هذا الفصل بعنوان:

الإيقاظ 

وصل (أحمد) إلى محطّة تحت أرض (بارذ) في صبيحة اليوم التّالي بعد أن حصل خطأ فنّي بالقطار جعله يتوقّف لفترة تتجاوز الخمس ساعات إضافة إلى تأخّر فريق التّصليح ممّا جعل الفتى يبيت تلك اللّيلة في إحدى المقطورات ثمّ ركب قطارا –فرعيّا- متوجّها نحو قريته ليصل إلى هناك مع بداية يوم جديد.

كان الفتى يهرول على تلك الطّريق التّرابيّة المحاطة بالحقول على كلا جانبيها حاملا حقيبته و الحماس بنبض داخل قلبه كأنّه صوت ضرب الرّعد في السّماء.

"أخيرا !، قال (أحمد) في نفسه و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة، لقد عدت"

***

"ما الذي تقوله يا هذا ؟" صرخت امرأة تبدو في منتصف الأربعينات من عمرها لكنّها كانت لا تزال تحتفظ ببعض جمال شبابها، تلبس لباسا تميّز بلون أخضر داكن يحمل نقوشا بيضاء غريبة حيث كان شبيها بلباس (جيلال), صديق العمّ بلال مع نظّارات ذات عدسات سوداء مستديرة تخفي عينيها و حقيبة جلديّة جانبيّة على كتفها الأيسر. كانت ذات وجه أسمر البشرة  يتّسم بالقوّة رغم جماله إضافة إلى شعرها الأسود القصير المنسدل على جانبي رأسها و على جبينها.

كانت تخاصم بائع غلال -تميّز بشارب أسود خفيف و وجه أبيض سمين- على ثمن تفّاح أرادت شرائه قائلة: "خمس قطع رانيد فضيّة من أجل أربع تفّاحات ! هذه سرقة" بينما كان البائع المسكين يحاول تهدئتها و قد تورّدت وجنتاه السّمينتان قائلا:"سيّدتي أرجوك إنّ هذا هو الثّمن المتعارف عليه بكامل المنطقة".

بعد أخذ و ردّ تركت المرأة خناق البائع مستسلمة لثمن التّفاحات متمتمة بصوت غاضب: "ما هذا المكان الغبيّ ؟" و هي تقوم بعضّ واحدة و إلقاء البقيّة في حقيبتها ثمّ بدأت بالتّمشي في بقيّة السّوق ثمّ استوقفت رجلا عجوزا قائلة: "عذرا يا سيّدي..هل تعرف أين يعيش (بلال  ماجِيَرْ) من فضلك ؟ "

أجابها الرّجل بأنّ (بلال) الذي تبحث عنه يعيش في الجهة الشّرقيّة من القرية.

"ماذا يريد منّي ذلك الأحمق بعد كلّ هذه السّنوات ؟، قالت في نفسها، أوّلا يبتعد عن (أبرادا) لسنوات و الآن يبعث رسالة بأنّ عليّ القدوم إلى هنا بسرعة ..."

***

بعد تحيّته في طريقه للعديد من سكّان القرية الصّغار منهم و الكبار وصل (أحمد) أمام المقهى ثمّ دخل بحثا عن عمّه ليخبره نادل بأنّه ذهب منذ ساعة إلى المنزل فانطلق إلى المنزل جريا و وصل أمام الباب فاتحا إيّاه ثمّ دخل قائلا: "عمّي..لقد عدت..أين أنت ؟ لماذا المكان مظلم هنا ؟ " و فور غلق الباب تغيّرت أجواء المكان تماما.تحوّل كلّ شيء حوله إلى الأبيض و الأسود و بدأ صمت قاتل يحوم بالأرجاء إضافة إلى قشعريرة انبعثت من قدميّ الفتى وصولا إلى بقيّة أرجاء جسده وعندها لمح أسوا مشهد شاهده في حياته.

كان (الشيء الأسود) يمسك برقبة العمّ (بلال) عبر ذراع سوداء امتدّت منه.  فور تلاقي عيني (أحمد) بعيني الكيان الغريب المخيفتين صرخ مخرجا الجناح الفضّي و أطلق نحوه العشرات من الأوراق لكنّ سرعتها راحت تتباطأ  إلى أن توقّفت طافية في الفضاء بمنتصف الغرفة دون أن تصل إلى هدفها.

كانت لحظات مخيفة فحسب، لحظات لم يتخيّل الفتى يوما بأنّها قادرة على الحدوث. جرى )أحمد( نحوه بكلّ ما أوتي من قوّة صارخا : " عمّي !"  لكنّ مجال الطّاقة الصّادر من هالة الشّيء الأسود الأرجوانيّة  شلّ حركته تماما.

"أ..ح..مد"، قال (بلال) بصوت ضعيف متقطّع و هو ينظر إلى الفتى بعينين يملؤهما الحزن و الخوف.

في تلك الأثناء كانت المرأة صاحبة النظّارات السّوداء تتجوّل في الحيّ القريب من المنزل. عندها تحسّست هالة (فيتاي) قويّة  قائلة في نفسها: "ما الذي يحدث ؟ مثل هذه الطّاقة المخيفة في مكان كهذا ؟"

تتبّعت مصدر تلك الطّاقة ثمّ ركلت الباب بقوّة جعلته يتحطّم لأشلاء لتجد الفتى و عمّه مختنقين بواسطة مجسّات (الشّيء الأسود) التي كانت تعتصر رقبتيهما عصرا.

"آ..غ..نيس"، قال (بلال) بكلّ ما تبقّى له من قوّة قبل أن يغمى عليه تماما.

تقدّمت المرأة نحو الكيان بسرعة لكنّ مجال الطّاقة شلّ حركتها مثل (أحمد).

"عليّ فعل شيء ما"، قال الفتى في نفسه و مشاعر الإحباط و الخوف و الغضب تزداد تأجّجا داخله ثمّ أغمي عليه.

ظهرت هالة خضراء غلّفت جسد (آغنيس) ثمّ بدأت بالتحرّك ببطء و فجأة تحرّرت تماما من قيود إبطاء الزّمن الخاصّة بالشّيء الأسود قائلة :"أتظنّ أنّ تلك الفيتاي الحقيرة خاصّتك ستستطيع إيقافي ؟" ثمّ قامت بعمل يديها على شكل قبضتين وجّهتهما نحو الأعلى فخرجت صخور من الأرض لتقوم بضربها متحوّلة إلى عدّة أشلاء حادّة  ثمّ انطلقت نحوه بسرعة لتصيبه في عدّة أماكن من جسده لكنّه أظهر بلمح البصر ثقوبا سوداء مبتلعة إيّاها بسهولة.

***

في تلك الأثناء...

وسط الظّلام إنطلقت ألسنة اللّهب على شكل دائرة محيطة بأحمد.

"ماذا ؟ هل أنا في ذلك الحلم الغريب مجدّدا  ؟ هل أغمي عليّ ؟، قال أحمد،عليّ أن أعود"

 ثمّ ظهرت العنقاء فصرخ الفتى قائلا: "ماذا تريدين منّي ؟ دعيني أعود إلى هناك..عمّي في خطر شديد"

رفع الوحش النّاري جناحيه الواسعين رادّا: "لقد حان وقتك أيّها الأصيل كي يتمّ إيقاظك..لقد اخترتك لكي تحمل قوّتي..قوّة العنقاء".

***

انطلق شعاع مبهر من يد أحمد حيث احترق القفّاز و ظهر الوشم على شكل مثلّث مكتمل مشعّا بلون برتقالي ثمّ غُلّف جسده بهالة كبيرة تحمل نفس اللّون.

"ما هذا ؟"، صرخت آغنيس ثمّ قالت في نفسها : "من يكون هذا الفتى ؟ و ما هذه الطّاقة ؟ هل يعقل أن يكون..أصيلا ؟"

انسحبت الذّراع السّوداء التي كانت تخنق (أحمد) إلى جسد (الشّيء الأسود) كأنّها احترقت ممّا جعل الفتى يسقط على الأرض و هو يسعل ثمّ نظر نحو الكيان بعينين قد تغيّر لونهما إلى الأصفر.

كانت عينا الكيان الغريب تدلاّن على التفاجئ لكن سرعان ما تغيّرت تلك النظرات إلى الغضب حيث ازدادت هالته الأرجوانيّة هيجانا كأنّه يستعدّ لهجوم قادم.

كانت عينا الفتى تحملان مشاعر الغضب كأنّه شخص آخر تماما ثمّ أطلق صرخات تحوّلت إلى دوائر حمراء جعلت المكان يهتزّ كأنّه على حافّة الانهيار، مخلّفة تشقّقات على الأرض و بلمح البصر توقّفت قوى كلّ من (آغنيس) و (الشّيء الأسود) في آن واحد حيث اختفت هالتاهما و معهما اختفت ألسنة اللّهب السّوداء المحيطة بذلك الكيان مظهرة مكانه شخصا نحيفا و طويلا مرتديا قناعا و عباءة أسودين بينما سقط العمّ (بلال) على الأرض.

"هذا لا يصدّق !، قالت المرأة في نفسها، لقد أبطل قوانا"

بعد إطلاقه لذلك الصّراخ سقط الفتى مغمى عليه. بعد لحظات استعاد (الشيء الأسود) هالته فقام بسرعة بصنع ثقب أسود أسفل (بلال) ليغرق داخلها ثمّ اختفى في لمح البصر.

***

إنّها الثّامنة ليلا...على متن قطار ما خاصّ بالعامّة، فارغ من النّاس...

"أوووي أيّها الفتى..،قالت آغنيس محاولة إيقاظ (أحمد) الذي كان ممدّدا على كرسيّ القطار فاقدا لوعيه تماما، ألن يستفيق هذا الولد ؟..تبّا..لقد سمعته يقول أنّ بلال هو عمّه..ذلك الأبله لديه ابن أخ يعمل ساحرا..يا ل سخرية القدر" ثمّ صرخت في وجهه قائلة : ماااااااااااااجِيَرْ !"

فجأة بدأ يسعل فاتحا عينيه ببطء ثمّ قال محاولا النّهوض: "أين..أنا ؟ ما..لذي حدث ؟..جسدي يؤلم بشدّة."

"عمّي !، صرخ الفتى متذكّرا ما حدث،عليّ العودة..عمّي في خطر..عليّ إنقاذه" فأجلسته آغنيس برفق.

"لقد هرب"، أجابته المرأة بنبرة يملؤها الغضب ثمّ تغيّر صوتها إلى نبرة حزينة حاولت جاهدة إخفاءها "هرب و معه..بلال"

تمدّد الفتى من سدّة الألم واضعا ذراعه على عينيه، محاولا إخفاء دموعه قائلا بصوت ينمّ عن تعاسة شديدة :"لماذا هذا يحدث لي ؟...أوّلا والداي و الآن عمّي.."

كانت لحظات حزينة تقشعرّ لها الأبدان، لحظات لم تجد آغنيس فيها طريقة لتروّح عن أحمد.

"سنجده...، قالت و قد تغيّرت ملامح وجهها إلى غضب خالص، سنجدهم و سنقضي على كلّ من كان خلف هذا الأمر..أنا أعدك"

كانت ليلة باردة و حزينة امتزج فيها صوت احتكاك عجلات القطار و صوت الصفّارة العالي بأنين أحمد الذي لم تتوقّف الدّموع السّاخنة عن الانهمار من عينيه.

***

في تلك الأثناء و في مكان مظلم  بالعاصمة (أوازيس)...

انبثقت بوّابة سوداء ثمّ أغلقت بعد أن خرج منها الشّيء الأسود الذي ركع على الأرض أسفل ضوء القمر في صمت.

"تينيبريس...، قال رجل كان يجلس فوق عرش حجريّ، أخيرا قد أتيت"

اختفت ألسنة اللّهب السّوداء المحيط بالشّيء الأسود ثمّ رفع عن رأسه قلنسوّة عباءته و نزع القناع عن وجهه مظهرا وجه رجل شابّ أبيض البشرة، ذي شعر أسود طويل منسدل على كتفيه و عينين واسعتين ذات لون أصفر مع وحمة سوداء أسفل عينه اليمنى و أنف دقيق. وراء نلك العباءة ظهرت بذلة فخمة زرقاء اللّون حيث زُيّنت عقدة ربطة العنق بجوهرة فيروزيّة.

-"هل سار كلّ شيء على ما يرام ؟، سأله الرّجل

-"نعم سيّدي، أجابه (تينيبريس) بصوت يجمع بين الهدوء و التّوازن و الحزم، لقد قاومني الهدف لبعض الوقت لكنّه استسلم في النّهاية."

-"هذا جيّد..جيّد جدّا"

جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل السّابق

الفصل التّالي