القتال على أساس خطوط التماس الحالية.
عملياً سيعني هذا تقسيم سوريا إلى ثلاثة أجزاء، لكن هذا التقسيم واقع بالفعل حالياً ولا يمكن تجنبه إلا من خلال نصر جهادي حاسم على نظام الأسد. بعد وقف إطلاق النار قد تتمكن جبهة النصرة وحلفائها الإسلاميين من أحرار الشام وغيرهم من تعزيز سلطتهم في القسم الشمالي الغربـي من البلاد لتتحول إلى “دويلة” يقودها الجهاديون وقد لا تتقبل هذه الدويلة وجود العدد القليل من السكان غير السنة فيها. أما “سوريا المفيدة” تحت قيادة الأسد فلن يزيد عدد سكانها من المسلمين السنة عن النصف خاصة بعد هرب عدد كبير من سكان تلك المناطق، ولكن سوف تعاني هذه الدويلة أيضاً في محاولاتها لإعادة الإعمار وربما دون أن تتلقى الكثير من المعونات المالية من روسيا وإيران اللتين تعانينان من مشاكلهما الاقتصادية الخاصة. وسوف تستمر العمليات العسكرية بشكل أو بآخر على حدود الدولة الإسلامية كما ستزداد وتيرة هجمات تنظيم داعش الإرهابية خارج حدود المناطق التي يسيطر عليها. وسيظل مستقبل سوريا على المدى البعيد غير واضح ولكن على الأقل يمكن لهذه الحرب أن تتوقف.
هذه أفضل النتائج التي قد نأمل بها من تدخل روسيا وإذا سارت جميع الرياح بحسب ما تشتهيه سفن موسكو. لكن بالمقابل توجد الكثير من الطرق التي يمكن بها لإستراتيجية روسيا أن تبوء بالفشل، كما أنني حتى الآن لا أرى أي إستراتيجية أمريكية واضحة. لذلك لا يزال من المحتمل أن تكون النتيجة النهائية هي الانهيار التام للجيش النظامي السوري وإنشاء دولة جهادية على كامل أراضي سوريا (مع أن التوحيد الكامل لهذه الأراضي سيكون عليه أن ينتظر النتيجة النهائية للحرب التي ستندلع بكل تأكيد بين جبهة النصرة والدولة الإسلامية).
بل ومن الممكن للجهاديين أن يلحقوا بالموجات الكبيرة من اللاجئين التي سيتسبب بها نصرهم باسطين سيطرتهم على أجزاء من الدول الأخرى المجاورة لسوريا، بالطبع ستكون روسيا قد انسحبت مع ذلك الوقت ولربما ترغب إسرائيل عندها بالتدخل لمنع جبهة النصرة أو تنظيم داعش من التواجد بالقرب من حدودها مباشرة. لا توجد حلول سهلة للمشكلة التي تسبب بها نشأة تنظيم داعش وجبهة النصرة (إلا إذا كان لدينا آلة زمن تعيدنا إلى سنة 2003، فعندها سيكون الحل ببساطة عدم غزو العراق). لكن بالرغم من كل ما قيل فالنصر الجهادي في سوريا سيكون مشكلة قومية وإقليمية لا عالمية، أي أنه سيكون أقرب إلى نصر الخمير الحمر في كامبوديا في سبعينيات القرن الماضي منه إلى وصول هتلر إلى سدة الحكم في ألمانيا (التي كانت ثالث قوة صناعية في العالم وقتها) في الثلاثينات.
ستكون سوريا إذا حكمها الجهاديون جاراً في غاية العدوانية لجيرانها تركيا والسعودية والأردن ولبنان وإسرائيل. كما ستكون تهديداً بعيداً بعض الشيء على باقي الدول العربية غير المجاورة لها، ولكن بالنسبة لباقي أرجاء العالم فلن تتجاوز كونها عامل إزعاج كبير. سنعاني بكل تأكيد من المزيد من العمليات الإرهابية في البلاد الغربية وروسيا وربما بعض الدول الأخرى ولكن علينا دائماً أن نميز بين مشكلة مزمنة -ولكن قابلة للاحتواء- وبين التهديد الوجودي، صحيح أن الجهاديي