هذا الفصل بعنوان:

تيقاسلا..بلدة الذّكريات 

كان منظرا جميلا بحقّ...الشّمس الخريفيّة  تشعّ بقوّة -على غير عادتها- جاعلة زرقة البحر أجمل من أيّ وقت مضى..قطار هوكوشين ينطلق على سطح الماء ماخرا عباب البحر، جاعلا الزّبد منتشرا في كلّ مكان،لكن لن يستطيع أحد من الخارج  رؤية ذلك بسبب غلاف الإخفاء الخاصّ بالقطار.

غلاف الإخفاء: هو حقل طاقة يمنع رؤية القطار حيث يحيطه بمجال يقدّر بخمسة أمتار على الأقلّ.

-"إذن يا جماعة سنصل قريبا إلى محطّة (سيدوس)، قال (دانيال)، و عليّ أن أتأكّد جيّدا أنّنا جميعا نمتلك شيفرات بعضنا البعض كي نكون على اتصال بواسطة ال(هايلو) لذا هل الجميع يمتلك شيفرات الجميع ؟"

 -"نعم"، أجابه البقيّة مبتسمين

-"حسنا هذا جيّد " ثمّ أضاف قائلا: "أتعرفون يا جماعة ؟، طيلة هذه السّنوات الثّلاث لم أسألكم من أين أتيتم."

-"ماذا هل تريد زيارتنا قريبا ؟، ردّ (مادوكا)، ألم تملّ من وجوهنا بعد ؟"

عندها ضحك الجميع بينما ابتسم (دانيال) مجيبا:

-" لا كلّ ما في الأمر أنّني استغربت من عدم سؤالي هذا السّؤال من قبل"

-"حسنا دعوني أنا أبدأ أوّلا، قال (أحمد)، أنا من قرية صغيرة تقع بالمنطقة رقم 6 تسمّى (الجبل الأخضر)"

-"أنا من ميتم يقع بالمنطقة رقم 19"، قالت (رايلين) غير مكترثة.

-"أنا..أنا من ميتم أيضا، قالت (إميلي)، بالمنطقة رقم 16"

-"و أنا من (ساغيف)، قال (دانيال)، أظنّكم تعرفونها جيّدا".

-"نعم..نعم لا تتعب نفسك بالشّرح..الجميع يعرف مدينة الأضواء، المدينة التي لا تنام و المدينة الأمّ للعديد من المخترعين و المثقّفين إلخ..إلخ"،أجابه (مادوكا).

-"أظنّها تقع بالمنطقة رقم 11 القريبة من العاصمة (أوازيس) أليس كذلك ؟"، قال (أحمد).

-" أجل، أجابه (دانيال)، إنّها مدينة رائعة بحقّ عليكم جميعا بزيارتها"

 ثمّ أضاف ملتفتا نحو (مادوكا) :

-" و أنت أيّها المتحاذق من أين أتيت ؟"

-"أنا من قرية تقع بالمنطقة رقم 13 يا جميل "، أجابه (مادوكا) مبتسما.

أخرج (دانيال) جهاز ال(هايلو) الخاصّ به قائلا :

-"حان وقت تجربة هذا الشّيء" ثمّ قال:" تشغيل..أنا السّاحر صاحب الشّيفرة 11x9f".

أضاء الهايلو فجأة مجيبا بصوت رجل عجوز:"تمّ التعرّف على الصّوت و تأكيد الشّيفرة. أهلا بك سيّد (دانيال آينجل). بماذا يمكنني أن أخدمك ؟".

كان الجميع مبتسما محاولين إخفاء مدى تعجّبهم من تلك الأداة العجيبة".

-"أليس الأمر رائعا يا جماعة ؟"، قال (دانيال).

-"أنا كذلك سيّدي "، أجابه الهايلو

-"أريد أن أعرف وجهات كلّ قطار بمحطّة (سيدوس)"

أجابه الهايلو على الفور : " جاري البحث..." ثمّ أضاف بعد لحظات :

-" القطار B13 ينطلق في اتجاه الشّمال الشّرقي ماراّ بالمنطقة رقم 8,7,6,5

القطار A76 ينطلق في اتجاه الشّمال الغربي مارّا بالمنطقة رقم 1,2,3.

القطار K24 ينطلق في اتجاه الشّرق مارّا حول العاصمة ثمّ المنطقة رقم 9,10,11.

القطار W95 ينطلق في اتجاه الجنوب الشّرقي مارّا حول العاصمة ثمّ المنطقة رقم 23,24,21,22.

القطار O54 ينطلق في اتجاه  الغرب و الجنوب الغربيّ  مارّا بالمنطقة رقم 16,14,15,17,13,18,19,12.

القطارX4  ينطلق مباشرة نحو العاصمة مع إجباريّة إحضار  تصريح خاصّ أو إمتلاك  رخصة من المستوى  A فما فوق S..أيّ طلبات أخرى سيّدي ؟"

-"لا. إغلاق"،أجابه )دانيال( ثمّ التفت إلى أصدقائه بعينين متحمّستين :"هذا ما يمكنني تسميته بالمذهل أليس كذلك ؟"

-"إذن..ن-نحن الثّلاثة على نفس القطار "، قالت (إميلي) ملتفتة إلى (رايلين) و (مادوكا).

-"نعم سنكون على متن O54"،ردّت (رايلين)

-"يا ل حظّي العاثر سأكون وحيدا على متن K24"، قال (دانيال) بصوت حزين ثمّ أضاف ملتفتا نحو (أحمد) :

-"أنت أيضا ستكون وحيدا على متن B13"

-"في الحقيقة، سأذهب على متن A76"، أجابه (أحمد)

-"ماذا؟ ألم تخبرني أنّك من المنطقة رقم 6"

-"أجل لكن لديّ بعض الأعمال بالمنطقة رقم 1 قبل العودة إلى منزلي"

-"غريب...أنت لم تعد لمنزلك منذ ثلاث سنوات و تريد الذّهاب إلى مكان ما أوّلا ؟"

-"أجل هناك شخصان عليهما أن يعلما بأمر تخرّجي قبل عمّي"

توقّف (دانيال) عن الحديث مع صديقه للحظات ثمّ التفت إلى البقيّة محادثا إيّاهم فلقد علم وقتها أنّ صديقه يقصد والديه المتوفّيين اللّذين حدّثه عنهما منذ وقت طويل.

ظلّ (أحمد) ينظر من خلال النّافذة إلى البحر متذكّرا أمر الرّسالة التي بعثها له عمّه المرفقة مع المفتاح.

عزيزي أحمد.

لقد مرّت ثلاث سنوات الآن على رحيلك عن قريتنا، الجميع هنا يرسلون إليك سلامهم كما أنّهم يقولون بأنّهم مشتاقون لرؤيتك.

أنا أيضا قد اشتقت إليك و أتمنّى أن تأتي إلى هنا في أسرع وقت ممكن لكن عليّ أن أطلب منك أن تذهب إلى مكان ما قبل أن تأتي إلى هنا مباشرة.  

بحلول ربيعك الثامن عشر ستمرّ ثماني سنوات على ذلك اليوم المشؤوم، اليوم الذي فقدت فيه والديك لذا يجب عليك أن تزور قبريهما كي تخبرهما بأمر تخرّجك فحتّى الأموات لديهم الحقّ في سماع أخبار أحبّائهم. 

بعد أن تقوم بزيارتهما عليك أيضا أن تذهب لزيارة ذلك المنزل فهو ملكك الآن و هنا أنا أعطيك مفتاحه مع هذه الرّسالة.  

أنا آسف لأنّني لن أكون معك لكن لا تقلق فالذّكريات الحزينة لا يمكنها قتلك بل ربّما ستجعلك أكثر نضجا إن أنصتّ لها.

                                                                                             مع قبلاتي

                                                                                                          عمّك

بعد أن وصل القطار إلى محطّة (سيدوس) افترق الأصدقاء مودّعين بعضهم البعض و ذهب كلّ واحد منهم إلى القطار الخاصّ به.

-"اعتني جيّدا ب(الجناح الفضّي)"، قال (دانيال) مودّعا صديقه.

-"لا تقلق سأقوم بتفكيكه و تنظيف أجزائه أسبوعيّا"، أجابه (أحمد).

-"عندما أعود إلى المنزل سأحاول تعديل تصميمه مرّة أخرى و إن وجدت أيّ شيء سأقوم بمراسلتك عبر ال(هايلو)"

-"حسنا"

***

توقّف القطار رقم A76 الخاصّ ب(أحمد) مطلقا صفّارته ثمّ فتح أبوابه.

خرج الفتى من القطار واضعا يده على رقبته محاولا طقطقتها قائلا: "ها قد وصلت إلى المنطقة رقم 1، مدينتها الرّئيسيّة تدعى (فاكلا) حسب ما أتذكّر" ثمّ أضاف بعد أن نظر إلى ساعة المحطّة الحائطيّة: "إنّها السّاعة الحادية عشرة، أظنّ أنّ بإمكاني الوصول إلى بلدة (تيقاسلا) خلال ساعة  ثمّ القيام بزيارة والديّ و المنزل خلال ساعة ثمّ العودة هنا عند السّاعة الثانية بعد الظّهر ثمّ أعود إلى قريتي لأصل إلى هناك ليلا. أظنّها  خطّة جيّدة ".

حمل (أحمد) حقيبته و صعد أحد الأدراج المنتشرة حول المحطّة ثمّ فتح الباب ليجد نفسه في محلّ صغير للخياطة. نظر إلى جانبه الأيمن فوجد صاحب المحلّ الذي كان منشغلا بدفتر حسابات.

 كان رجلا عجوزا أصلع، قصير القامة، قمحيّ البشرة مع تجاعيد نُقشت على جبينه و جانبيّ فمه، تميّز بشارب أبيض كبير أحسن فتله قد تمركز بمنتصف وجهه مخفيا منخري أنفه الحادّ و شفتيه بالكامل و عينين اختفتا في ظلام محجريهما كما كان يرتدي بذلة زرقاء داكنة و ربطة عنق من نوع الفراشة. حيّاه الفتى مكملا مسيره خارج المكان.

-"أيّها السّاحر الشّابّ"، أوقفه صوت الرّجل العجوز

-"نعم سيّدي"

-" هل يمكنني أن أستعير لحظة من وقتك ؟"

-"نعم تفضّل"

-"أرجو منك أن تتبعني"

توجّه العجوز إلى باب ظنّه الفتى خزانة صغيرة لوضع أدوات التنظيف أو الأشياء القديمة ثمّ فتحه ليجد غرفة واسعة و برّاقة علّقت بداخلها العديد من الملابس من بدلات و أحذية و معاطف و إكسسوارات و غيرها الكثير...

-"واااا هذا مذهل "، قال الفتى بحماس

-"يمكنك اختيار ما تريد أيّها السّاحر الشّاب "

الامتياز رقم 002:  لكلّ ساحر من المرتبة   فما فوق الحقّ في الحصول على ملابس و أدوات من أيّ محلّ معدّات تابع لمنظّمة السّحرة في كلّ المملكة. هذه الملابس تمتلك حقل طاقة دفاعيّ كالذي يوجد في عباءات التّدريب الخاصّة بطلّاب (هوكوشين).

"أوه!  نسيت تماما أمر هذا الامتياز..عليّ حقّا قراءة فصل الامتيازات في كتيّب قوانين مجتمع السّحرة جيّدا..لقد حان وقت نزع ملابس هوكوشين إلى الأبد، قال الفتى في نفسه و الفرحة تغمر كامل أنحاء جسده ، الآن سألبس مثل السّحرة الحقيقيّين..مثل (كابرا)."

بعد لحظات خرج الفتى من غرفة تغيير الملابس حيث ارتدى بذلة سوداء ذات قميص أبيض و صدريّة مخمليّة رماديّة ذات ستّة أزرار فضيّة متوازية  دون أن يلبس ربطة عنق كعادته ثمّ أتى العجوز حاملا معطفا طويلا رماديّا وقفّازين أسودين من الجلد قائلا: "اختيار موفّق" ثمّ قدّمهما له مضيفا : "ارتدي هذه فالطّقس بارد في هذه المنطقة"

"جيّد هذه القفّازات ستغنيني عن الضّمّادات التي أغطّي بها ذلك الوشم"، قال الفتى في نفسه شاكرا الرّجل. 

-"عذرا سيّدي، أنا أحتاج شيئا آخر، قال )أحمد( بخجل حاملا )الجناح الفضّي( بين يديه، أحتاج حاملا لأداتي هذه فحاملي السّابق )الذي يوضع مع الحزام ( لا يلائم ملابسي الجديدة ثمّ إنّه قد إهترأ و أصبح قديما."

-"معك حقّ"، أجابه الرّجل ملامسا شاربه الأبيض، لديّ ما تحتاجه"

خلال لحظات عاد العجوز بحامل خاصّ بالمسدّسات كالّذي يرتديه رجال العصابات ) يُلبس بطريقة تجعل الحامل تحت الإبطين(.

شكره الفتى مبتسما قائلا في نفسه: "لطالما كرهت اعتبار الآخرين ال(الجناح الفضّي) كمسدّس أو سلاح."

لبس الفتى الحامل واضعا أداته في الجهة اليمنى بينما وضع في الأخرى مخزني ورق و أنابيب إضافيين ثمّ أكمل مسيره خارج المحلّ بعد أن شكر العجوز على صنيعه.

***

كانت المدينة كبيرة و شبيهة بمدينة (بارذ) بطقسها البارد و هوائها الجافّ و صوت صفير الرّياح و أصوات المارّة و الباعة و بقايا الثّلج على الأرصفة.

كان (أحمد) يسير في الطّريق متّجها نحو محطّة القطار دون أيّ تردّد بينما تتدفّق الذّكريات من أعمق أماكن داخل عقله و أظلمها طافية في عينيه، جاعلة إيّاه يتذكّر تلك المرّات التي كان يذهب فيها مع والديه إلى هذه المدينة.

وصل إلى المحطّة فذهب إلى لوح كتب عليه جدول مواعيد القطارات فوجد أنّ قطار )تيقاسلا( قادم بعد ربع ساعة. اشترى تذكرة ثمّ جلس و ظلّ ينتظر قدومه في صمت محدّقا بالسّكّة الحديديّة  بينما كانت تلك الذّكريات تمرّ أمامه عن تلك المرّة التي لحق فيها هو و والداه  بقطار )تيقاسلا( في اللّحظة الأخيرة حيث قفز والده أوّلا ثمّ أمسك بيد والدته جاعلا إيّاها تقفز لتحطّ واقفة بقربه ثمّ أمسكه هو من جذعه بكلتا يديه ليضعه بقربه .

أتى القطار فصعد (أحمد) على متنه جالسا قرب النّافذة، محدّقا بالحقول الخضراء المحيطة بالسكّة من كلّ جهة و ظلّ غارقا في كلّ تلك الذّكريات كأنّه داخل بحر مظلم معدوم القاع يجعله يشعر بالتّعب و النّعاس...

***

انطلقت صفارة القطار معلنة وصوله إلى بلدة )تيقاسلا (فأفاق الفتى من قيلولة جعلت رقبته تؤلمه مرّة أخرى ثمّ خرج و بدأ بالسّير ببطء متّجها نحو الضّواحي حيث يقع المنزل الذي لم يزره أبدا منذ ثماني سنوات.

طوال الطّريق لم يستطع الفتى كبح جماح تلك الذّكريات: بعض المشاهد الشبه مظلمة لصباح ذلك اليوم حيث قبّله والداه قبل أن يذهبا إلى مدينة )فاكلا( و  صدى لأصوات بكاء متناثرة هنا و هناك ثمّ صورة عمّه و هو يخبره بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام.

كلّما زاد الفتى خطوة على الطّريق ازداد غرقه داخل بحر الذّكريات وازداد معه ألم يخترق صدره ممّا جعله يتوقّف عند شجرة محاولا التقاط أنفاسه...

***

-"سيّدي..هل أنت بخير ؟"، سألته فتاة صغيرة تبدو في الخامسة من العمر، ذات وجه أبيض صاف كالحليب مع حمرة طفيفة على خدّيها و نمش نٌثر على أنفها الصّغير، شعر فحميّ قصير صُفّف على شكل ضفيرتين على جانبيّ رأسها و عينان ذات لون بنيّ داكن مع حاجبين غليظين. كانت ترتدي ثوبا أزرق سماويّ بدا قديما بعض الشّيء و جزمة بنيّة اللّون .

ظلّ (أحمد) يحدّق في وجهها دون أن ينبس بأيّ كلمة قائلا في نفسه:"من تكون هذه الفتاة ؟ لماذا أشعر و كأنّني أعرفها منذ زمن طويل ؟"

-"سيّدي ؟ّ هل أنت أحد الرّجال الأشرار مختطفي الأطفال اللّذين تحذّرني منهم أمّي دائما ؟"، قالت الفتاة

-"أ..أوه.. أنا ماذا ؟، تفاجئ الفتى مبتسما، أنا..أنا لست منهم".

-"ريم..ريم..مع من تتحدّثين ؟"، تدخّلت امرأة واقفة من بعيد. كانت شبيهة بالفتاة كأنّها نسخة أكبر سنّا منها. كانت متوسّطة الطّول و البنية مع بعض النّحافة البادية على ملامحها. ترتدي ثوبا أسود  قديما وُضع فوقه مئزر أبيض.

ابتعدت الفتاة عن )أحمد( ليظهر أمام المرأة قائلة: " أمّي كنت أتحدّث مع هذا الرّجل الشّابّ..يبدو أنّه مريض بعض الشيء."

عندها صرخت المرأة باكية: " (أحمد) !" ثمّ جرت محتضنة إيّاه قائلة: "لقد مرّ زمن طويل".

ظلّ الفتى ينظر إلى وجهها عن قرب إلى أن لمعت ذكرى داخل عقله فصرخ قائلا:" (مادي) ؟..هل أنت حقّا مربّيتي (ماديسون) ؟"

***

ظلّ الفتى و (ماديسون) و ابنتها واقفين أمام قبري آل(ماجير) الواقع وراء المنزل العملاق في صمت يخترقه صفير الرّياح الباردة.

-"لقد مرّت ثماني سنوات على ذلك اليوم"، قالت (ماديسون)

-"نعم"، ردّ (أحمد) بنبرة هادئة و حزينة.

-"عندما سمعت خبر وفاتهما لم أستطع التوقّف عن احتضانك"

-"أنا أتذكّر ذلك جيّدا..(مادي)"

-"آه  كم اشتقت إلى هذا الاسم" ثمّ نظرت نحوه بعينين يملؤهما الحبّ و الحنان :

-"لقد كبرت حقّا يا دبّي الصّغير "

عندها ضحكت الفتاة الصّغيرة.

-"ألم أخبرك سابقا بأن تتوقّفي عن دعوتي بهذا الاسم ؟"، قال (أحمد) بنبرة خجولة.

-"أوه..مازلت فتى خجولا مثلما تركتك"، ثمّ أضافت و قد غرقت عيناها بالدّموع:

-"أحيانا أتمنّى لو ظللت بقربي بدل ذهابك مع عمّك" 

عاد الفتى لتّحديق بالقبرين مجدّدا قائلا:

-" أتعلمين؟..أحيانا أنسى أنّهما ميّتان..كأنّهما ذهبا في رحلة إلى مكان بعيد..أحيانا أشعر بأنّهما سيعودان..لقد اشتقت إليهما كثيرا "

فوضعت يدها على كتفه متنهّدة:

-"ّلقد كانا يحبّانك كثيرا" ثمّ أضافت هامّة بالذّهاب إلى منزل آل(ماجير):"أظنّ أنّ عليّ تركك لتتحدّث إليهما قليلا. سأنتظرك أنا و (ريم) في حديقة المنزل. "

-"حسنا"

وقف الفتى أمام القبرين محدّقا بالاسمين اللّذان نقشا على شاهد القبر ثمّ قال:

"أهلا أبي.أهلا أمّي. لقد أخبرني عمّي بأن آتي إلى هنا لزيارتكما و أخبركما بكلّ ما حدث لي بعد ذلك اليوم المشؤوم ، قائلا أنّ من حقّكما سماع أخباري و أظنّني أوافقه الرّأي بعض الشّيء."

بدأ الفتى يروي الخمس سنوات التي قضاها في قرية  (الجبل الأخضر) مع عمّه ثمّ الثلاث التي قضاها في (هوكوشين) بينما بدأت قطرات المطر بالتّساقط من السّماء الرّماديّة ببطء.

فجأة بدأت الدّموع بالانهمار من عينيه ممتزجة بقطرات المطر على وجهه قائلا:

" أمّي، أبي...لقد تخرّجت..رغم كلّ ما حدث..أنا أحقّق حلمي..أرجو أن تكونا  فخورين بي.لا تقلقا فعمّي قد اعتنى بي جيّدا..إنّه عائلتي الوحيدة الآن."

مسح (أحمد) دموعه مودّعا والديه ثمّ  استدار ذاهبا نحو المنزل...

***

وقف (أحمد) و مربّيته السّابقة و ابنتها أمام باب منزل آل(ماجير) ذو النّقوش الجميلة  ثمّ أخرج الفتى من جيبه مفتاحا حديديّا تناثرت عليه علامات الصّدأ، نقش عليه أوّل حرف من اسم العائلة.

" حسنا لقد انتهى الجزء الصّعب. ما عليّ الآن سوى القيام بزيارة هذا المنزل ثمّ العودة إلى منزلي...منزلي الحقيقي"، قال الفتى في نفسه بينما أدار المفتاح داخل القفل الذي لم يٌفتح منذ ذلك اليوم.

فُتح الباب مطلقا العنان لصرير مخيف و محرّكا لبعض الغبار الذي جعل الفتاة )ريم( تسعل.

-"هذا هو منزل آل(ماجير)"، قال (أحمد).

-"الغبار يملأ المكان، قالت (ماديسون)، هذا حقّا محزن !" ثمّ التفتت إلى الفتى متنهّدة :

-"لقد كان مكانا عظيما بحقّ في الماضي..هل مازلت تتذكّره ؟"

-"ليس كثيرا"، أجابها الفتى ملامسا ورق الجدران المتهرئ ثمّ أضاف :"لكنّني أحيانا أتذكّر بعض اللّحظات."

-"جيّد..أحيانا تكون بعض اللّحظات أجمل من ذكريات بأكملها..إنّها كلّ ما يهمّ"

ظلّ الفتى يجول بالمكان محاولا ملامسة كلّ شيء تقريبا و الذي كان مغطّى بغبار الماضي الثّقيل.

كان يلامس ذلك الغبار كأنّه يحاول تحسّس تلك الذّكريات الشّبه مدفونة في أعمق الأماكن داخل ذاكرته و قلبه.

عثر على إطار مكسور به صورة له عندما كان رضيعا مع والديه في حديقة المنزل فقرّر أخذها معه كإثبات لعمّه بأنّه قام بزيارة هذا المنزل.

في ذلك اليوم ودّع الفتى مربّيته و ابنتها ثمّ عاد إلى قطار السّحرة متوجّها إلى مدينة )بارذ( مفكّرا بشيء واحد فقط : العودة إلى المنزل..إلى عمّه.

جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل السّابق

الفصل التّالي